المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

(هلا بكيت على الشباب الذاهب) «1» فغناهم بعد أن قال - مسالك الأبصار في ممالك الأمصار - جـ ١٠

[ابن فضل الله العمري]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌وصف مخطوطة الكتاب:

- ‌الكتاب ومنهج مؤلفه:

- ‌منهج التحقيق:

- ‌[مقدمة المؤلف]

- ‌[تراجم اهل الموسيقى]

- ‌1- ابن محرز

- ‌2- ابن عائشة

- ‌3- حنين الحيري

- ‌4- الغريض

- ‌5- طويس

- ‌6- يزيد حوراء

- ‌7- عبد الرّحمن الدّفّاف

- ‌8- ابن مسجح

- ‌9- عطرّد

- ‌10- الأبجر

- ‌11- فريدة

- ‌12- الدّلال

- ‌13- أبو سعيد مولى فائد

- ‌14- فليح بن أبي العوراء

- ‌15- الهذلي

- ‌16- مالك بن [أبي] السّمح

- ‌17- دحمان الأشقر

- ‌18- سياط

- ‌19- ابن جامع

- ‌20- جميلة

- ‌21- معبد

- ‌22- ابن سريج

- ‌23- أبو كامل

- ‌24- إسماعيل بن الهربذ

- ‌25- أبو دلف العجلي»

- ‌26- البردان

- ‌27- سائب خاثر

- ‌29- متيّم الهشاميّة

- ‌30- سلّامة القسّ

- ‌31- عبيد الله بن عبد الله بن طاهر

- ‌32- محمّد بن الحارث بن بسخنّر

- ‌33- عبد الله بن طاهر

- ‌34- معبد اليقطيني

- ‌35- محمد الزّف

- ‌36- عثعث

- ‌37- بصبص جارية ابن نفيس

- ‌38- الزّرقاء جارية ابن رامين

- ‌39- حبّابة جارية يزيد بن عبد الملك

- ‌41- هاشم بن سليمان

- ‌42- عمرو بانة

- ‌43- وجه القرعة

- ‌44- شارية

- ‌45- خليدة المكيّة

- ‌46- عمرو الميداني

- ‌47- أشعب الطّامع

- ‌48- يونس الكاتب

- ‌49- أحمد النّصبيّ

- ‌50- سليم

- ‌52- يحيى المكّي

- ‌53- حكم الوادي

- ‌54- عمر الوادي

- ‌55- أحمد بن يحيى المكّي

- ‌56- بذل

- ‌57- عزّة الميلاء

- ‌58- فند مولى عائشة

- ‌59- دنانير البرمكيّة

- ‌60- الزّبير بن دحمان

- ‌61- ومنهم- عبد الله بن العبّاس

- ‌62- أبو صدقة

- ‌63- عمرو بن أبي الكنّات

- ‌64- خليلان المعلّم

- ‌65- عبيدة الطّنبوريّة

- ‌66- أبو حشيشة

- ‌67- إسحاق الموصلي

- ‌69- عليّة بنت المهدي

- ‌70- ومنهم- أبو عيسى

- ‌71- علّويه

- ‌72- ومنهم- مخارق

- ‌73- عريب جارية المأمون

- ‌74- إبراهيم الموصلي

- ‌75- أبو زكّار

- ‌76- ومنهم دليل الطّنبوري

- ‌77- عليّ بن يحيى المنجّم

- ‌78- ومنهم- زرفل بن إخليج [ص 255]

- ‌79- ومنهم- إسرائيل العوّاد

- ‌80- ومنهم، طريف بن معلّى الهاشمي

- ‌81- ومنهم، تحفة جارية المعتز

- ‌82- ومنهم- إسحاق المنجّم

- ‌83- ومنهم- ابن العلّاف نديم المعتضد

- ‌84- ومنهم- مؤدّب الرّاضي

- ‌85- ومنهم- أبو سعد بن بشر

- ‌86- ومنهم- مسكين بن صدقة

- ‌87- ومنهم- بديع بن محسن

- ‌89- ومنهم- معمر بن قطامي

- ‌90- ومنهم- تحفة جارية أبي محمّد [ص 269]

- ‌91- تحفة؟؟؟ جارية أبي يعقوب

- ‌92- ومنهم- أبو العزّ العوّاد

- ‌93- ومنهم- عين الزّمان أبو القاسم

- ‌94- ومنهم- أبو العبيس بن حمدون

- ‌95- ومنهم- جيداء جارية سيف الدّولة

- ‌96- ومنهم- القاسم بن زرزر

- ‌97- ومنهم- عليّ بن منصور الهاشميّ

- ‌98- ومنهم- كردم بن معبد

- ‌99- ومنهم- أحمد بن أسامة النّصبيّ

- ‌100- ومنهم- وشيحة

- ‌101- ومنهم- إسرائيل اليهوديّ

- ‌102- ومنهم- يحيى جارية أبي محمّد المهلّبي

- ‌103- ومنهم- عنان جارية النّطافيّ

- ‌104- دنانير جارية محمّد بن كناسة

- ‌105- ومنهم، فضل اليماميّة

- ‌106- ومنهم- تيماء جارية خزيمة بن خازم

- ‌108- ومنهم- فنون جارية يحيى بن معاذ

- ‌109- ومنهم- صرف جارية أمّ حصين

- ‌110- ومنهم- نسيم جارية أحمد بن يوسف الكاتب

- ‌111- ومنهم- عارم جارية وليهدة النخاس

- ‌112- ومنهم- سلمى اليماميّة

- ‌113- ومنهم- مراد جارية عليّ بن هشام

- ‌114- ومنهم- متيّم الهشاميّة

- ‌115- سمراء وهيلانة

- ‌116- ومنهم- ظلوم جارية محمّد بن مسلم

- ‌118- ومنهم- ريّا وظمياء

- ‌119- ومنهم- بنان جارية المتوكّل

- ‌120- ومنهم- ريّا جارية إسحاق [الموصلي]

- ‌121- ومنهم- محبوبة جارية المتوكّل

- ‌122- ومنهم- أمل جارية قرين النّخّاس

- ‌123- ومنهم- رابعة جارية إسحاق بن إبراهيم الموصليّ

- ‌124- ومنهم- قاسم جارية ابن طرخان

- ‌125- ومنهم- مها جارية عريب

- ‌127- ومنهم- مثل جارية إبراهيم بن المدبّر

- ‌128- ومنهم-[نبت جارية مخفرانة]

