الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال: ولي زيد الهاشمي المدينة، فأمر بأصحاب الملاهي فحبسوا، وحبس عطرّد فيهم، وحضر لعرضهم، وشفع في عطرّد رجال من المدينة وأخبروه أنه من أهل الدين والمروءة، فخلّى سبيله، وخرج فإذا هو بالمغنّين قد أحضروا ليعرضوا، فرجع إليه عطرّد فقال: أصلح الله الأمير، أعلى الغناء حبست هؤلاء؟ قال نعم، قال: فلا تظلمهم فو الله ما أحسنوا شيئا منه قط، فضحك وأطلقهم جميعا.
10- الأبجر
«1»
وكان ذا طرب يفرط في لجاجته، ويلهي العجول عن حاجته، ينهب حبّات «2» القلوب نهبا، ويأخذ حباء الملوك غصبا، لو تغنّى ساعة عرفة لألهى الحجيج، أو ثبّى يوم منى لأكثر الضجيج، لو قدمت الخمس الظوامي وهو يترنم إلى الماء، لطوت جوانحها على الغلل الظماء «3» ، وكان لا يرى إلا في هيئة تسرّ المبصر، وتسوّل للغويّ «4» أنه لا يقصر.
قال أبو الفرج، قال إسحاق: لم يكن أحد أظرف منه، ولا أحسن هيئة منه، كانت حلته بمائة دينار، وكان يقف بين المأزمين «5» ويرفع صوته، فيقف الناس له ويركب بعضهم بعضا.
قال إسحاق: جلس الأبجر في ليلة اليوم السابع من أيام الحج على قرب من التنعيم «1» ، فإذا عسكر جرّار قد أقبل في آخر الليل، وفيه دواب تجنب وفيها [ص 33] فرس أدهم [سرج] حليته ذهب، فاندفع يغنّي:«2» [الطويل]
عرفت ديار الحيّ خالية قفرا
…
كأنّ بها لما توهمتها سطرا
فلما سمعه من في القباب والمحامل أمسكوا، وصاح صائح: ويحك أعد الصوت، فقال: لا والله، إلا بالفرس الأدهم، بسرجه ولجامه وأربعمائة دينار، وإذا الوليد بن يزيد صاحب العسكر، فنودي أين منزلك؟ ومن أين أنت؟ قال: أنا الأبجر، ومنزلي على رأس زقاق الخرازين، فغدا إليه رسول الوليد بذلك الفرس وأربعمائة دينار وتخت من ثياب وشي وغير ذلك، ثم أتى به الوليد فأقام عنده وقام مع أصحابه عشية التروية «3» ، وهو أحسنهم هيئة وخرج معه إلى الشام.
قال عمر بن حفص بن كلاب: كان الأبجر مولانا، وكان إذا قدم المدينة نزل علينا، فقال لنا يوما: أسمعوني غناء ابن عائشتكم هذا، فأرسلنا إليه فجمعنا بينهما في بيت ابن هفان «4» ، فغنّى ابن عائشة، فقال الأبجر: كل مملوك لي حر إن غنّيت معك إلا بنصف صوتي «5» ، ثم أدخل إصبعه في شدقه، ثم غنّى، فسمع صوته من في السوق فحشر النّاس علينا، فلم يفترقا حتى تشاتما، قال:
وكان ابن عائشة حديدا «6» جاهلا.
قال إبراهيم بن المهدي: حدثني ابن أشعب عن أبيه قال: دعا الوليد بن يزيد ذات يوم المغنين، وكنت نازلا معهم، فقلت للرسول: خذني معهم، قال: لم أؤمر بذلك، وإنما أمرت بإحضار المغنّين، وأنت بطّال «1» لا تدخل فيهم، فقلت له:
والله أنا أحسن غناء منهم، ثم اندفعت فغنيت، فقال: لقد سمعت حسنا، ولكني أخاف، فقلت: لا خوف عليك ولك مع هذا شرط، قال: وما هو؟ قلت:
كل ما أصبته فلك شطره، فقال للجماعة: اشهدوا عليه، فشهدوا، ومضينا فدخلنا على الوليد وهو خاثر «2» النفس، فغناه المغنون في كل فن من ثقيل وخفيف، فلم يتحرك ولا نشط، فقام الأبجر إلى الخلاء، وكان خبيثا داهيا، فسأل الخادم عن خبره وبأي شيء هو خاثر النفس، فقال: بينه وبين امرأته كلام، لأنه عشق اختها فغضبت عليه، وهو إلى أختها أميل، وقد عزم على طلاقها، وحلف لها لا يذكرها بمراسلة ولا بمخاطبة، وخرج على هذا الحال من عندها، وعاد الأبجر إلينا [ص 34] فما استقر به مجلسه حتى اندفع يغني:«3» [الطويل]
فبيني فإني لا أبالي وأيقني
…
تصاعد باقي حبّكم أم تصوبا
ألم تعلمي أني عزوف عن الهوى
…
إذا صاحبي من غير شيء تغضّبا
فطرب الوليد وارتاح، وقال: أصبت والله يا عبيد [الله] ما في نفسي، وأمر له بعشرة آلاف درهم، وشرب حتى سكر، ولم يحظ أحد بشيء سوى الأبجر، فلما أيقنت بانقضاء المجلس، وثبت وقلت: يا أمير المؤمنين إن أمرت من يضربني مئة الساعة، فضحك ثم قال: قبحك الله، وما السبب في ذلك؟ فأخبرته بقصتي مع الرسول، فأريد أن أضرب مئة ويضرب بعدي مئة، فقال: لقد ألطفت، بل