الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أبواب الحج عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
[باب ما جاء في حرمة مكة]
لما كانت شرافة هذه البقعة الشريفة وكرامة تلك الأماكن اللطيفة تستدعي زيارتها من غير افتقار إلى وجوب الحج وفرضيته أشار إلى ذلك أولاً ثم ذكر بعده ما هو بصدده من ذكر الحج وأركانه وشرائط وجوبه وأدائه لتستقر في القلوب بسبب وفور الرغبات إليه.
قوله [عن أبي شريح العدوى] نسبة إلى عدي قبيلة من (بياض)(1) صحابي (2)[لعمرو بن سعيد] وكان مقعدًا زمنًا عاملاً ليزيد بن معاوية أرسله على مدينة النبي صلى الله عليه وسلم فلما فرغ من تخريبها وقتل أهلها وفعل ما فعل وحصل قتل حسين رضي الله عنه أرسله إلى مكة لقتل عبد الله بن الزبير وكان عبد الله بن الزبير هذا قد أخذ البيعة من أهل مكة ومن حواليها بعد موت معاوية رضي الله عنه، فذهب إليه عمرو بن سعيد وهذا الذي أشار إليه (3) في هذا الحديث بقوله وهو
(1) بياض في الأصل قال المجد عدى كغنى قبيلة وهو عدوى وعدى، وقال الحافظ في الفتح قوله [أي البخاري] عن أبي شريح العدوى كذا وقع ههنا وفيه نظر لأنه خزاعي من بني كعب بن ربيعة بطن من خزاعة ولهذا يقال له الكعبي أيضًا وليس هو من بني عدي لا عدي قريش ولا عدي مضر فلعله كان حليفًا لبني عدي بن كعب من قريش، وقيل في خزاعة بطن يقال لهم بنو عدي، انتهى.
(2)
صفة لأبي شريح فهو صحابي مشهور، قال العيني: اختلف في اسمه والمشهور خويلد بن عمرو أسلم قبل الفتح وسكن المدينة ومات بها سنة 68 هـ، انتهى.
(3)
أشار الشيخ بغاية الإجمال إلى شرح قوله وهو يبعث البعوث أي يرسل الجيوش إلى مكة لقتال ابن الزبير لكونه امتنع من مبايعة يزيد بن معاوية واعتصم بالحرم وكان عمرو وإلى يزيد على المدينة، قال الحافظ: والقصة مشهورة وملخصها أن معاوية عهد بالخلافة بعده ليزيد ابنه فبايعه الناس إلا الحسين رضي الله عنه وابن الزبير فأما ابن أبي بكر رضي الله عنه فمات قبل موت معاوية وأما ابن عمر رضي الله عنه فبايع ليزيد عقب موته أبيه، وأما الحسين رضي الله عنه فسار إلى الكوفة لاستدعائهم إياه ليبايعوه فكان ذلك سبب قتله وأما ابن الزبير فاعتصم بالمحرم وغلب على أمر مكة فكان يزيد بن معاوية يأمر أمراءه على المدينة أن يجهزوا إليه الجيوش.
يبعث البعوث إلى مكة، ثم اعلم أن عمرو بن سعيد هذا أقام على مكة مدة يجادل ويقاتل ويرمي على أهل مكة بالمجانق والنيران حتى احترقت وانهدمت أستار الكعبة حرسها الله وجدرانها ولكنه لم يقدر على قتل ابن الزبير إلى أن وصلت إليه بشارة نعي يزيد فانصرف عنها خائبًا خاسرًا، ثم ولى الخلافة بعده معاوية بن يزيد فجمع الناس وقال لهم اعلموا أن هذه الخلافة قد ارتكب فيها جدي ما لم يكن له أن يرتكب مع ما ناله من شرف الصحبة مع النبي صلى الله عليه وسلم وقد رأيتم من يزيد ما فعلها من سوء صنيعته بأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وإني لا آمن على نفسي أن أنال بها مكروهًا في ديني فخلع الخلافة عن نفسه، وقال لو من شئتم فتولى مروان فلم يتيسر له قتل ابن الزبير رضي الله عنه ثم لما وصلت النوبة إلى عبد الملك بن مروان وطلب الحجاج وجعله عاملاً قتل ابن الزبير رضي الله عنه في زمنه.
قوله [ايذن لي أيها الأمير] يعلم من ههنا أن الأمر بالمعروف مقيد بما لو رجئي الآمر لقبول ولم يخف على نفسه وإنه يجب أن يكون على حسب منزلة المقول له فإن أبا شريح مع كونه صحابيًا لم يقله لعمرو بن سعيد إلا بعد استئذانه منه.
قوله [سمعته أذناي] دفع بذلك ما يتوهم من أنه لعله سمعه بواسطة أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم [ووعاه قلبي] دفع بذلك شبهة النسيان والغلط وعدم فهم
معنى كلامه صلى الله عليه وسلم عن نفسه [وأبصرته عيناي] حين تكلم به أي كان بمرأى مني ومسمع فلا يتوهم أني ظننت غير النبي صلى الله عليه وسلم إياه ولا أنى لبعدي منه اشتبهت (1) في شيء من كلامه.