- ‌129- ومنهم- صاحب جارية ابن طرخان النخاس

- ‌130-[ومنهم جلّنار جارية أخت راشد بن إسحاق الكوفي الكاتب]

- ‌131- ومنهم- خنساء البرمكيّة

- ‌132-[ومنهم خزامى جارية الضبط المغني]

- ‌133- ومنهم- صدقة بن محمّد

- ‌134- ومنهم- الحسين بن الحسن

- ‌135- ومنهم-[ياقوت المستعصميّ]

- ‌136- عبد المؤمن بن يوسف

- ‌137- ومنهم- لحاظ المغنّية

- ‌138- ومنهم- الثّوني

- ‌139- ومنهم- الخروف

- ‌140- ومنهم- محمّد بن غرّة

- ‌141- ومنهم- القاضي محمّد العوّاد

- ‌142- ومنهم- الدّهمان محمّد بن عليّ بن عمر المازني

- ‌143- ومنهم- الكمال التّوريزي

- ‌144- ومنهم- محمّد بن الكسب

- ‌145- ومنهم- الكتيلة

- ‌146- ومنهم- خالد

- ‌147- ومنهم- السّهروردي شمس الدّين

- ‌148- ومنهم- الشّمس الكرمي

- ‌149- ومنهم- يحيى الغريب الواسطيّ المشيب

- ‌150- ومنهم- حسن التاي

- ‌151- ومنهم- السّيلكو

- ‌152- ومنهم- البدر الأربلي

- ‌153- ومنهم- التّاج بن الكنديّ

- ‌154- ومنهم- خواجا أبو بكر النّوروزي

- ‌155- ومنهم- علاء الدّين دهن الحصا

- ‌156- ومنهم- نظام الدّين يحيى بن الحكيم

- ‌157- ومنهم- كمال الدّين محمّد بن البرهان الصّوفي

- ‌158- ومنهم- حسين بن عليّ المطريّ العزاويّ

- ‌159- ومنهم- عزيز جارية الحكم بن هشام

- ‌160- ومنهم- عزيز جارية الحكم بن هشام

- ‌161- ومنهم- بهجة جارية الحكم

- ‌162- ومنهم- مهجة جارية الحكم

- ‌163- ومنهم- فاتن جارية الحكم

- ‌164- فاتك جارية الحكم بن هشام

- ‌165- ومنهم- أفلح الرّباني

- ‌166- ومنهم- رغد جارية المغيرة بن الحكم

- ‌167- ومنهم- سليم مولى المغيرة بن الحكم

- ‌168- ومنهم- وضيح بن عبد الأعلى

- ‌169- ومنهم- ابن سعيد كامل

- ‌170- ومنهم- حصن بن عبد بن زياد

- ‌171- ومنهم- ساعدة بن بريم

- ‌172- ومنهم- سعد المجدّع

- ‌173- رداح جارية عبد الرّحمن [ص 394]

- ‌174- ومنهم- خليد مولى الأدارسة

- ‌175- ومنهم- سعدى جارية المعتمد بن عبّاد

- ‌176- ومنهم- ميمون الجوهريّ [أو الجهوريّ]

- ‌177- ومنهم- طريف بن عبد الله السّميع القابسيّ

- ‌178- ومنهم- زيد الغناء بن المعلّى

- ‌179- ومنهم- جارية تميم

- ‌181- ومنهم- أبو عبد الله اللالجي

- ‌182- ومنهم- ناطقة جارية الزّاعوني

- ‌183- ومنهم- بديع جارية المحلميّ

- ‌184- ومنهم- صافية جارية بدر أمير الجيوش

- ‌185- ومنهم- عيناء جارية بدر أمير الجيوش

- ‌186- ومنهم- مغنّي الصّالح بن رزّيك

- ‌187- ومنهم- سرور جارية العزيز

- ‌188- ومنهم- فنون العادليّة

- ‌189- ومنهم- عجيبة مغنّية الكامل

- ‌190- ومنهم- الكركيّة

- ‌191- ومنهم- الزّركشي أبو عبد الله

- ‌192- ومنهم- ابن كرّ أبو عبد الله

- ‌ملحق بالمصطلحات الموسيقية

- ‌مصطلحات الموسيقا العربية القديمة

- ‌أوتار العود وما يتعلق بها:

- ‌أسماء النوتات العربية وما يقابلها في النوتات العالمية التي استعملها اللاذقي في كتاب الرسالة الفتحية

- ‌الدوائر النغمية المشهورة ولكل دائرة لها نغماتها المعروفة لدى الموسيقيين وهي اثنتا عشرة دائرة هي:

- ‌ويتفرع من الأواز ستة أنغام:

- ‌المقامات وصلتها بالأبراج وتأثيراتها:

- ‌الإيقاعات الموسيقية القديمة وعددها اثنا عشر وهي:

- ‌الإيقاعات عند المتأخرين وعددها عشرون إيقاعا وهي:

- ‌أسماء المقامات وما يتصل بها ومعانيها باللغة الفارسية:

- ‌المصادر والمراجع:

- ‌مصادر التحقيق

- ‌فهرس الموضوعات

الفصل: (هلا بكيت على الشباب الذاهب) «1» فغناهم بعد أن قال

(هلا بكيت على الشباب الذاهب)«1» فغناهم بعد أن قال لهم: ابدأوا أنتم [فقالوا] : ما كنا لنتقدمك حتى نسمع هذا الصوت، فغناهم إياه، وكان من أحسن الناس صوتا، فازدحم الناس على السطح وكثروا يسمعونه، فسقط الرّواق «2» على من تحته، فسلموا جميعا وأخرجوا أصحابه سوى حنين، فإنه مات وحده تحت الهدم، فقالت سكينة: لقد كدّر حنين سرورنا، وانتظرناه مدة طويلة، كأننا كنّا نسوقه إلى منيّته.

