الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث: في النقاء المتخلل بين الدمين
إذا كانت المرأة أحياناً ترى دماً، وأحياناً ترى نقاء. فهل هذا النقاء يعتبر له حكم الحيض أم تعتبر فيه المرأة طاهرة؟.
في هذا خلاف كبير بين الفقهاء .. وأحياناً في المذهب الواحد عدة أقوال.
والذي يهمني أولاً أن أحرر الأقوال في كل مذهب دون أن أتعرض لها بالنقاش حتى يمكن أن يستوعبها القارئ، ثم أختم هذه الأقوال بالقول الراجح الذى أراه. وإليك أقوال المذاهب.
القول الأول: مذهب الحنفية
(1)
.
في مذهب الحنفية خمسة أقوال رواها خمسة من أصحاب أبي حنيفة.
القول الأول: رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة قال: إذا كان الطهر الفاصل بين الدمين أقل من خمسة عشر يوماً، لا يكون فاصلاً بين الدمين بل يجعل كالدم المتوالي.
مثاله: مبتدأة رأت يوماً دماً، وثلاثة عشر طهراً، ويوماً دماً. فالفاصل أقل من خمسة عشر يوماً. فعلى رواية أبي يوسف أن عشرة الأيام الأولى منذ رأت
(1)
شرح فتح القدير (1/ 172) البناية - العيني (1/ 655) البحر الرائق (1/ 216) الاختيار لتعليل المختار (1/ 27) تبيين الحقائق (1/ 60) المبسوط (3/ 157) الأصل (1/ 407) حاشية ابن عابدين (1/ 290) بدائع الصنائع (1/ 43 - 44).
الدم يعتبر حيضاً
(1)
، ويحكم ببلوغها.
التعليل لهذا القول: أن الطهر بين الدمين يعتبر طهراً فاسداً، لأن أقل الطهر الصحيح خمسة عشر يوماً. ولأن الطهر إذا كان لا يصلح للفصل بين الحيضتين، فلا يصلح للفصل بين الدمين.
قال في الهداية: "والأخذ بهذا القول أيسر"
(2)
.
القول الثاني: عند الحنفية:
رواية محمد عن أبي حنيفة ولمحمد روايتان
(3)
:
الأولى: قال: الطهر إذا تخلل بين الدمين في مدة الحيض، عشرة فأقل فهو كالدم المتوالي، وإلا فلا.
مثاله: رأت امرأة مبتدأة يوماً دماً، وثمانية أيام طهراً، ويوماً دماً فالعشرة حيض.
مثال آخر: امرأة مبتدأة رأت الدم يوماً، وتسعة أيام طهراً، ثم رأت يوماً دماً، فالجميع إحدى عشرة، فلا يصلح أن يكون حيضاً، لأن أكثر الحيض
(1)
فإن قيل: لماذا لم يعتبروا إلا بعشرة أيام، مع أنهم اشترطوا أن يكون الفاصل أقل من خمسة عشر يوماً، فالجواب: أن الحيض عندهم لا يزيد عن عشرة أيام، وإنما اشترطوا أقل من خمسة عشر يوماً؛ لأن أقل الطهر عندهم خمسة عشر يوماً، فأشترطوا أن يكون أقل منه، حتى لا يبلغ أقل الطهر. والله أعلم
(2)
الهداية (1/ 173).
(3)
الأصل (1/ 407) والبحر الرائق (1/ 216) وذكر أن لمحمد روايتين. والمبسوط (3/ 157).
عندهم عشرة أيام.
دليل هذا القول:
قالوا: استيعاب الدم مدة الحيض ليس بشرط بالإجماع، فيعتبر أوله وآخره.
دليل آخر: قالوا: قياساً على اشتراط النصاب في الزكاة، فكمال النصاب وحده شرط لوجوب الزكاة، ونقصانه في أثناء الحول لا يؤثر.
ورده ابن نجيم، فقال:"قياسها على النصاب غير صحيح؛ لأن الدم منقطع في أثناء المدة بالكلية، وفي المقيس عليه يشترط بقاء جزء من النصاب في أثناء الحول، وإنما الذى اشترط وجوده في الابتداء والانتهاء تمامه"
(1)
.
الرواية الثانية لمحمد: قال: إذا كان الطهر المتخلل أقل من ثلاثة أيام، فإنه لا يعتبر فاصلاً مطلقاً حتى ولو كان الطهر أكثر من مجموع الدم الأول والثاني، ويكون الطهر بمنزلة الدم المتوالي.
