الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فلفظ " الخمر " يتناول تحريم كلِّ مسكرٍ من الأشربة والأطعمة كالحشيشة المسكرة من أي مادةٍ كانت، لقوله صلى الله عليه وسلم:" كلُّ مسكرٍ خمر"(1)، وإثبات هذا المعنى في بعض أفراد المسكرات المشروبة أو المطعومة يُعدُّ من صور تحقيق المناط (2).
ولفظ " الميسر " يتناول اللعب بالنرد والشطرنج، كما يتناول بيوع الغرر، فإن فيها معنى القمار الذي هو ميسر، إذ القمار معناه: أن يؤخذ مال الإنسان وهو على مخاطرة هل يحصل له عوضه أو لا يحصل؟ فإثبات هذا المعنى في بعض أفراده يُعدُّ من صور تحقيق المناط (3).
ولفظ " الرِّبا " يتناول رِبا النسيئة ورِبا الفضل، والقرضَ الذي يَجُرُّ منفعةً وغير ذلك، فإثبات معنى " الرِّبا " في بعض أنواعه أو أعيانه يُعدُّ من صور تحقيق المناط (4).
وحاصل ما ذكر رحمه الله من هذه الأمثلة يرجع إلى أن إثبات معنى لفظٍ عامٍّ في بعض أفراده يُطلق عليه مُسمَّى: " تحقيق المناط ".
التعريف الخامس:
عرَّفه الشاطبي بقوله: " أن يثبت الحُكْم بمُدْرَكِه الشرعي لكن يبقى النظر في تعيين محلِّه "(5).
ومعناه: أن يثبت الحُكْم بدليلٍ شرعيٍّ، ويُجْتَهد في تطبيقه على الجزئيات والحوادث الخارجية، سواءٌ أكان نفس الحُكْم ثابتاً بنصٍّ أو إجماعٍ أو استنباط (6).
(1) سبق تخريجه: (47).
(2)
ينظر: مجموع الفتاوى (19/ 16)، (19/ 282 - 283)، منهاج السنة (2/ 287).
(3)
ينظر: مجموع الفتاوى (19/ 283)، منهاج السنة (2/ 287)، درء تعارض العقل والنقل (7/ 337).
(4)
ينظر: مجموع الفتاوى (19/ 283 - 284)، درء تعارض العقل والنقل (7/ 337).
(5)
الموافقات: (5/ 12).
(6)
ينظر: تعليقات دراز على الموافقات (5/ 12).
وهذا التعريف مبنيٌّ على أن كلَّ استدلالٍ له مقدمتان (1):
الأولى: تتعلق باستنباط الحُكْم من دليله الشرعي.
والثانية: تتعلق بتعيين محلِّ الحُكْم، أي: تطبيقه في الوقائع والجزئيات التي يشملها ذلك الحُكْم.
فالأولى ترجع إلى نفس الحُكْم الشرعي، والثانية ترجع إلى تعيين محلِّ الحُكْم الذي هو تحقيق المناط (2).
فالنظر في المقدمة الأولى يشمل كلَّ دليلٍ شرعي، والنظر في المقدمة الثانية يشمل مُتَعَلَّقَ كلِّ حُكْمٍ، سواء كان عِلَّةً أو غير ذلك، كأن يكون مُتَعَلَّقُ الحُكْم معنىً كلياً ثبت بالنصِّ أو الإجماعِ أو الاستقراءِ كما يتضح ذلك من خلال الأمثلة التي أوردها الشاطبي، ومنها:
- إذا شرع المكلَّف في تناول خمرٍ مثلاً، قيل له: أهذا خمرٌ أم لا؟ فلابدَّ من النظر في كونه خمراً أو غير خمر، فإذا وجد فيه أمارة الخمر أو حقيقتها بنظرٍ مُعْتَبَر، قال: نعم، هذا خمر، فيقال له: كلُّ خمرٍ حرامُ الاستعمال، فيجتنبه (3).