[ومنهم]

‌4- الغريض

«3» لا يناضل على غرض ولا يفاضل في عرض كان أشجى من النوائح، وأهزّ للكريم من المدائح «4» ، لو أصغت إليه الحمائم لخلعت عليه أطواقها أو الحوائم لما بكت بعبرة أشواقها، لا يدع عبرة لم تسكب، ولا حشاشة لم تسلب، ولا زمان صبا لم يذكر «5» ، ولا ذيول صبابة لم تسحب. أخذ الغناء في أول أمره عن ابن سريج، لأنه كان يخدمه، فلما رأى ابن سريج طبعه وظرفه وحلاوة منطقه، خشي أن يأخذ غناءه فيغلبه بصوته وحسن وجهه، فحسده واعتلّ عليه، وجعل

ص: 45

يتجنّى عليه فيطرده؛ فشكا «1» ذلك إلى مولياته وأعلمهنّ غرض ابن سريج في تنحيته إياه عنه، وأنه حسده على تقدّمه [ص 11] فقلن له: هل لك أن تسمع نوحنا على قتلانا، فتأخذه وتغنّى عليه؟ قال: نعم، فأسمعنه المراثي فاحتذاه، «2» فخرج غناؤه عليها، وكان ينوح مع ذلك، ويدخل المآتم، وتضرب دونه الحجب، ثم ينوح فيفتن كلّ من سمعه. ولما كثر غناؤه اشتهاه الناس وعدلوا إليه لما كان فيه من الشجا «3» ، وكان ابن سريج لا يغني صوتا إلا عارضه «4» ، فغنّى فيه لحنا آخر، فلما رأى ابن سريج موضع الغريض، اشتد عليه وحسده، فغنى الأرمال والأهزاج، فاشتهاها الناس، وقال [له] الغريض: يا أبا يحيى، قصرت الغناء وحذفته، قال: نعم يا مخنّث، جعلت تنوح على أبيك «5» وأمك.

قال إسحاق: سمعت جماعة من البصراء بالغناء قد أجمعوا على [أن] الغريض أشجى غناء، وابن سريج أحكم صنعة.

قال بعض أهل العلم بالغناء: لو حكمت بين أبي يحيى «6» وأبي يزيد لما فرقت بينهما، وإنما تفضيلي أبا يحيى بالسبق، فأما غير ذلك فلا، لأن أبا يزيد «7» عنه أخذ ومن بحره اغترف، وكذلك قالت سكينة لما غنّى الغريض وابن سريج:«8» [السريع]

ص: 46

عوجي علينا ربّة الهودج

والله ما أفرّق بينكما، وما أنتما عندي إلا كمثل اللؤلؤ والياقوت في أعناق الجواري الحسان، لا يدرى أي ذلك أحسن.

قال يونس الكاتب: «1» : أمر بعض أمراء مكة بإخراج المغنين من الحرم، فلما كانت الليلة التي عزم على النفي فيها، اجتمعوا في غدها إلى أبي قبيس «2» ، وكان معبد قد زادهم، فبدأ فغنّى:«3» [الطويل]

أتربيّ من عليا معدّ هديتما

أجدّا البكا إنّ التّفرّق باكر

فما مكثنا دام الجميل عليكما

بثهلان إلا أن تزمّ الأباعر

قال: فتأوه أهل مكة وأنّوا وتمحّصوا «4» ، واندفع الغريض يغني ويقول:«5»

أيها الرائح المجدّ ابتكارا «6» [المديد]

واندفع ابن سريج يغني ويقول: «7» [الخفيف]

جدّدي الوصل يا قريب وجودي

لمحبّ خياله قد ألمّا

فاندفع الصراخ في الدور بالويل والحرب «8» ، واجتمع الناس إلى الأمير

ص: 47

يستعفونه «1» [ص 13] من نفيهم فأعفاهم.

قال أبو الفرج، أخبرني عبد الرحمن بن محمد السعدي قال: حضرت شطباء المغنية جارية علي بن جعفر ذات يوم وهي تغني «2» : [الخفيف]

ليس بين الرّحيل والبين إلا

أن تردّوا جمالهم فتزمّا

فطرب علي بن جعفر وصاح: سبحان الله لا يكون قربه ولا يشدون ألا يعقلون بشعره «3» ، لا تسلمون على جار، هذه والله العجلة.

قال إسحاق: بلغني أن سكينة حجّت، فدخل إليها ابن سريج والغريض، فقال لها ابن سريج: يا سيدتي إني كنت صنعت صوتا وحسّنته وتنوّقت «4» فيه، وخبّأته لك في درج مملوء مسكا، فنازعنيه هذا الفاسق- يعني الغريض- وأردنا أن نتحاكم إليك فيه، فأيّنا قدّمته [فيه] تقدّم، قالت: هاته، فغناها:«5» [السريع]

عوجي علينا ربّة الهودج

إنّك إن لم تفعلي تحرجي

فقالت: هاته أنت يا غريض فغناها إياه «6» ، فقالت لابن سريج: أعده، فأعاده، فقالت: أعده يا غريض، فأعاده، فقالت: ما أشبهكما إلا بالجديين الحار والبارد، لا أدري أيهما أطيب.

قال إسحاق: ولي قضاء مكّة الأوقص المخزوميّ، فما رأى الناس مثله في عفافه

ص: 48

ونبله، فإنه لنائم في جناح، إذ مرّ به سكران يغني:

عوجي علينا ربّة الهودج

فلم يجده، فقال له: يا هذا شربت حراما، وأيقظت نياما، وغنّيت خطأ، خذه عنّي، فأصلحه له وانصرف.

قال: خرج ابن أبي عتيق على نجيب له من المدينة، قد أوقره من طرفها المآرب «1» وغير ذلك، فلقي فتى من بني مخزوم مقبلا من بعض ضياعه، فقال:

يا بن أخي أتصحبني؟ قال: نعم، قال المخزومي فمضينا حتى إذا قربنا من مكة جزناها، فصرنا إلى قصر، فاستأذن ابن أبي عتيق، فأذن له، فدخلنا فإذا رجل جالس كأنه عجوز ويداه مختضبة لا شك في ذلك، فإذا هو الغريض قد كبر، فقال له ابن أبي عتيق: تشوّقنا إليك، وأهدى له ما كان معه، ثم قال: نحبّ أن نسمع:

عوجي علينا ربّة الهودج

فقال: ادعوا فلانة، جارية له، فجاءت فغنت، فقال لها: ما صنعت شيئا، ثم حلّ خضابه [ص 14] وغنّى:

عوجي علينا ربّة الهودج

فما سمعت أحسن منه، فأقمنا عنده أياما كثيرا، وخبّازه قائم، وطعامه كثير، ثم قال ابن أبي عتيق: إني أريد الشخوص، فلم يبق بمكة تحفة عدنيّ ولا يماني ولا عود إلا أوقر به راحلته، فلما رحلنا وبرزنا، صاح به الغريض: هى هى، فرجعت إليه، فقال: ألم ترووا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: (يحشر من بقيعنا هذا سبعون ألفا على صورة القمر ليلة البدر) ؟ فقال له ابن أبي عتيق:

ص: 49

بلى، فقال: هذه «1» سنّ انتزعت فأحبّ أن تدفنها لي بالبقيع، فخرجنا والله ولم ندخل المدينة حتى دفناها بالبقيع.

