الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يتناول الأَمَة، ولا فارق بين العبد والأَمَة إلا الذُّكورة، وهو ملغيٌّ في باب العتق بالإجماع؛ إذ لا مدخل له في العِلِّية، وإن كان للذكورة والأنوثة تأثيرٌ في الفرق في بعض الأحكام كولاية النكاح والقضاء والشهادة (1).
وبهذا فإن حاصل " تنقيح المناط " عند أصحاب هذا المذهب هو: الاجتهاد في إلغاء الوصف الفارق بين الأصل والفرع، وحذفه عن درجة الاعتبار، فيلزم حينئذٍ اشتراكهما في الحُكْم.
المقارنة بين التعريفات:
من خلال التأمل في التعريفات التي سبق إيرادها ضمن الاتجاهين المذكورين يتبين لي الآتي:
أولاً: إن تعريف " تنقيح المناط " على أنه من طرق الاجتهاد في العِلَّة بعد إثباتها بمسلك النصِّ أو الإيماء والتنبيه يُعْتَبر أرجح من تعريفه على أنه دليلٌ تثبت به العِلَّة فيُعَدُّ مسلكاً من مسالكها؛ لأن العِلَّة - هنا- ثبتت بمسلك النصِّ أو الإيماء والتنبيه، واقترنت بها أوصافٌ لا تصلح للعِلِّية، فاحتيج إلى تهذيبها وتمييزها عن تلك الأوصاف غير المُعْتَبَرة، وهو اجتهادٌ لا يُعْتَبر في ذاته دليلاً على العِلَّة؛ لأنه من أفعال المجتهد، أما دليل ثبوت العِلَّة فهو مسلك النصِّ أو الإيماء والتنبيه، ومن شأن الدليل أن يكون ثابتاً في نفسه مع قطع النظر عن فعل المجتهد (2).
قال الغزالي: " والمقصود أن هذا تنقيح المناط بعد أن عُرِف المناط بالنصِّ لا بالاستنباط "(3).
ولهذا المعنى فقد قيَّد الآمدي تنقيح المناط بالاجتهاد في تعيين ما دل
(1) ينظر: الكاشف عن المحصول (6/ 435 - 438)، نفائس الأصول (7/ 3087)، شرح تنقيح الفصول (388)، شرح مختصر الروضة (3/ 352)، الإبهاج (6/ 2396)، البحر المحيط للزركشي (7/ 322)، شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 272)، إرشاد الفحول (2/ 641).
(2)
ينظر: سلم الوصول إلى منهاج الأصول (4/ 143).
(3)
المستصفى: (3/ 490).
النصُّ على كونه عِلَّةً من غير تعيين، فعرَّفه بأنه:" النظر والاجتهاد في تعيين ما دل النصُّ على كونه عِلَّةً من غير تعيين، بحذف ما لا مدخل له في الاعتبار مما اقترن به من الأوصاف"(1).
وتنقيح المناط ليس هو طريق استخراج العِلَّة، وإنما هو طريق تمييزها وتهذيبها بعد ثبوتها بمسلك النصِّ أو الإيماء والتنبيه.
قال صفي الدين الهندي: " وحاصله - أي: تنقيح المناط - يرجع إلى أن تصرَّف المجتهد فيه إنما هو في تعيين السبب الذي ناط الشارع الحُكْم به، دون استنباطه وتخريجه "(2).
ثانياً: إن الاجتهاد في " تنقيح المناط " إما أن يتجه إلى حذف خصوص الوصف المذكور في النصِّ لعدم اعتباره، وإناطة الحُكْم بالمعنى الأعمّ، أو يتجه إلى حذف بعض الأوصاف المذكورة في النصِّ لعدم تأثيرها في الحُكْم، وإناطة الحُكْم بالباقي من الأوصاف.