وإن كان الطهر ثلاثة أيام فصاعداً فينظر: فإن كان مقدار الطهر مساوياً لمجموع الدم الأول والثاني، أو كان الطهر أقل منهما في العشرة أيام، فإن الطهر في هذه الحال لا يكون فاصلاً، ويعتبر حيضاً.
وجه هذا القول:
اجتمع مبيح وحرام فغلب جانب الحرام، فالدم يوجب حرمتها، والطهر يوجب حلها، فغلب جانب التحريم.
(1)
البحر الرائق (1/ 217)
وإن كان الطهر أكثر من مجموع الدم الأول والثاني، فإن الطهر حينئذ يعتبر فاصلاً. ويبقى النظر: إن أمكن أن يجعل أحد الدمين حيضاً بنفسه جعل حيضاً، والآخر استحاضة، وإن أمكن أن يجعل كل واحد منهما حيضاً بنفسه جعل أسرعهما حيضاً، والثاني استحاضة.
وإن لم يمكن أن يجعل أحدهما حيضاً بنفسه، إلا أن يجمع الدم الأول مع الثاني، كان الجميع استحاضة، ولم يجعل شيء من ذلك حيضاً.
أمثلة لما سبق:
رأت امرأة مبتدأة يومين دماً، وسبعة أيام طهراً، ويوماً دماً فلا يعتبر شيء من هذا حيضاً؛ لأن الطهر أكثر من مجموع الدم الأول والثاني، فلا يضم الثاني إلى الأول؛ لأن الطهر في هذه الحال فاصل بين الدمين، والدم الأول بنفسه لا يعتبر حيضاً، وكذلك الدم الثاني بنفسه لا يعتبر حيضاً؛ لأن أقل واحد منهما لم يبلغ أقل الحيض.
مثال آخر: رأت امرأة مبتدأة الدم ثلاثة أيام، ثم طهرت خمسة أيام، ثم رأت يوماً دماً، فالطهر خمسة أيام، فهو أكثر من مجموع الدمين، فيعتبر فاصلاً، فلا يضم الأول للثاني، والدم الأول يصلح لأن يكون حيضاً؛ لأنه ثلاثة أيام، فهو حيضها والثاني استحاضة.
مثال ثالث: رأت ثلاثة أيام حيضاً، وثلاثة أيام طهراً، ثم رأت يوماً دماً، فالجميع حيض؛ لأن مجموع الدم الأول والثاني أكثر من الطهر.
مثال رابع: رأت يومين دماً، وثلاثة أيام طهراً، ويوماً دماً. فالجميع
حيض؛ لأن مجموع الدم مساو للطهر، فغلب جانب الدم.
هذان قولان لمحمد بن الحسن.
ولا أدري كيف تعقل المرأة الأمية هذا التفصيل! وما كانت مسائل الحيض بهذا التعقيد.
القول الثالث: رواية ابن المبارك وزفر عن أبي حنيفة.
قالوا: إذا بلغ مجموع الدم في أيام الحيض العشرة أقل الحيض، وهو ثلاثة أيام، ولا عبرة بالطهر في العشرة. فلو رأت يوماً دماً في أول العشرة، ثم سبعة أيام طهراً، ثم رأت يومين دماً كان الجميع حيضاً. لأن الدم بلغ أقل الحيض وهو ثلاثة أيام.
أما لو رأت يوماً دماً في أول العشر ثم رأت ثمانية أيام طهراً ثم رأت يوماً دماً فلا يعتبر الدم حيضاً؛ لأنه لم يبلغ أقل الحيض.
ولو رأت يوماً دماً في أول العشر، ويوماً في وسطها، ويوماً في آخر العشر كان الجميع حيضاً.
وجه هذه الرواية:
أقل الحيض عندهم ثلاثة أيام، فإذا رأت دماً أقل من ثلاثة أيام، لم يكن الدم صالحاً لأن يكون حيضاً، فكذلك الطهر لا يصلح أن يكون حيضاً من باب أولى.
وإذا كان الدم صالحاً لأن يكون في نفسه حيضاً كان الطهر حيضاً تبعاً لذلك.
القول الرابع: رواية الحسن بن زياد عن أبي حنيفة.