قال: خرج الغريض مع قوم فغناهم هذا الصوت: «2» [الطويل]

جرى ناصح بالودّ بيني وبينها

فقرّ بني يوم الحصاب إلى قتلي

فاشتد سرور القوم، وكان «3» معهم غلام فأعجبه، فطلب اليهم أن يكلّموا الغلام في الخلوة معه، ففعلوا، وانطلق مع الغلام حتى توارى بصخرة، فلما قضى حاجته أقبل الغلام إلى القوم، وأقبل الغريض يتناول حجرا حجرا ويقرع به الصخرة، ففعل ذلك مرارا، فقالوا: ما هذا يا أبا زيد «4» ؟

فقال: كأني بها وقد جاءت يوم القيامة رافعة ذيلها تشهد علينا بما كان منّا إلى جانبها، فأردت أن أجرّح شهادتها على ذلك اليوم، والشعر الذي غناه لعمر ابن أبي ربيعة:

جرى ناصح بالودّ بينى وبينها

فقرّبني يوم الحصاب إلى قتلي

فقالت وأرخت جانب السّتر إنّما

معي فتحدّث غير ذي رقبة أهلي

فقلت لها «5» ما بي لهم من ترقّب

ولكنّ سرّي ليس يحمله مثلي

قال الزبير «6» : رأيت علماءنا جميعا لا يشكون في أن أحسن ما يروون في

ص: 50

حفظ السّرّ قول ابن أبي ربيعة:

ولكنّ سرّي ليس يحمله مثلي

قال المدائني: بلغني أن الفرزدق سمع عمر بن أبي ربيعة ينشد هذه القصيدة، فلما بلغ إلى قوله:

فقمن وقد أفهمن ذا اللّبّ أنّما

فعلن الذي يفعلن من ذاك من أجلي

فصاح الفرزدق وقال: [هذا]«1» والله الشعر [الذي]«1» أرادته الشعراء فأخطأته وبكت الديار [ص 15] .

قال مصعب الزبيري: اجتمع نسوة فذكرن عمر بن أبي ربيعة وشعره وظرفه وحسن مجلسه وحديثه، فقالت سكينة: أنا لكنّ به، فبعثت رسولا إليه، ووعد [ته] الصّورين «2» لليلة سمّتها له، فوافاها على راحلته ومعه الغريض، فحدّثهنّ حتى رأى الفجر وحان انصرافهن، فقال لها: والله إني لمشتاق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصلاة في مسجده، ولكن والله لا أخلط زيارتكن بشيء، ثم انصرف إلى مكة، فقال:«3» [البسيط]

ألمم بزينب إنّ البين قد [أفدا]

قلّ الثّواء لئن كان الرّحيل غدا

قد حلفت ليلة الصّورين جاهدة

وما على الحرّ إلا الصّبر مجتهدا

لأختها ولأخرى من مناصفها

لقد وجدت به فوق الذي وجدا

لعمرها ما أراني إن نوى نزحت

وهكذا الحبّ إلا ميّتا كمدا

ص: 51

قال: يا غريض، إني أريد أن «1» أخبرك بشيء يتعجل لك نفعه، ويبقى ذكره، فهل لك فيه؟ قلت: من ذاك ما أنت أهله، قال: إني قد قلت في الليلة التي كنا فيها شعرا، فامض به إلى النسوة فأنشدهن ذلك، وأخبرهن أني قد وجهت بك عامدا، قال: نعم، فحمل الغريض الشعر ورجع إلى المدينة فقصد لسكينة، وقال لها: جعلت فداك يا سيدتي ومولاتي، إن أبا الخطاب- أبقاه الله- وجّهني إليك قاصدا، قالت: أو ليس في خير وسرور وبركة؟ قال: نعم، قالت:

وفيم وجّهك أبو الخطاب حفظه الله؟ قال: جعلت فداك، إن ابن أبي ربيعة حمّلني شعرا، وأمرني أن أنشدك إياه، فقالت: هاته، فأنشدها:

ألمم بزينب إنّ البين قد أفدا

قلّ الثّواء لئن كان الرّحيل غدا

الشعر كله، فقالت: يا ويحه ما كان عليه ألا يرحل في غد، فوجهت إلى النسوة، فجمعتهن وأنشدتهن الشعر، وقالت للغريض: هل عملت فيه شيئا؟

قال: قد غنّيته «2» ابن أبي ربيعة، قالت: فهاته، فغناه الغريض، فقالت سكينة:

أحسنت والله، وأحسن ابن أبي ربيعة ولولا أنك سبقت وغنيته ابن أبي ربيعة لأحسنّا جائزتك، يا بناتة، أعطه لكل [بيت] ألف درهم، فأخرجت بأبياته أربعة آلاف درهم، فدفعتها إليّ، وقالت سكينة: لو [ص 16] زادنا عمر لزدناك.

قال محمد بن سلام: حجت «3» عائشة بنت طلحة بن عبيد الله، فجاءتها الثّريّا وأخواتها ونساء أهل مكة القرشيات وغيرهن، وكان الغريض ممن جاء، ودخل النسوة عليها، فأمرت لهنّ بكسوة وألطاف «4» كانت قد أعدتها لمن

ص: 52

جاءها «1» ، فجعلت كل واحدة تخرج ومعها جاريتها تحمل ما أمرت لها به عائشة، والغريض بالباب، حتى خرج مولياته مع جواريهن الخلع، فقال الغريض: أين نصيبي من عائشة؟ فقلن له: أغفلناك وذهبت عن قلوبنا، فقال: ما أنا ببارح من بابها أو آخذ بحظي منها، فإنها كريمة، واندفع يغني بشعر جميل:«2» [الطويل]

تذكّرت ليلى والفؤاد عميد

وشطّت نواها والمزار بعيد

فقالت: ويلكم، هذا مولى العبلات بالباب قد ذكر بنفسه، هاتوه، فدخل، فلما رأته ضحكت، ثم قالت: لم أعلم بمكانك، ثم دعت له بأشياء أمرت له بها، ثم قالت له: إن غنّيتني «3» صوتا في نفسي، فلك حكمك، فغنّاها في شعر كثير:«4» [الطويل]

