الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الرابعة: حكم التَلَفُّظ بالنية
.
اختيار الشيخ: اختار أنه لا يشرع التلفظ بالنية، وأنه بدعة سيئة، فقال:"قلت لا أصل للنية باللسان للصوم، وكذا للصلاة، لا من كتاب ولا من سنة ولا من صحابي، بل هو مجرد رأي، فهي بدعة شرعية، وكل بدعة شرعية سيئة فيتعين تركها"(1).
وقال أيضا: "وأما الصلاة والطواف والصيام وغير ذلك من العبادات، فلا ينبغي له أن يتلفظ بشيء منها بالنية؛ لأن ذلك لم يثبت، ولو كان التلفظ بالنية مشروعا لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم وأوضحه للأمة بفعله أو قوله، ولسبق إليه السلف الصالح"(2).
تحرير محل الخلاف: الذي ظهر لي -والله أعلم- أن العلماء † فرقوا بين الجهر بالنية، وبين التلفظ بها، فجعلوا الجهر بالنية -أي رفع الصوت بها- غير مشروع، وقد نقل اتفاقهم على ذلك غير واحد من أهل العلم (3).
وأما التلفظ بالنية دون الجهر بها فهو محل خلاف العلماء.
وقد اتفق الجميع على: أن التلفظ بها لا يجب ولا يشترط (4) ، وأن النية محلها القلب (5) ، وأنها لا تنعقد باللفظ دون عزم القلب (6).
واختلفوا هل يشرع التلفظ بالنية مع عزم القلب، على قولين:
القول الأول: يشرع التلفظ بها في العبادات ومن ذلك الصوم.
(1) مرعاة المفاتيح 6/ 475.
(2)
المصدر السابق 8/ 425.
(3)
ينظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية 2/ 97، 103 و 22/ 218، المدخل لابن الحاج 2/ 274، مرقاة المفاتيح 1/ 42.
(4)
ينظر: مراقي الفلاح 1/ 239، المقدمات الممهدات 1/ 156، المجموع 6/ 289، المغني 3/ 112، الاتباع لابن أبي العز ص 62.
(5)
ينظر: مقاصد المكلفين للخطابي ص 24، والمجموع 6/ 289، الذخيرة 1/ 240، الأمنية في إدراك النية ص 17، والاتباع لابن أبي العز ص 62، ومجموع الفتاوى لابن تيمية 22/ 236.
(6)
ينظر: مراقي الفلاح 1/ 239، حاشية العدوي على شرح كفاية الطالب الرباني 1/ 203، المجموع 6/ 289، التوضيح لابن الملقن 2/ 176.
وبه قال: الحنفية (1) ، والشافعية (2) ، والحنابلة في المذهب (3).
القول الثاني: لا يشرع التلفظ بالنية في العبادات ومن ذلك الصوم، بل التلفظ بها بدعة محدثة.
وبه قال: المالكية (4) ، وهو المنصوص عن الإمام أحمد (5)، وهو اختيار الشيخ.
سبب الخلاف: والسبب في اختلافهم -والله أعلم-: هل ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم من تلبيته بالحج هو تلفظ بالنية، فيقاس عليه غيره من العبادات. وهل للسان مدخل في عقد النية؟ .
أدلة القول الأول: القائلين بأنه يشرع التلفظ بالنية في العبادات، ومن ذلك الصوم.
الدليل الأول: عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل عليَّ قال: «هل عندكم طعام» ؟ ، فإذا قلنا: لا، قال:«إني صائم» . فدخل علينا يوما آخر، فقلنا: يا رسول الله، أهدي لنا حَيْس (6)؛ فحبسناه لك، فقال:«أَدْنِيه» (7)، فأصبح صائما وأفطر» (8).
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد تلفظ بالنية في هذا الحديث.
الدليل الثاني: حديث أنس رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يلبي بالحج والعمرة جميعا، يقول:«لبيك عمرة وحجا» (9).
(1) الجوهرة النيرة 1/ 136، رد المحتار 2/ 380، مراقي الفلاح 1/ 239، الفتاوى الهندية 1/ 195.
(2)
المهذب 1/ 35، البيان 1/ 101، المجموع 6/ 289، إعانة الطالبين 2/ 56، مغني المحتاج 1/ 343.