قوله [إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس] الجملة الثانية مؤكدة للأولى والغرض من قوله هذا أن تحريمها (2) لما كان منه سبحانه وتعالى كان قطعي العمل يخاف من هتك حرمتها ما يخاف من ارتكاب المنهيات الأخر وأما لو كان التحريم من الناس لم يكن في هتكها بأس فإنهم ناس ونحن أناس.
قوله [لا يحل لإمرئ يؤمن بالله] أشار بذلك إلى أن هتك حرمة البيت ليس من شأن المؤمن فإنه إذا كان مؤمنًا بالله وبشهوده بين يديه يوم القيامة كيف يتيسر له أن يهتك حرمة بيته وهذا الإقدام منه مشعر بقلة استيقانه وضعف إيمانه.
(1) يقال اشتبه في الأمر إذا شك فيه، واشتبه عليه الأمر إذا خفى عليه والتبس.
(2)
ويشكل عليه ما ورد عند التسخين وغيرهما من قوله صلى الله عليه وسلم أن إبراهيم حرم مكة وإني حرمت المدينة، الحديث، ويجاب عنه بأن نسبة الحكم إلى إبراهيم عليه السلام على معنى التبليغ وأن إبراهيم حرم بأمر الله تعالى لا باجتهاده أو أن الله قضى يوم خلق السماوات والأرض إن إبراهيم سيحرمها أو المعنى أن إبراهيم أول من أظهر تحريمها أو أول من أظهر بعد الطوفان، وقال القرطبي: معناه أن الله حرم مكة ابتداء من غير سبب ينسب لأحد ولا لأحد فيه مدخل قال ولأجل هذا أكد المعنى بقوله ولم يحرمها الناس، والمراد أن تحريمها ثابت بالشرع لا مدخل للعقل فيه أو المراد أنها من محرمات الله فيجب امتثال ذلك وليس من محرمات الناس يعني في الجاهلية كما حرموا أشياء من عند أنفسهم فلا يسوغ الاجتهاد في تركه، وقيل معناه أن حرمتها مستمرة من أول الخلق وليس مما اختصت به شريعة النبي صلى الله عليه وسلم كذا في الفتح.
قوله [أن يسفك بها] الأولى أن يكون الدم ههنا عامًا يشمل جميع ما له (1) روح وقيل بل المراد به دم الإنسان وسائر الحيوانات تبع له أو مقيس عليه قوله [ساعة من نهار] والمراد بها (2) مطلق الوقت لا الساعة العرفية وهي في يوم فتح مكة قوله [بالأمس] المراد بالأمس الزمان المتقدم مطلقًا ولا يبعد أن يراد به الأمس بالنسبة إلى ساعة التحليل.
قوله [أنا أعلم منك بذلك] إنما قال له أعلم نسبة إلى أبي شريح لأنه لم يستثن منه ما كان يجب استثناؤه، ولعله لم يستثن إما لعدم صدق الاستثناء ههنا لأن ابن الزبير لم يكن عاصيًا ولا فارًا بدم ولا خربة لأنه لم يخالف أمام حق وسيجيء بعض بيانه عند سرد (3) هذه الرواية أو لأن مذهبه كان مثل مذهبنا في أن من فر إليها بدم أو خربة (4) أو كان عاصيًا لا يجوز قتله هناك بل يضيق عليه حتى
(1) لا يقال يجوز فيها ذبح الحيوانات كالأنعام وقتل الفواسق من الغراب والحديا وغيرهما وإقامة الحدود والقصاص من القتل ونحوه فإن امتثال هذه الأمور مستنثاة بالبداهة والنصوص والمراد غير ما استثنى.
(2)
وقال الحافظ في الفتح: مقدارها ما بين طلوع الشمس وصلاة العصر.
(3)
يحتاج إلى تفتيش ولم أجده ولا يبعد أنه رحمه الله أراد الكلام عليه في موضع آخر فلم يتفق له.
(4)
قال أبو الطيب بفتح الخاء المعجمة وإسكان الراء بعدها موحدة وقد حكى فيها ضم الخاء قال عياض أراه وهما قال ابن العربي وفي بعض الروايات بكسر الخاء وزاي ساكنة بعدها مثناة تحتية أي ولا فارًا بشيء يخزي أن يستحيي منه وعلى الأول هي السرقة وقيل الخيانة وقيل الفساد في الدين، وقال الطيبي: أصلها سرقة الإبل ويطلق على كل خيانة وفي صحيح البخاري أنها البلية، وقال الخليل: هي الفساد في الدين من الخارب وهو اللص المفسد في الأرض وقيل هي العيب، انتهى.