وما زلت في ليلى لدن طرّ شاربي

إلى اليوم أخفي حبّها وأداجن

وأحمل في ليلى لقلبي ضغينة

وتحمل في ليلى عليّ الضّغائن «5»

فقالت: ما عدوت والله ما في نفسي، ووصلته وأجزلت، قال إسحاق: فقلت لأبي عبد الله: فهل علمت [حديث]«6» هذين البيتين؟ ولم سألت الغريض ذلك؟ قال: نعم، حدثني أبي قال، قال الشعبي: دخلت المسجد فإذا بمصعب بن الزبير على سرير جالس، والناس حوله، فسلمت، ثم ذهبت لأنصرف، فقال لي:

ادن، فدنوت حتى وضعت يدي على مرافقه «7» ، ثم قال لي: إذا قمت فاتبعني،

ص: 53

فجلس قليلا ثم نهض فتوجه نحو دار موسى بن طلحة، فتبعته، فلما طعن في الدار، التفت إليّ فقال: ادخل فاذا حجلة «1» ، وإنها لأول حجلة رأيتها لأمير، فقمت ودخلت الحجلة، فسمعت حركة، فكرهت الجلوس، ولم يأمرني بالانصراف، فاذا جاريته قد خرجت، فقالت: يا شعبي، إن الأمير يأمرك أن تجلس، فجلست على وسادة، ورفع سجف «2» الحجلة، فإذا أنا بمصعب بن الزبير، ورفع السجف الآخر، فإذا أنا بعائشة بنت طلحة، فلم أر زوجا قط كان أحسن منهما: مصعب وعائشة، فقال مصعب: يا شعبي، هل تعرف هذه؟

قلت: نعم [ص 17] أصلح الله الأمير، قال: ومن هي؟ قلت: سيدة نساء المسلمين عائشة بنت طلحة، قال: ولكن هذه ليلى [التي] يقول فيها الشاعر:

وما زلت في ليلى لدن طرّ شاربي

ثم قال: قم إذا شئت، فقمت، فلما كان العشيّ رحت، فإذا هو جالس في المسجد على سرير، فسلمت عليه، فلما رآني قال: ادن مني، فدنوت حتى وضعت يدي على مرافقه، فأصغى إلي وقال: رأيت مثل ذلك الإنسان قط؟

قلت: لا والله، قال: أفتدري لم أدخلناك؟ قلت: لا، قال: لتحدّث بما رأيت، ثم التفت إلى عبد الله بن فروة، فقال: اعطه عشرة آلاف درهم وثلاثين ثوبا، وانصرف، وما انصرف أحد بمثل ما انصرفت بعشرة آلاف درهم، وبمثل كارة القصار ثيابا «3» ، وبنظرة من عائشة بنت طلحة. قال: وكانت عائشة بنت طلحة عند عبد الرحمن بن أبي بكر، وكان أبا عذرتها، «4» ثم هلك، وتزوجها مصعب

ص: 54

ابن الزبير فقتل، ثم تزوجها عمر بن عبيد الله بن معمر، فبنى بها بالحيرة، ثم انصرف عن سبع مرات تلك الليلة، فلقيته مولاة له حين أصبح، فقالت: يا أبا حفص، كملت في كلّ شيء حتى في هذا، فلما مات ناحت عليه قائمة، ولم تنح على أحد منهم [قائمة] ، وكانت العرب إذا ناحت المرأة قائمة على زوجها، علم أنها لا تريد أن تتزوج بعده، فقيل لها: يا عائشة ما صنعت هذا بأحد من أزواجك، قالت: إنه كان أقرب مني قرابة، وأردت أن لا أتزوج بعده.

قال: وقدم «1» يزيد بن عبد الملك مكة، فبعث إلى الغريض سرا، فأتاه فغناه بهذا اللحن في شعر كثير:«2» [الطويل]

وإنّي لأرعى قومها من جلالها

وإن أظهروا غشا نصحتهم جهدي

ولو حاربوا قومي لكنت لقومها

صديقا ولم أحمل على قومها حقدي

فأشير إلى الغريض أن اسكت، وفطن يزيد، فقال: دعوا أبا يزيد يغنيني بما يريد، فأعاد عليه الصوت مرارا، ثم قال: زدني مما عندك، فغناه في شعر عمرو بن شأس الأسدي:«3» [الطويل]

فوا ندمي على الشّباب وواندم

ندمت وبان اليوم منّي بغير ذم

أرادت عرارا بالهوان ومن يرد

عرارا لعمري بالهوان فقد ظلم [18]

قال: فطرب يزيد وأمر له بجائزة سنيّة.

ص: 55

قال إسحاق: فحدثت أبا عبد الله هذا الحديث، وكنا قد أخذنا في أحاديث الخلفاء، ومن كان يسمع الغناء، فقال أبو عبد الله: كان قدوم يزيد مكة وبعثه إلى الغريض سرّا قبل أن يستخلف، قلت له: فلم أشير إلى الغريض: اسكت حيث غنّاه:

وإني لأرعى قومها من جلالها

وما السبب في ذلك؟ قال: أنا أحدثك، حدثني أبي قال: كان عبد الملك بن مروان أشدّ الناس حبا لعاتكة بنت يزيد بن معاوية امرأته، وهي أم يزيد بن عبد الملك، فغضبت مرة على عبد الملك، وكان بينهما باب فأغلقته فشق غضبها على عبد الملك، وشكا إلى خاصته، فقال له عمرو بن بلال الأسدي: مالي عندك إن رضيت؟ قال: حكمك، فأتى [عمر] بابها، فجعل يتباكى، وأرسل إليها بالسلام، فخرجت إليه خاصّتها «1» وجواريها، فقلن: مالك؟ قال: فزعت إلى عاتكة في أمر رجوتها له، فقد علمت مكاني من «2» أمير المؤمنين معاوية ومن أبيها بعده، قلن: ومالك؟ قال: ابناي لم يكن لي غيرهما، فقتل أحدهما صاحبه، وقال أمير المؤمنين: أنا قاتل الآخر به، فقلت: يا أمير المؤمنين، أنا الولي وقد عفوت، قال: لا أعوّد الناس هذه العادة، وقد رجوت أن يحيي الله ابني هذا على يدها، فدخلن عليها فذكرن لها ذلك، فقالت: فكيف أصنع مع غضبي عليه وما أظهرت له؟ قلن: إذا والله يقتل، فلم يزلن «3» بها حتى دعت ثيابها فأحضرنها، ثم خرجت نحو الباب، وأقبل جريج الحصيني «4» فقال: يا أمير