وفي كلتا الحالتين فإن الاجتهاد في الحذف والتعيين قد يكون بإلغاء الفارق أو بالسَّبْر والتقسيم، وإن كان النظر يتوجه في الأصل إلى الحذف والتعيين، لا إلى إلغاء الفارق أو السَّبْر والتقسيم.
قال المطيعي (3): " فالمنظور إليه في تنقيح المناط بالمعنى الأول هو حذف خصوصية الوصف الذي دلَّ ظاهر النصّ على عليَّته صريحاً أو إيماءً، وإن كان يلزمه إلغاء الفارق أو السَّبْر أيضاً، لكنه غير منظورٍ إليه، والمنظور إليه في تنقيح المناط بالمعنى الثاني مجرد الأوصاف التي في محلِّ الحُكْم، ولا يجب عليه الحصر، فَيُحْذَف بعضها عن الاعتبار بالاجتهاد، ويُنَاطُ الحُكْم بالباقي، وإن كان يلزم إلغاء الفارق والسَّبْر والتقسيم لكنه غير منظورٍ إليه "(4).
وعلى هذا فإن تعريف " تنقيح المناط " بالنظر إلى أنه اجتهادٌ في الحذف
(1) الإحكام: (3/ 380).
(2)
نهاية الوصول: (7/ 3046).
(3)
هو: محمد بن بخيت بن حسين المطيعي، مفتي الديار المصرية، ومن كبار فقهائها، تعلَّم في الأزهر، واشتغل بالتدريس فيه، ثم انتقل إلى القضاء سنة 1297 هـ، وعُيِّن مفتياً للديار المصرية سنة 1333 هـ إلى أن توفي بالقاهرة سنة (1354 هـ)، من مؤلفاته: البدر الساطع على جمع الجوامع (ط)، وسلم الوصول على نهاية السول (ط)، وأحسن الكلام فيما يتعلق بالسنة والبدع من الأحكام (ط)، وغيرها.
ينظر ترجمته في: الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي (4/ 38)، الأعلام للزركلي (6/ 50).
(4)
سلم الوصول على نهاية السول: (4/ 140).
والتعيين أرجح من تعريفه بالنظر إلى أنه اجتهادٌ في إلغاء الفارق؛ لأن الحذف والتعيين هو الأصل الذي يتوجه إليه الاجتهاد في " تنقيح المناط "، وقد يكون ذلك بإلغاء الفارق أو السَّبْر والتقسيم كما سيأتي بيانه (1).
ثالثاً: إن الاجتهاد في إلغاء الفارق لا يُحْتَاج معه إلى الوصف الجامع بين الأصل والفرع وهو العِلَّة، بل يقال فيه: لم يوجد بين هذا المنطوق به والمسكوت عنه فرقٌ يؤثر في الحُكْم ألبتة، فهو مثله في الحُكْم؛ لأن الإلحاق بنفي الفارق لا يدل على أن الوصف المعين عِلَّةً، وإنما يدل على أن عِلَّة الأصل من حيث الجملة مُتَحَقِّقَةٌ في الفرع من غير تعيين (2).
أما الاجتهاد في الحذف والتعيين فإن الباقي من الأوصاف هو الذي يتعين عِلَّةً للحُكْم، وذلك بعد حذف الأوصاف غير المؤثرة.
ومع اختلاف الطريقة في كلٍّ منهما إلا أن نتيجتهما تُلْزِم بالتسوية بين الأصل والفرع في الحُكْم؛ لاشتراكهما في الموجب له، غير أن العِلَّة في الطريقة الأولى لم تتعين، وإنما حصل الإلحاق بمجرد إلغاء الوصف الفارق، وفي الطريقة الثانية تعين الباقي من الأوصاف المذكورة في النصِّ عِلَّة للحُكْم بعد حذف الأوصاف غير المُعْتَبَرة.
ولهذا فقد أطلق بعض الأصوليين كتاج الدين ابن السُّبكي (3)، وصفي الدين الهندي (4) مُسمىَّ " تنقيح المناط " على إلحاق المسكوت عنه بالمنصوص عليه بإلغاء الفارق.