قال: إذا كان الطهر المتخلل بين الدمين، دون ثلاثة أيام، لا يصير فاصلاً، فكان كله كالدم المتوالي
…
وإذا بلغ الطهر ثلاثة أيام بلياليها كان فاصلاً مطلقاً، سواء كان الدم أكثر من الطهر، أو مساوياً له، أو أقل منه.
أمثلة:
لو رأت ساعة دماً، وثلاثة أيام إلا ساعة طهراً، وساعة دماً، فالكل حيض؛ لأن الطهر لم يبلغ ثلاثة أيام فلم يعتبر فاصلاً، واعتبر الجميع حيضاً.
مثال آخر: لو رأت يومين دماً، وثلاثة أيام طهراً ويومين دماً، لم يكن شيء منه حيضاً؛ لأن الطهر حين بلغ ثلاثة أيام كان فاصلاً، فلم يضم الأول للثاني، والأول بنفسه لا يصلح أن يكون حيضاً. وكذا الثاني لا يصلح بنفسه أن يكون حيضاً، فلم يعتبر الجميع حيضاً علماً أن مجموع الدم الأول والثاني أكثر من الطهر.
مثال ثالث: رأت ثلاثة أيام دماً، وثلاثة أيام طهراً، ثم ثلاثة أيام دماً فالطهر فاصل بين الدمين، لأنه بلغ ثلاثة أيام، ولما كان الدم الأول والدم الثاني يصلح كل واحد منهما أن يكون حيضاً بنفسه، اعتبر الأول لأنه أسرعهما إمكاناً، والثاني استحاضة.
هذه هي الروايات في مذهب الحنفية، وقد أكثرت من الأمثلة ليتضح القول للقارئ، وكلها مبنية إما على مجرد الرأي المحض، أو بناء على أن أقل
الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة أيام، وقد بينت أنه لا حد لأقل الحيض ولا لأكثره في مسألة مستقلة فارجع إليها إن شئت.
والمتأخرون من الحنفية يرجحون رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة. على رواية محمد بن الحسن، قال ابن نجيم:"الأخذ بقول أبي يوسف أيسر، وكثير من المتأخرين أفتوا به، لأنه أسهل على المفتي، والمستفتي، ولأن في قول محمد وغيره، تفاصيل يحرج الناس في ضبطها، وقد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أَيسرهما"
(1)
.
وقال الزيلعي والعيني: نحوه
(2)
.
المذهب المالكي في الحيضة المتقطعة
(3)
.
قالوا: المرأة إذا أتاها دم، ثم انقطع، ثم نزل دم آخر، فإن كان بين الدمين طهر صحيح خمسة عشر يوماً فالدم الثاني حيض مستأنف، وإن كان الطهر لا يبلغ نصف شهر كأن يأتيها الدم يوماً ثم تطهر يومين ثم يأتيها يوماً آخر وهكذا، فإنها تلفق أيام الدم بعضها على بعض .. فإن كانت مبتدأة فإنها تلفق أيام الدم فقط خمسة عشر يوماً ولا تلفق الطهر.
وإن كانت معتادة تلفق مقدار عادتها وأيام الاستظهار ثلاثة أيام، فما نزل
(1)
البحر الرائق (1/ 216).
(2)
تبيين الحقائق (1/ 60) والبناية (1/ 656).
(3)
الشرح الصغير (1/ 212)، أسهل المدارك (1/ 89) مقدمات ابن رشد (1/ 132) مواهب الجليل (1/ 369 - 370) منح الجليل (1/ 169 - 170).
عليها بعد ذلك فاستحاضة لا حيض.
وحكم الملفقة أنها تغتسل وجوباً كما انقطع دمها وتصوم، وتوطأ.
هذا ملخص مذهب المالكية.
المذهب الشافعي إذا رأت يوماً دماً ويوماً نقاء
(1)
.
وقبل التفصيل في المذهب نبين أن القول في المسألة كما قال النووي: فيما إذا كان النقاء زائداً على الفترات المعتادة بين دفعات الحيض، فأما الفترات فحيض بلا خلاف. والفرق بين الفترة والنقاء، هو ما نص عليه الشافعي في الأم والشيخ أبو حامد الاسفرائيني، وصاحبه القاضي أبو الطيب الطبري على أن الفترة: هى الحالة التي ينقطع فيها جريان الدم، ويبقى لوث وأثر بحيث لو أدخلت فى فرجها قطنة يخرج عليها أثر الدم من حمرة أو صفرة أو كدرة، فهي في هذه الحالة حائض قولاً واحداً طال ذلك أم قصر.