- إذا أراد أن يتوضأ بماء، فلابدَّ من النظر إليه: هل هو مُطْلَق أم لا؟ وذلك برؤية اللون، وبذوق الطعم، وشمِّ الرائحة، فإذا تبين أنه على أصل خلقته وأنه مُطْلَقٌ فالوضوء به جائز (4).
- إذا قال الشارع: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وثبت عندنا معنى العدالة شرعاً افتقرنا إلى تعيين مَنْ حصلت فيه هذه الصفة، وليس الناس في وصف العدالة على حدٍّ سواء، بل ذلك يختلف اختلافاً متبايناً (5).
- إذا أوصى بماله للفقراء، فلا شك إن من الناس من لا شيء له،
(1) ينظر: الموافقات (3/ 231 - 234).
(2)
ينظر: المرجع السابق (3/ 231).
(3)
ينظر: المرجع السابق (3/ 232).
(4)
ينظر: المرجع السابق (3/ 232).
(5)
ينظر: الموافقات (5/ 12 - 13).
فيتحقق فيه اسم الفقر، فهو من أهل الوصية، ومنهم من لا حاجة به ولا فقر وإن لم يملك نصاباً، وبينهما وسائط، كالرجل يكون له الشيء ولا سعة له، فينظر فيه: هل الغالب عليه حُكْم الفقر أو حُكْم الغنى؟ (1).
- من القواعد القضائية: " البيِّنة على المُدَّعِي واليمين على من أنكر"(2)، فالقاضي لا يمكنه الحُكْم في واقعة، بل لا يمكنه توجيه الحجاج ولا طلب الخصوم بما عليهم، إلا بعد فهم المُدَّعِي من المدَّعَى عليه، وهو أصل القضاء، ولا يتعين ذلك إلا بنظرٍ واجتهادٍ، وردِّ الدَّعاوى إلى الأدلة، وهو تحقيق المناط بعينه (3).
فهذه الأمثلة وأشباهها (4) التي أوردها الشاطبي تقريراً لمعنى تحقيق المناط عنده تُنَبِّه على انه اجتهادٌ لا يقتصر على إثبات عِلَّة حُكْم الأصل في الفرع، بل يشمل إثبات مُتَعَلَّقِ كلِّ حُكْمٍ في بعض جزئياته، ويستوي في ذلك أن يكون مُتَعَلَّقِ الحُكْم ثبت بالنصِّ أو الإجماعِ أو الاستقراءِ أو كان عِلَّةً أو معنىً كلياً.
مناقشة التعريفات والمقارنة بينها:
من خلال التأمل في التعريفات السابقة والموازنة بينها تبين لي الآتي:
أولاً: إن تعريفات الأصوليين لـ " تحقيق المناط " تمثِّل - في الجملة - اتجاهين:
الاتجاه الأول: يقصر أصحابُه تحقيقَ المناط على إثبات عِلَّة حُكْم الأصل في الفرع.
ثم اختلفوا في نوع العِلَّة التي يُطْلَبُ إثباتها في الفرع، وذلك على مذهبين:
(1) ينظر: المرجع السابق (5/ 13 - 14).
(2)
ينظر: القواعد للحصني (4/ 244)، الأشباه والنظائر للسيوطي (509).
(3)
ينظر: الموافقات (5/ 15 - 16).
(4)
كتقدير النفقات الواجبة، وأروش الجنايات، وقيم المتلفات، واعتبار المثل في جزاء الصيد وغيرها.
ينظر: الموافقات (5/ 14 - 18).
المذهب الأول: يُقيِّد تحقيق المناط بما ثبتت عِلَّة حُكْم الأصل فيه بنصٍّ أو إجماع (1).
المذهب الثاني: يُطْلِق تحقيق المناط على ما ثبتت عِلَّة حُكْم الأصل فيه بنصٍّ أو إجماعٍ أو استنباط (2).
الاتجاه الثاني: يَعْتَبر أصحابُه تحقيقَ المناط من الاجتهاد الذي هو أعمّ من إثبات عِلَّة حُكْم الأصل في الفرع، فيدخُل تحته ثلاث صور (3):
الأولى: إثبات عِلَّة حُكْم الأصل في الفرع.