ص: 56

المؤمنين، هذه عاتكة قد أقبلت، قال: ويلك ما تقول، قد والله طلعت فأقبلت فسلّمت، فلم يردّ عليها السلام، فقالت: والله لولا عمرو ما جئت، تعدّى أحد ولديه على الآخر، وأردت قتل الآخر، وهو الولي، وقد عفا، قال: إني أكره أن أعّود الناس هذه العادة، قالت: أنشدك الله يا أمير المؤمنين، قد عرفت مكانه من أمير المؤمنين معاوية، ومن أمير المؤمنين يزيد، وهو ببابي، فلم تزل به حتى أخذت برجله فقبلتها، فقال: هولك، فلم يبرحا حتى اصطلحا، ثم راح عمرو ابن بلال على عبد الملك، فقال: يا أمير المؤمنين، كيف رأيت؟ قال: رأينا أثرك، فهات حاجتك، قال: مزرعة بعبيدها «1» وما فيها وألف دينار، وفرائض لولدي وعيالي، قال: ذلك لك، ثم اندفع عبد الملك [19] فتمثل بقول كثير:«2» [الطويل]

وإني لأرعى قومها من جلالها

ثم علمت «3» عاتكة ما أراد، فلما غنّى يزيد بهذا الشعر، كره مواليه، إذ كان عبد الملك تمثّل به في أمّه. قال أبو عبد الله «4» ، واما خبره لما غنى بشعر عمرو بن شأس، فإن ابن الأشعث «5» لما قتل، بعث الحجاج إلى عبد الملك برأسه مع عرار بن عمرو بن شأس، فلما ورد به، وأوصل كتاب الحجاج إليه، جعل عبد الملك يقرأه، وكلما شك في شيء سأل عرارا عنه فأخبره، فعجب عبد الملك

ص: 57

من بيانه وفصاحته مع سواده، فقال عبد الملك متمثلا:«1» [الطويل]

وإن عرارا إن يكن غير واضح

فإنّي أحبّ الجون ذا المنكب العمم

فضحك عرار من قوله ضحكا غاظ عبد الملك، فقال له: ممّ ضحكت ويلك؟

قال: ألا تعرف عرارا يا أمير المؤمنين الذي قيل فيه هذا الشعر؟

قال: لا، قال: فأنا والله هو، فضحك عبد الملك وقال: حقّ وافق حكمة «2» ، وأحسن جائزته وسّرحه. قال أبو عبد الله: وإنما أراد الغريض [أن] يغنّي يزيد بتمثيلات عبد الملك وسائر أموره.

قال يونس الكاتب: حدثني معبد قال خرجت إلى مكة في طلب لقاء الغريض وقد بلغني حسن غنائه في لحنه: «3» [الطويل]

وما أنس م الاشياء لا أنس شادنا

بمكّة مكحولا أسيلا مدامعه

وقد كان بلغني أنه أول لحن صنعه، وأنّ الجنّ نهته أن يغنيه، لأنه فتن طائفة منهم من مكة لأجل ذلك وحسنه، فلما قدمت مكة سألت عنه فدللت على منزله، فأتيته فقرعت الباب، فما كلمني أحد، فسألت بعض الجيران، فقلت: هل في الدار أحد؟ قالوا: نعم، الغريض، فقلت: إني قد أكثرت دقّ الباب فما أجابني أحد، قالوا:

إن الغريض هناك، فرجعت فدققت الباب فلم يجبني، فقلت: إن نفعني غنائي يوما من الدهر نفعني اليوم، فاندفعت فغنيت لحني في شعر جميل:«4» [الطويل]

ص: 58

علقت الهوى [منها] وليدا فلم يزل

إلى اليوم ينمي حبّها ويزيد

فو الله ما سمعت حركة الباب، فقلت: بطل سحري وضاع تعبي، وجئت أطلب ما هو [ص 20] عسير عليّ، واحتقرت نفسي، وقلت: لم يتوهمني «1» لضعف غنائي عنده، فما شعرت إلا بصائح يصيح بي: يا معبد، ابلغني أفهم، وبلّغ عنّي شعر جميل الذي تغنّي [فيه] يا شقي البخت، وغنى:«2» [الطويل]

ولا أنس م الأشياء لا أنس قولها

وقد قربت نضوي أمصر تريد

ولا قولها لولا العيون التي ترى

أتيتك فاعذرني فدتك جدود

خليليّ ما أخفي من الوجد باطن

ودمعي بما قلت الغداة شهيد

يقولون جاهد يا جميل بغزوة

وأيّ جهاد غيرهنّ أريد

لكل حديث بينهن بشاشة

وكل قتيل بينهن شهيد

قال: فلقد سمعت شيئا لم أسمع قط أحسن منه، وقصر إلى نفسي، وعلمت فضله عليّ، وقلت: إنه لحريّ بالاستتار من الناس ترفيها «3» لنفسه، وتعظيما لقدره، وإن مثله لا يستحق الابتذال، ولا أن يتداوله الرجال، فأردت الانصراف إلى المدينة راجعا، فلما كنت غير بعيد، إذا بصائح يصيح: يا معبد، انتظر أكلمك، فرجعت فقال لي: إن الغريض يدعوك، فأسرعت فرحا، فدنوت من الباب، فقال: أتحب الدخول، فقلت: وهل إلى ذلك من سبيل؟ فقرعت الباب، فقال لي: ادخل، فدخلت فإذا الشمس طالعة في بيت، فسلمت، فردّ عليّ السلام، ثم قال: اجلس فجلست، فإذا أنبل الناس وأحسنهم وجها وخلقا

ص: 59

وخلقا، فقال: يا معبد كيف تطرّيت «1» إلى مكة؟ فقلت: جعلت فداك: وكيف عرفتني؟ قال: بصوتك، فقلت: وكيف ولم تسمعه قط؟ فقال: لما غنيت عرفتك، وقلت: إن كان معبد في الدنيا فهذا، فقلت جعلت فداك كيف أحسنت «2» بقولك:

ولا أنس م الأشياء لا أنس قولها

وقد قربت نضوي أمصر تريد

فقال: علمت أنك تريد تسمع صوتي: «3» [الطويل]

وما أنس م الأشياء لا أنس شادنا

بمكة مكحولا أسيلا مدامعه

فلم يكن إلى ذلك سبيل، لأنه صوت قد نهيت أن أغنيه، فغنيتك هذا الصوت، جوابا لما سألت، فقلت: والله ما عدوت ما أردت، فهل لك حاجة؟