(3)
الإنصاف 1/ 142، كشاف القناع 1/ 87، الروض المربع ص 29، مطالب أولي النهى 1/ 106.
(4)
المدخل لابن الحاج 2/ 274، الشرح الكبير للدردير 1/ 520، حاشية العدوي على شرح كفاية الطالب الرباني 1/ 203، التاج والإكليل 2/ 207.
(5)
شرح عمدة الفقه كتاب الصلاة لابن تيمية 1/ 592، الإنصاف 1/ 142، كشاف القناع 1/ 87، مطالب أولي النهى 1/ 106.
(6)
الحَيْس: هو الطعام المتخذ من التمر والأقط والسمن. ينظر: الصحاح 3/ 920، النهاية 1/ 467.
(7)
أَدْنِيه: من الإدناء، أي: قربيه. ينظر: النهاية 2/ 138 مادة: دنا، عون المعبود 7/ 90، حاشية السندي على سنن النسائي 4/ 193.
(8)
أخرجه مسلم 2/ 808 رقم 1154، كتاب الصيام، باب جواز صوم النافلة بنية من النهار قبل الزوال، وأبو داود 2/ 329 رقم 2455، كتاب الصوم، باب في الرخصة في ذلك، واللفظ له.
(9)
رواه مسلم 2/ 905 رقم 1232، كتاب الحج، باب في الإفراد والقران بالحج والعمرة.
وجه الاستدلال: أن الحديث فيه التصريح باللفظ، والحُكم كما يثبت بالنص يثبت بالقياس، فيقاس الصيام على الحج والعمرة (1).
الدليل الثالث: ولأن التلفظ بالنية كمال؛ لأنه أتى بالنية في محلها وهو القلب، ونطق بها اللسان؛ وذلك زيادة كمال (2)، فتكون مستحبة.
الدليل الرابع: ولأن اللسان يعبر عما استقر في القلب (3).
الدليل الخامس: ولأن اللسان يساعد القلب على استحضار النية، فيوافقه (4).
الدليل السادس: ولأنها تنفع المشوش الخاطر الموسوس الفكر، إذا خشي أن لا يرتبط في قلبه عقد النية فيعضده بالقول حتى يذهب عنه اللبس (5).
أدلة القول الثاني: القائلين بأنه لا يشرع التلفظ بالنية في الصوم، بل التلفظ بها بدعة محدثة.
الدليل الأول: قوله تعالى: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} (6).
وجه الاستدلال: أن النيات محلها القلوب، والله تعالى يعلم ما في القلوب، ولو لم يتلفظ بالنية، والمتلفظ بها يعلم الله سبحانه وتعالى بدينه الذي في قلبه (7).
الدليل الثاني: عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث (8) في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدّ (9)» (10).
(1) ينظر: مرقاة المفاتيح 1/ 43، وكوثر المعاني الدراري 2/ 420.
(2)
ينظر: المدخل لابن الحاج 2/ 274.
(3)
ينظر: الشافي في شرح مسند الشافعي 1/ 191.
(4)
ينظر مغني المحتاج 1/ 343، وكوثر المعاني الدراري 2/ 420، وكشاف القناع 1/ 87.
(5)
ينظر: مغني المحتاج 1/ 343.
(6)
سورة الحجرات: الآية: 16.
(7)
ينظر: مجموع فتاوى صالح الفوزان 1/ 238، وشرح العمدة كتاب الصلاة لابن تيمية ص 591.
(8)
الحدث: الأمر الحادث المنكر الذي ليس بمعتاد ولا معروف في السنة. ينظر: النهاية 1/ 351.
(9)
فهو رَدّ: أي مردود عليه. ينظر: النهاية 2/ 213، تاج العروس 8/ 88.
(10)
رواه البخاري 3/ 184 رقم 2697، كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، ومسلم 3/ 1343 رقم 1718، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد المحدثات.
وفي لفظ: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» (1).
وجه الاستدلال: إن الأصل في العبادات التوقيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تلفظ بالنية، وكذلك لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عَلَّم أحدا من الصحابة التلفظ بالنية، ولو كان التلفظ مشروعا لنُقِل إلينا كما نُقِلت إلينا أدق أعماله، فعُلِم أن التلفظ بها بدعة مُحدَثة (2).
