الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
32- محمّد بن الحارث بن بسخنّر
«1»
رئيس طرب يشجي صوته الورقاء إذا ناحت، وذات اللفاء (؟) إذا باحت، طالما صبّ الدموع دما، وصدّ الثاكل أن يتذكّر عدما، لو باكى السيل لاستوقفه إذ جرى، أو شاكى المسهد لأشغله عن الكرى، راق الخلفاء كأس عناية، واتخذوه لذماء «2» الروح أجل غذائه، فكانوا لا يرون سرورا بغيره يتمّ، ولا حبورا بسواه يلمّ.
قال أبو الفرج: كان قديما يغنّي بالمعزفة «3» [ص 95] وكانت تحمل معه إلى دار الخلافة، فمر غلامه بها يوما، فقال قوم كانوا جلوسا على الطريق: مع هذا الغلام مصيدة الفأر، قال بعضهم: لا، هذه معزفة محمد بن الحارث، فحلف يومئذ بالطلاق والعتاق لا يغنّي بمعزفة أبدا، أنفة [من] أن تشبه التي يغني بها بمصيدة الفار، فصار يغني مرتجلا، وكان أحسن الناس أخذا للغناء وأحسنهم أداة.
قال أبو عبد الله الهاشمي، سمعت إسحاق المصعبي يقول للواثق، قال لي إسحاق بن إبراهيم الموصلي: ما قدر أحد أن يأخذ شيئا مستويا إلا محمد بن الحارث، فقال له الواثق: حدثني إسحاق عن إسحاق الموصلي بكذا وكذا، قال: قد قال لي إسحاق مرارا، قال له الواثق: فأي شيء أحدث من صنعته أحسن عندك؟ فقال: هو يزعم أنه لم يأخذ منه أحد قط هذا الصوت كما أخذته، وهو هذا:«4» [الطويل]
إذا المرء قاسى الدهر وأبيضّ رأسه
…
وثلّم تثليم الإناء جوانبه
فليس له في العيش خير وإن بكى
…
على العيش أو رجّى الذي هو كاذبه
فأمره الواثق أن يغنيه إياه، فأحسن واستعاده الواثق منه، فاستحسنه، وأمر برده مرارا حتى أخذه الواثق، وأخذه جواريه والمغنون.
وذكر يحيى المنجم أن إسحاق غنّى بحضرة الواثق: «1» [الطويل]
ذكرتك إذ مرت بنا أمّ شادن
…
أمام المطايا تشرئبّ وتسنح «2»
من المؤلفات الرّمل أدماء حرّة
…
شعاع الضحى من متنها يتوضّح «3»
فأمره الواثق أن يعيده على الجواري، وأحلفه بحياته أن ينصح فيه، فقال: لا يستطعن «4» الجواري أن يأخذنه مني، ولكن يحضر محمد بن الحارث فيأخذه مني، وتأخذه الجواري منه، فأحضره وألقاه عليه، فأخذه منه، وألقاه على الجواري.
قال أحمد بن الحسن بن هشام: جاءني محمد بن الحارث بن بسخنّر يوما، فقال لي: قم حتى أطفّل بك على صديق لي حر، وله جارية احسن خلق الله تعالى وجها وغناء، فقلت: أنت طفيليّ وتطفل بي؟ هذا والله [ص 96] أخس حال، وقمت معه فقصد بي دار رجل من فتيان (سرّ من رأى) كان لي صديقا، ويكنى أبا صالح، وقد غيّرت كنيته على سبيل اللقب «5» ، فلقّب أبا الصالحات، وكان
ظريفا حسن المروءة، ويضرب بالعود على مذهب الفرس ضربا حسنا، ولم يكن منزله يخلو من طعام وشراب، لكثرة من يقصده من إخوانه، فلما طرق بابه، قلت: فرجت عني [هذا]«1» صديقي، فدخلنا، وقدم لنا طعاما نظيفا فأكلنا، وأحضر النبيذ وأحضر جاريته، فغنت غناء حسنا، ثم غنت صوتا كانت أخذته من محمد بن الحارث، من صنعته، والشعر لابن أبي عيينة:«2» [الكامل]
ضيّعت عهد فتى لعهدك حافظ
…
في حفظه عجب وفي تضييعك
إن تقتليه وتذهبي بفؤاده
…
فبحسن وجهك لا بحسن صنيعك
فطرب محمد بن الحارث، ونقطها بدنانير مسيّفة «3» كانت في خريطته، ووجه بغلامه فجاءها ببرنية «4» فيها غالية فغلفها «5» منها، ووهبها الباقي، وكان معنا أخ لمحمد بن الحارث يكنّى أبا هارون ظريف طيب، فطرب ونعر ونخر «6» ، وقال لأخيه: والله إني أريد أن أقول لك شيئا في السر، وأسألك أن تخبرني هل فيه حرج، قال: قله علانية، قال: لا يصلح، قال: والله ما بيني وبينك شيء أبالي أن أقوله جهرا، فقله، قال: أشتهي أن تسأل أبا الصالحات أن ينيكني، فعسى صوتي أن ينصلح ويطيب غنائي، فضحك أبو الصالحات، وخجلت الجارية وغطت وجهها.