كما اعتبر بعض الأصوليين "إلغاء الفارق" ضرباً من " تنقيح المناط ".
قال الطُّوفي: " لا بأس بتسمية إلغاء الفارق تنقيحاً؛ إذ إنَّ التنقيح هو
(1) ينظر: (100، 112 - 113).
(2)
ينظر: المستصفى (3/ 602)، البحر المحيط للزركشي:(7/ 326).
(3)
ينظر: الابهاج (3/ 80).
أما في جمع الجوامع (ص 95) فقد غاير ابن السبكي بينهما كما سيأتي بيانه في العلاقة بينهما (94، 95).
(4)
ينظر: نهاية الوصول (8/ 3381)، الفائق في أصول الفقه (4/ 210).
التخليص والتصفية، وبإلغاء الفارق يصفو الوصف ويخلص للعِلِّيَّة، فلا يكون هذا قولاً ثانياً في تنقيح المناط كما قال القرافي، بل يكون إلغاء الفارق ضرباً من تنقيح المناط" (1).
وقال صاحب " نشر البنود "(2): " وهو - أي: إلغاء الفارق - عند التحقيق قسمٌ من تنقيح المناط؛ لأن حذف خصوص الوصف عن الاعتبار قد يكون بإلغاء الفارق، وقد يكون بدليلٍ آخر ".
ولما ذكر الأمين الشنقيطي (3) أنواع الاجتهاد الذي دلَّت عليه نصوص الشرع قال: " ومنها: الاجتهاد في تنقيح المناط، ومن أنواعه: السَّبْر والتقسيم، والإلحاق بنفي الفارق "(4).
وعند قول الناظم في مراقي السعود:
فمنه ما كان بإلغاء الفارق
…
وما بغير من دليلٍ رائقِ
قال في شرحه: " يعني أن من تنقيح المناط قسماً يقال له إلغاء الفارق، فَسُمِّيَ تنقيح المناط وإلغاء الفارق "(5).
ومن خلال ما تقدم ذكره يُسْتَخْلَص ما يأتي:
1 -
يُعْتَبر " تنقيح المناط " من طرق الاجتهاد في العِلَّة بعد إثباتها بمسلك النصِّ أو الإيماء والتنبيه، ولا يُعْتَبَر بذاته دليلاً تثبت به العِلَّة.
2 -
الأصل في " تنقيح المناط " أنه اجتهادٌ في الحذف والتعيين، وله صورتان:
الأولى: أن يدلَّ نصٌّ ظاهرٌ على تعليل الحُكْم بوصفٍ، فَيُحْذَف خصوص ذلك الوصف عن الاعتبار، ويُنَاطُ الحُكْم بالمعنى الأعمّ.
الثانية: أن يدلَّ نصٌّ ظاهرٌ على تعليل الحُكْم بمجموع أوصافٍ بعضها
(1) شرح مختصر الروضة: (3/ 244 - 245).
(2)
: (2/ 199).
(3)
هو: محمد الأمين بن محمد المختار بن عبدالقادر الجكني الشنقيطي، قدم إلى الحج في رحلة سجل فيها فنوناً من العلم، ودرّس بالمعهد العلمي بالرياض، ثم انتقل إلى المدينة ودرّس في المسجد النبوي، فقيه، أصولي، مفسِّر، كان قوي الحجة، واسع الإطلاع، من مؤلفاته: أضواء البيان (ط) في التفسير، وآداب البحث والمناظرة (ط)، ومذكرة أصول الفقه (ط) على روضة الناظر لابن قدامة، توفي سنة (1393 هـ).
ينظر ترجمته في: أضواء البيان (9/ 471) بقلم تلميذه عطية محمد سالم، وعلماء ومفكرون عرفتهَم للمجذوب (1/ 171).
(4)
أضواء البيان: (4/ 175).
(5)
نثر الورود: (2/ 523).