يخرج فينتقم لعموم قوله تعالى {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا} ، ومذهب عمرو بن سعيد إما أن يكون مثل مذهب (1) الشافعي رحمه الله تعالى وظن ابن الزبير عاصيًا في نفس الأمر أو يكون هذا أيضًا من مفاسد طويته وخبث نيته، ومن ثم قيل لكلام عمرو بن سعيد الذي أجاب بها أبا شريح أنها كلمة حق أريد بها الباطل لأنه لا يصدق على ابن الزبير، ثم اتفقوا على إقامة الحدود والقصاص فيمن ارتكب الجناية ثمة إنما الخلاف بيننا وبين الشافعي رحمه الله فيمن جنى ثم دخل مكة وكذلك ما دخل في الحرم من صيد غير الحرم، فإن الشافعي رحمه الله يخرج جميع ذلك من الأمن ونحن على خلافه والاستثناء المتفق عليه بما ورد من العمومات في إقامة الحدود والقصاص، وبما ثبت من عمل الصحابة رضي الله عنهم، وسيجيء بعض بيانه حيث تيسر.
قوله [تابعوا إلخ] والمراد بقوله تابعوا بين الحج والعمرة الحث على موالاتهما والترغيب في الدوام على إتيانهما لا أن يقتصر على الفريضة فحسب ولا يرغب في النافلة قوله [وليس للحجة المبرورة] وهو (2) ما ليس فيه رفث ولا فسوق ولا
(1) قال العيني حكى القرطبي أن ابن الجوزي حكى الإجماع فيمن جنى في الحرم أنه يقاد منه وفيمن جنى خارجه ثم لجأ إليه عن أبي حنيفة وأحمد أنه لا يقام عليه، قال العيني: ومذهب مالك والشافعي يقام عليه ونقل ابن جزم عن جماعة من الصحابة المنع ثم قال: ولا مخالف لهم من الصحابة ثم نقل عن جماعة من التابعين موافقتهم، انتهى.
(2)
إشارة إلى أن قوله فلم يرفث إلخ في الحديث الثاني تفسير لقوله الحجة المبرورة والفسوق مطلق المعاصي والرفث ذكر الجماع بمحضر من النساء كذا أفاده في تقرير مولانا رضي الحسن المرحوم، قلت: هذا هو المشهور في تفسير الرفث وذكر أصحاب الفروع له تفسيران آخران ففي الهداية الرفث الجماع أو الكلام الفاحش أو ذكر الجماع بحضرة النساء، انتهى.
غيرهما من ترك الواجب أو ارتكاب المنهي عنه [ثواب إلا الجنة] ليس المراد بذكرها نفي ما سواها إنما ذكر أعظم أجزيتها ليدخل فيه ما دونها كنفي الفقر والذنوب إلى غير ذلك والصغائر مغتفرة لا محالة، ولا ضير (1) في العموم فإن الاستغفار والندامة لازمة.
قوله [من ملك زادًا وراحلة تبلغه (2) إلى بيت الله] زاد هذه الصفة (3) لئلا يتوهم وجوب الحجة على من ملك زادًا وراحلة دون ذلك وحيث أطلق ولم يوصف فالمراد به هو هذا والمراد بالزاد هو الذي يعتاده في الحضر فلا يجب عليه لو ملك أدون من ذلك، وكذلك المراد بالراحلة هي الراحلة في جميع السفر ذهابًا وإيابًا وترك ذكر المصير اتكالاً على الفهم.
قوله [فلا عليه أن يموت يهوديًا أو نصرانيًا] لأنه لما فعل فعلهم فإن لم يعتقد وجوب الحج فهو ظاهر وإن اعتقد ولم يحج فقد تشبه بهم وكان مثلهم في كفران نعمة الإسلام أو صار كواحد منهم لأنهم لا يعتقدون الحج لأنهم إنما يعظمون بيت المقدس لا الكعبة [وذلك أن الله تعالى يقول في كتابه إلخ] استدل بالكتاب على كلا الأمرين (4) اللذين بينهما بقول من ملك زادًا إلخ.
(1) كما سيأتي البسط في ذلك في كتاب الأمثال في باب مثل الصلوات الخمس.
(2)
بالتشديد والتخفيف من التفعيل والأفعال.
(3)
يعني أن قوله تبلغه زيد لإخراج من ملك زادًا وراحلة قليلاً بحيث لا تبلغه إلى المقصود ثم اتفقت الأئمة الثلاثة على أن الاستطاعة في الآية مفسرة بالزاد والراحلة وملكهما شرط لوجوب الحج والحديث حجة لهم وخالف في ذلك المالكية إذ فسروا الاستطاعة بإمكان الوصول إمكانًا عاديًا كما جزم به الدردير وغيره حتى قالوا من كان عادته السفر ماشيًا يلزمه الحج وإن لم يجد راحلة.
(4)
المذكور في الحديث أمران وجوب الحج باستطاعة وهي ملك الزاد والراحلة والثاني كفر من لم يحج فنبه عليهما بجزأى الآية.