وأما النقاء: هو أن يصير فرجها بحيث لو جعلت القطنة فيه لخرجت بيضاء
(2)
.
وذكر النووي أيضاً: أن الخلاف إنما هو في الصلاة والصوم والطواف والقراءة والغسل، والاعتكاف والوطء ونحوها، وأما في العدة فلا خلاف أن النقاء ليس بطهر في انقضاء العدة، وكون الطلاق سنياً
(3)
، وحكاه إجماعاً
(1)
المجموع (2/ 517) مغني المحتاج (1/ 119) الحاوي (1/ 424).
(2)
المجموع (2/ 522).
(3)
المجموع أيضاً (2/ 518).
صاحب مغني المحتاج
(1)
. هذا إذا لم يعتبر خلاف ابن حزم، فإن ابن حزم لا يمانع أن تنقضي العدة بثلاثة أو أربعة أيام كما قدمنا في الخلاف في أقل الطهر. إذا تصور هذا، نأتي إلى المسألة في مذهب الشافعية فنقول:
المرأة إذا رأت يوماً دماً ويوماً نقاء فلها حالان:
الأولى: أن ينقطع دمها، ولا يتجاوز خمسة عشر يوماً.
الثاني: أن يتجاوز دمها خمسة عشر يوماً.
الحال الأولى: إذا لم يتجاوز ففيه قولان مشهوران.
أحدها: أن أيام الدم حيض، وأيام النقاء طهر.
التعليل: لأن الدم إذا دل على الحيض، وجب أن يدل النقاء على الطهر. وهذا يسمى قول اللفظ أو التلفيق.
الثاني: أن أيام الدم وأيام النقاء كلها حيض. ويسمى قول السحب واختلف الشافعية في الأصح منهما.
قال النووي: "صحيح الأكثرون قول السحب"
(2)
.
وقال المرداوي: "الذى صرح به الشافعي في سائر كتبه أن كل ذلك حيض أيام الدم وأيام النقاء"
(3)
.
ووجهه: أن عادة النساء في الحيض مستمرة بأن يجري الدم زماناً، ويرقأ
(1)
مغني المحتاج (1/ 119).
(2)
المجموع (2/ 518).
(3)
الحاوي (1/ 424).
زماناً، وليس من عادته أن يستديم جريانه إلى انقضاء مدته، فلما كان زمان إمساكه حيضاً، لكونه بين دمين، كان زمان النقاء حيضاً لحصوله بين دمين. فعلى هذا تكون الخمسة عشر كلها حيضاً. يحرم عليها فى أيام النقاء ما يحرم عليها في أيام الحيض.
وسواء قلنا بالتلفيق أو بالسحب إذا رأت النقاء في اليوم الثاني عملت عمل الطاهرت بلا خلاف؛ لأنا لا نعلم أنها ذات تلفيق لاحتمال دوام الانقطاع، قالوا: فيجب عليها أن تغتسل وتصوم، وتصلي، ولها قراءة القرآن، ومس المصحف والطواف، والاعتكاف، وللزوج وطؤها. فإذا عاودها الدم في اليوم الثالث تبينا أنها ملفقة فإن كلنا بالتلفيق، تبين لنا صحة الصوم والصلاة، ونحوها، وإن قلنا بالسحب تبين لنا بطلان العبادات التي فعلتها في اليوم الثاني فيجب عليها قضاء الصوم والاعتكاف والطواف، والمفعولات عن واجب.
هذا حكم الشهر الأول، فإذا جاء الشهر الثاني فرأت اليوم الأول وليلته دماً، والثاني وليلته نقاء.
فقيل: تعمل كالشهر الأول، وهكذا لو جاءها في الشهر الثالث والرابع.
وقيل: البناء فيها على القول بثبوت العادة بمرة أو مرتين، فإن أثبتنا العادة بمرة، وقلنا بالسحب، فلا تغتسل ولا تصلي ولا تصوم فى فترة النقاء.
الحال الثاني: أن ترى يوماً دماً ويوماً نقاء ويتجاوز خمسة عشر يوماً، فهذه مستحاضة اختلط حيضها باستحاضتها. قال النووي: "هذا هو الصحيح المشهور الذي نص عليه الشافعي فى كتاب الحيض، وقطع به جماهير الأصحاب