فقال: يا أبا عبّاد، لولا ملالة الحديث وثقل إطالة الجلوس، لاستكثرت منك، فاعذر، فخرجت من عنده [ص 21] وإنه لأجل الناس عندي، ورجعت فما رأيت إنسانا هو «4» أعظم منه في عيني، وذكرت جميلا وبثينة، فقلت: لئن أصبت إنسانا يحدثني بقصة جميل وقوله هذا الشعر، فسألت عن ذلك، فإذا الحديث مشهور، وقيل: إن أردت أن تخبر بما شاهدته فأت بني حنظلة فإن فيهم شيخا منهم يقال له فلان فيخبرك الخبر، فأتيت الشيخ فسألته فقال: نعم بينا أنا في إبل في الربيع إذا أنا برجل منطو على راحلته كأنه جان، فسلم عليّ ثم قال لي: ممن أنت يا عبد الله [فقلت] : أحد بني حنظلة، قال: فنسبني حتى بلغت فخذي الذي أنا منه، ثم سألني عن بني عذرة، فقلت هل ترى ذلك السفح «5»

ص: 60

فإنهم نزلوا من ورائه، قال: يا أخا بني حنظلة، هل لك في معروف تصنعه إلي؟

فو الله لو أعطيتني ما أصبحت تسوق إليه من الإبل ما كنت أشكر مني لك عليه، فقلت ومن أنت اولا؟ فقال: لا تسألني من أنا ولا أخبرك [غير] أني رجل بيني وبين هؤلاء القوم ما يكون بين بني العم، فإن رأيت أن تأتيهم فإنك تجد القوم في مجلسهم فتنشدهم بكرة أدماء»

تجرّ خفّيها عبلاء واسمة «2» ، فإن ذكروا لك شيئا فذاك، وإلا استأذنتهم في البيوت وقلت: إن الصبي والمرأة يريان مالا يرى الرجال، فتنشدهم ولا تدع أحدا تصيبه عينك، ولا بيتا من بيوتهم، إلا وأنشدتها فيه، فأتيت القوم، فإذا بهم على جزور يقسمونها، فسلمت وانتسبت، وذكرت لهم ضالتي فلم يذكروا لي شيئا، فاستأذنتهم في البيوت، وقلت: إن الصبي والمرأة يريان ما لم ير الرجل، فأذنوا إليّ، فأتيت أقصى بيت، ثم استقريتها بيتا بيتا، فلا يذكرون لي شيئا حتى انتصف النهار وآذاني حرّ الشمس وعطشت، وفرغت من البيوت، وذهبت لأنصرف فحانت مني التفاتة فرأيت ثلاثة أبيات، فقلت: ما عند هؤلاء، إلا ما عند غيرهم، ثم قلت لنفسي سوءة ونوى زعم أن حاجته تعدل مالي، ثم أتيته فأقول: عجزت عن ثلاثة أبيات، فانصرفت عائدا إلى أعظمها بيتا، فإذا هو قد أرخى مقدمه ومؤخره، فسلمت فرد السلام، وذكرت لهم ضالتي، فقالت [جارية منهم]«3» يا عبد الله، قد أصبت ضالتك، وما أظنك إلا وقد اشتد عليك الحر واشتهيت الشراب، فقلت: أجل فدخلت [الجارية] فأتتني بصحفة فيها تمر من [ص 22] تمر هجر «4» وقدح فيه لبن، والصفحة مضرية والقدح مفضض، لم أر إناء قطّ أحسن

ص: 61

منه، فقالت: دونك، فأكلت وشربت من اللبن حتى رويت، ثم قلت: يا أمة الله، ما أنست اليوم أكرم منك، ولا أحقّ بالفضل، فهل ذكرت من ضالتي ذكرا؟

فقالت: أجل، ترى هذه الشجرة فوق الشرف «1» ، قلت: نعم، قالت: فإن الشمس غربت أمس وهي تطيف حولها، ثم حال الليل بيني وبينها، فقمت وجزيتها الخير، وقلت: والله لقد تغدّيت وتروّيت، فخرجت حتى أتيت الشجرة، فأطفت بها، فو الله ما رأيت من أثر، فانصرفت إلى صاحبي، فإذا هو متّشح في الإبل بكسائه، ورافع عقيرته «2» يغني، فقلت: السلام عليك، قال:

وعليكم السلام، قال: ما وراءك؟ قلت: ما ورائي من شيء، قال: لا عليك، فأخبرني بما فعلت، قال: فقصصت عليه القصة، حتى انتهيت إلى ذكر المرأة وأخبرته بالذي صنعت، قال: قد أصبت ضالتك، فعجبت من قوله ولم أجد شيئا، ثم سألني عن صفة القدح والصفحة، فوصفتها له، فتنفّس الصعداء، ثم قال: أصبت طلبتك، ثم ذكرت له الشجرة وأنها رأتها تطيف بها، فقال:

حسبك، فمكثت حتى إذا أوت إبلي إلى مباركها، دعوته إلى العشاء، فلم يدن، وجلس عني بمزجر الكلب، فلما ظنّ أنّي قد نمت رمقته، فقام إلى عيبة «3» له، فاستخرج منها بردين، فأتزر بأحدهما، وارتدى بالآخر، ثم انطلق عامدا نحو الشجرة، واستبطنت الوادي، فجعلت أحضر، حتى إذا خفت أن يراني انبطحت فلم أزل كذلك حتى سبقته إلى شجرات قريبة من تلك الشجرة حيث أسمع كلامهما، فاستترت بهما، وأقبل حتى إذا كان غير بعيد، قالت: اجلس، فو الله لكأنه لصق بالأرض، فسلم عليها وسألها عن حالها أكرم سؤال ما سمعته قط،

ص: 62

وأبعده عن كل ريبة، وسألته عن مثل مسألته، ثم أمرت الجارية فقربت إليه طعاما، فلما أكل، قالت: أنشدني ما قلت فأنشدها: «1» [الطويل]