الدليل الثالث: ولأنها لم تَرِد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من السلف؛ ولو كانت خيرا لسبقونا إليها (3).
الدليل الرابع: ولأن النية من أعمال القلب، فلم تفتقر إلى غيره من الجوارح، كما أن القراءة لما كانت من أعمال اللسان، لم تفتقر إلى غيره من الجوارح (4).
الدليل الخامس: ولأن الصحابة الكرام رضي الله عنهم لم ينقلوا إلينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد تلفظ بالنية، لا سرا ولا جهرا، ولا أَمَر بذلك، فلما لم ينقله أحد عُلِم قَطعا أنه لم يكن. وحينئذ فتَرْك التلفظ بها هو السُنَّة (5).
الدليل السادس: ولأن المتابعة كما تكون في الفعل تكون في الترك أيضا، فمن واظب على فعل لم يفعله الشارع، كان قد واضب على فعل مُبتَدع (6).
الراجح: الذي يترجح -والله أعلم- هو القول الثاني: أنه لا يشرع التلفظ بالنية في العبادات، ومن ذلك الصوم، بل التلفظ بها بدعة محدثة؛ لأن ذلك لم يثبت، ولو كان التلفظ بالنية مشروعا لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم وأوضحه للأمة بفعله أو قوله، ولسبق إليه السلف الصالح.
وأما ما استدل به أصحاب القول الأول فيجاب عنه بما يلي:
أولا: أما استدلالهم بحديث عائشة، وقولهم إن النبي صلى الله عليه وسلم قد تلفظ فيه بالنية، فيجاب عنه:
(1) رواه مسلم 3/ 1343 رقم 1718، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور.
(2)
ينظر: شرح العمدة كتاب الصلاة لابن تيمية ص 591، واتباع لا ابتداع ص 107.
(3)
ينظر: القبس في شرح الموطأ 1/ 214، والمدخل لابن الحاج 2/ 274، وكشاف القناع 1/ 87.
(4)
ينظر: الحاوي الكبير 2/ 92.
(5)
ينظر: حاشية الروض المربع 1/ 192.
(6)
ينظر: مرقاة المفاتيح 1/ 42، إعلام الموقعين 2/ 389 - 391.
أين التلفظ بالنية في حديث عائشة؟ ، إن ما وقع من النبي صلى الله عليه وسلم هو إخبار بأنه صائم. فأين من يقول مخبرا: إني صائم، ممن يقول: نويت صيام يوم كذا وكذا فرضا لله، هل يستويان مثلا؟ .
ثانيا: وأما استدلالهم بتلبية النبي صلى الله عليه وسلم ، فيجاب عنه من وجهين:
الأول: أنه صلى الله عليه وسلم إنما قال ذلك في ابتداء إحرامه؛ تعليما للصحابة ما يُهِلُّون به، ويقصدونه من النُسُك (1).
الثاني: أن هذا ليس مما نحن فيه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يَذكُر نُسُكه في تلبيته، فيقول:«لَبَّيك عمرة وحجا» ، وإنما كلامنا أنه يقول عند إرادة عقد الإحرام:«اللهم إني أريد الحج أو العمرة» ، حتى يستقيم لهم القياس (2).
ثالثا: وأما استحبابهم التلفظ بالنية، فيجاب عنه:
أن الاستحباب حكم شرعي لا يكون إلا بدليل، ولا دليل (3).
رابعا: وأما قولهم: إن اللسان يساعد القلب ويعبر عما استقر فيه، وليوافقه، فيجاب عنه:
"أن النية بليغ العلم، فمتى عَلِم العبد ما يفعله كان قد نواه ضرورة، فلا يُتَصَور مع وجود العلم بالعقل أن يَفعل بلا نية، ولا يمكن مع عدم العلم أن تحصل نيةٌ"(4).
فلا معنى حين إذ لاقتران اللسان بعقد النية. والله تعالى أعلم.
(1) ينظر: شرح العمدة من أول كتاب الصلاة ص 591، ومرقاة المفاتيح 1/ 43.
(2)
ينظر جامع العلوم والحكم 1/ 96، ومرقاة المفاتيح 1/ 42.
(3)
مجموع الفتاوى لابن تيمية 22/ 222، إعلام الموقعين 2/ 389 - 391.
(4)
مجموع الفتاوى لابن تيمية 22/ 231 - 232.