قال أبو العباس: حدثني محمد بن الحارث بن بسخنّر عن ابنه، قال لي الرشيد:
أنا عليّ أن أتغدّى عندك في غد، قال: فضاق عليّ من الأرض العريض، فجئت إلى عبد الملك بن صالح وقلت له: قد وقعت في بلية، قال: وما هي؟
قلت: زعم الرشيد انه يتغدّى عندي غدا، فقال: اذهب ففرّغ جهودك للقلايا والمعلكة ولا يخفك بسوى ذلك، قال: ففعلت، فلما جاءني قال: دعني من تخليطك وهلم إليّ بقلايا «1» ومعلكة، قال: فجئت بها، فقال: ضع يدك على رأسي، واحلف لتصدقني، قال: فوضعت يدي على رأسه وحلفت [ص 97]، قال: من أشار عليك بهذا؟ قلت: عبد الملك بن صالح، قال: أما والله لو كان طولب بالعشرة آلاف التي عليه، لما تفرغ لفضول الرأي.
قال محمد بن الحارث: كنت مع المأمون وهو يريد بلاد الروم، ومعه عدة من المغنين، فجلس يوما والمعتصم والعباس، فبعث المأمون بأصل شاهسفوص «2» وقد لفّ على رأسه حرير، فجاءني الغلام وقال: أعد الصوت، فأخذته وشممته، ووثبت فغنيته قائما، ووضعت الأصل بين يديّ وقلت للمغنين: حكم لي أمير المؤمنين عليكم بالحذق «3» بالغناء، قالوا: وكيف: [قال] قد دفع إليّ لواء الغناء من بينكم، قالوا: ليس كما ذكرت، ولكن حيّاك إذ أطربته، والرسول قائم، فانصرف بالخبر، فما لبث أن رجع فقال: كما قلت.
قال: صنع محمد بن الحارث لحنا في: «1» [مجزوء الكامل]
أصبحت عبدا مسترقّا
…
أبكي الألى سكنوا دمشقا
أعطيتهم قلبي فمن
…
يبقى بلا قلب فأبقى
وطرحه على المسدود الطنبوري، فوقع له موقعا حسنا، واستحسنه محمد بن الحارث منه، فقال له: أتحبّ أن أهبه لك؟ قال: نعم، قال: قد فعلت، وكان يغنيه ويدعيه، إنما هو لمحمد بن الحارث.
قال: دعا إسحاق بن إبراهيم المصعبي المأمون، فصار إليه معه المعتصم وعبد الله ابن طاهر وسائر جلسائه ومغنيه، فلما جلس المأمون على شرابه، كان ممن حضر المجلس من المغنين محمد بن الحارث، وقد شاع في المأمون الطرب، فغناه:«2» [المنسرح]
لو كان حولي بنو أميّة لم
…
تنطق رجال أراهم نطقوا
قال: فغضب المأمون، ودارت عينه في رأسه، وكان لا يكاد يغضب، فإذا غضب بلغ غاية الغضب، ثم التفت إليه فقال: تغنّيني في وقت سروري «3» ، وساعة طربي في شعر تمدح فيه أعدائي، وأنت مولاي، وربيب نعمتي؟ ادعوا أحمد [ص 98] بن هشام، وكان على حرسه، وكان المأمون لا يمضي إلى موضع، إلا ومعه صاحب شرطته وحرسه، وكان احمد قاعدا في حراقة «4» على باب إسحاق في دجلة، فجاء أحمد حتى مثل بين يديه، وكان عبد الله بن طاهر قد قام ليجدد وضوءا، فقال أحمد: خذه إليك فاضرب عنقه وانتسفه من الأرض، ومرّ به مبادرا