علقت الهوى منها وليدا فلم يزل

إلى اليوم ينمي حبّها ويزيد

ولم يزالا يتحدثان، ما يقولان فحشا ولا هجرا، حتى التفتت التفاتة فرأت الصبح قد طلع، فودع كل منهما صاحبه أحسن وداع سمعته، ثم انصرفا فمضيت إلى إبلي فاضطجعت، وكل واحد منهما يمشي خطوة ويتلفت إلى صاحبه، فجاء بعد ما أصبحنا، فرفع برديه ثم [ص 23] قال: يا أخا بني حنظلة «2» ، حتى متى تنام، فقمت وتوضأت وصليت، وأعانني عليها وهو أظهر الناس سرورا، ثم دعوته إلى الغداء، فتغدينا ثم قام إلى عيبته ففتحها، فإذا فيها السلاح وبردان مما كسته الملوك، فأعطاني أحدهما، وقال: والله لو كان معي شيء ما ذخرته عنك، وحدثني حديثه وانتسب إليّ، فإذا [هو] جميل بن معمر، والمرأة بثينة، وقال لي:

إني قد قلت أبياتا في منصرفي من عندها، فهل لك في أن أنشدها لك؟

قال نعم: «3»

ولا أنس م الأشياء لا أنس قولها

وقد قربت نضوي أمصر تريد؟

الأبيات، ثم ودعني وانصرفت، فمكث حتى أخذت إبلي مراتعها، ثم عمدت إلى دهن كان معي فدهنت به رأسي، ثم ارتديت بالبردة وأتيت المرأة، فقلت: السلام عليكم، إني جئت أمس طالبا، وجئت اليوم زائرا، فتأذنون؟

فقالت: نعم، فجعلت جارية تقول: يا بثينة، عليه برد جميل، فجعلت أثني

ص: 63

على ضيفي وأشكره، فقلت: إنه ذكرك فأحسن الذكر، فهل أنت بارزة [لي] حتى أنظر إليك، قالت نعم، فلبست ثيابها ثم برزت، ودعت لي بطرف، وقالت: يا أخا «1» بني تميم، والله ما ثوباك هذا بمشتبهين، ودعت بعيبتها وأخرجت لي ملحفة مروية «2» مشبعة من العصفر، ثم قالت: أقسمت عليك لتقومنّ إلى كسر البيت لتخلعنّ مدرعتك «3» ثم لتأتزرنّ بهذه الملحفة، فهي أشبه ببردك، فقمت ففعلت وأخذت مدرعتي بيدي فوضعتها إلى جانبي، وأنشدتها الأبيات فدمعت عيناها، وتحدثنا طويلا من النهار، ثم انصرفت إلى إبلي بملحفة بثينة وبردة جميل، ونظرة من بثينة. قال [معبد] فجزيت الشيخ خيرا وانصرفت من عنده، وأنا أحسن الناس حالا بنظرة من الغريض واستماع غنائه، وعلم بحديث جميل وبثينة، فيما غنيّت أنا به، وفيما غنّى به الغريض، على حق ذلك وصدقه، فما رأيت قط ولا سمعت بزوجين أحسن من جميل وبثينة، ومن الغريض ومنّي.

قال: قدم الوليد بن عبد الملك مكة فأراد أن يأتي الطائف، فقال: هل من رجل عالم يخبرني عنها؟ فقالوا: عمر بن أبي ربيعة، قال: لا حاجة لي به، ثم دعا فسأل فذكروه إياه، فقال: هاتوه، فأتوا به، فركب [ص 24] معه، ثم جعل يحدثه، ثم حول عمر رداءه ليصلحه على نفسه، فإذا على ظهره أثر، فقال الوليد: ما هذا الأثر؟ فقال: كنت عند جارية لي، إذ جاءتني جارية برسالة جارية أخرى، فجعلت تسارّني، فعضّت التي كنت عندها منكبي، فما وجدت ألم عضتها من لذة ما كانت تلك تنفث في أذني حتى بلغت ما ترى، فضحك الوليد، فلما رجع عمر، قيل له: ما الذي كنت تضحك به أمير المؤمنين؟ قال:

ص: 64

ما زلنا في حديث الزّنا حتى رجع، وكان حمل الغريض معه، فقال له: يا أمير المؤمنين، إن عندي أجمل الناس وجها وأحسنهم حديثا، فهل لك أن تسمعه؟

فقال: هاته، فدعا به، فقال له: أسمع أمير المؤمنين أحسن شيء قلته، فاندفع يغني بشعر جميل:«1» [الكامل]

إني لأحفظ سرّكم ويسرّكم

لو تعلمين بصالح أن تذكري

ويكون يوم لا أرى لك مرسلا

أو نلتقي فيه عليّ كأشهر

يا ليتني ألقى المنيّة بغتة

إن كان يوم لقائكم لم يقدر

ما كنت والوعد الذي تعدينه

إلا كبرق سحابة لم تمطر

تقضى الديون وليس ينجز عاجلا

هذا الغريم لنا وليس بمعسر «2»

قال: فاشتد سرور الوليد بذلك وقال: يا عمر، هذه رقيتك، ووصله وكساه [وقضى] حوائجه.

قال: وكانت وفاة الغريض في أيام سليمان بن عبد الملك، أو عمر بن عبد العزيز ولم يتجاوزها، وكان موته باليمن، لأن الوليد كان ولى نافع بن علقمة مكة، فهرب منه الغريض، فأقام باليمن واستوطنها مدة، ثم مات بها.

قال عمر بن شبّة «3» : زعم المكيّون أنّ الغريض أتى بلادا من بلاد الجنّ، فغنّى ليلا:«4» [مجزوء الوافر]

ص: 65

هم ركب لقي ركبا

كما قد يجمع السّيل

فصاح به صائح اكفف يا أبا مروان فقد سفّهت حلماءنا، وأصبيت سفهاءنا، قال: فأصبح ميتا.

قال إسحاق، قال أبو قبيل: رأيت الغريض في عرس أو ختان لبعض مواليه، فقيل له: تغنّ، فقال: هو ابن زانية إن فعل، فقال له بعض مواليه: فأنت هو والله كذلك، قال: أفكذلك أنا؟

قال: نعم، قال: أنتم أعلم، ثم أخذ الدّفّ فرمى به ثم مشى مشية «1» [ص 25] ، لم أر أحسن منها، ثم غنّى:«2» [الطويل]

تشرّب لون الرّازقيّ بياضه

أو الزعفران خالط المسك رادعه

فجعل يغنيه مقبلا ومدبرا حتى التوت عنقه، فخرّ صريعا، وما رفعناه إلا ميتا، فظنناه فالجا عاجله.

قال إسحاق: وحدثني ابن الكلبي عن أبي مسكين قال: إنما نهته الجنّ أن يغني هذا الصوت: «3» [الطويل]

وما أنس م الأشياء لا أنس شادنا

بمكة مكحولا أسيلا مدامعه

ص: 66