والثانية: إثبات مقتضى قاعدةٍ شرعيةٍ في بعض جزئياتها.
والثالثة: إثبات مقتضى لفظٍ عامٍّ أو مطلقٍ تعلَّق به حكمٌ شرعي في بعض افراده.
ويظهر لي - والله أعلم - أن الخلاف يرجع إلى الاصطلاح، فأصحاب الاتجاه الأول قصروا تحقيق المناط - اصطلاحاً - على إثبات عِلَّة حُكْم الأصل في الفرع، بينما اصطلح أصحاب الاتجاه الثاني على ما هم أعمّ من ذلك، فلا مشاحة في الاصطلاح.
ثانياً: إذا اعتبر أن " تحقيق المناط " اجتهادٌ هو أعمّ من إثبات عِلَّة حُكْم الأصل في الفرع فإنه يتوجه الاعتراض على التعريف الأول بأنه غير جامع؛ لأنه قَصَرَ تحقيقَ المناط على ما ثبتت فيه عِلَّة حُكْم الأصل بالنصِّ أو الإجماع، بينما تحقيق المناط يشمل ما ثبتت فيه عِلَّة حُكْم الأصل بأحد الطرق المستَنبطة للعِلَّة (4).
كما يتوجه الاعتراض - أيضاً - على التعريف الثاني بأنه غير جامع، لأنه قَصَرَ تحقيقَ المناط على ما ثبتت فيه عِلَّة حُكْم الأصل بالنصِّ أو الإجماعِ أو
(1) ينظر: (184).
(2)
ينظر: (185).
(3)
ينظر: (186 - 190).
(4)
ينظر: (184).
الاستنباطِ، بينما تحقيق المناط يشمل ما إذا كان مُتَعَلَّق الحُكْم غير عِلَّة، كأن يكون معنى كليَّاً ثبت بالنصِّ أو الإجماعِ أو الاستنباط (1).
وقد يُعْتَذَر لأصحاب التعريف الأول والثاني بأنهم عرَّفوا " تحقيق المناط " ببعض أنواعه أو بالأخصِّ من أنواعه (2)، لأن الكلام كان يتعلَّق بأضرب الاجتهاد في العِلَّة، فاقْتُصِرَ على المعنى الذي له تَعَلُّقٌ بذلك.
ثالثاً: قيَّد الطُّوفي تعريفه " تحقيق المناط " بالمحلِّ الذي خفي فيه ظهور المعنى (3)، وهذا القيد غير معتبرٍ في كلِّ الصور، بل إن من الصور ما يتحقق فيه المناط بوضوحٍ وجلاء، ومنها ما يستوجب بذل الواسع في دركه لخفائه، كما سيأتي بيانه في أنواع تحقيق المناط باعتبار وضوحه وخفائه (4).
وبهذا يكون تعريف الطُّوفي غير جامع، إلا أن يكون القيد خَرَجَ مَخْرَجَ الغالب، وذلك باعتبار أن أكثر صور تحقيق المناط تظهر فيها الحاجة إلى بذل الوسع؛ لخفاء تحقيق المناط في تلك الصور.
رابعاً: إيراد لفظ " إثبات " في التعريف أولى من إيراد لفظ " تحقيق " كما في تعريف القرافي (5) والإسنوي (6)؛ لأنه قد يُعْتَرض على ذلك بأن فيه دَوْرَاً، وإن كان المراد بذلك المعنى اللغوي.
خامساً: اختلفت تعبيرات الأصوليين عن المحلِّ الذي يتوجه إليه النظر في تحقيق المناط.
فالآمدي (7) والتفتازاني (8)، وابن الهمام الحنفي (9)، والمرداوي (10)،
(1) ينظر: (185).
(2)
ينظر: تعليقات الشيخ عبدالرزاق عفيفي على الإحكام للآمدي (3/ 379).
(3)
ينظر: (186).
(4)
ينظر: (200 - 202).
(5)
ينظر: (185).
(6)
ينظر: (185).
(7)
ينظر: (185).
(8)
ينظر: (185).
(9)
ينظر: (184).
(10)
ينظر: (185).