الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في تنقيح مناط الحكم بالأدلة فقال: " فإنه وإن كان مؤمناً إليه بالنصِّ غير أنه يُفْتَقَرُ في معرفته عيناً إلى حذف كلِّ ما اقترن به من الأوصاف عن درجة الاعتبار بالرأي والاجتهاد، وذلك بأن يبيِّن أن كونه أعرابياً، وكونه شخصاً معيناً، وإن كون ذلك الزمان، وذلك الشهر بخصوصه، وذلك اليوم بعينه، وكون الموطوءة زوجةً وامرأةً معينة لا مدخل له في التأثير بما يساعد من الأدلة في ذلك .. "(1).
وهذه الأدلة التي يثبت بها تنقيح المناط يمكن أن يُطْلَق عليها مُسَمَّى "طرق تنقيح المناط" وذلك باعتبار أن الدليل هو: ما يُتَوصَّل به إلى المطلوب (2)، وتلك هي الطرق الموصلة إلى تهذيب العِلَّة وتمييزها عن غيرها من الأوصاف المؤثِّرة بعد إثباتها بمسلك النصِّ أو الإيماء والتنبيه.
ومن أهم طرق تنقيح المناط ما يأتي:
أولاً: استقراء عادة الشرع في إلغاء وصفٍ عن درجة الاعتبار وعدم إناطة الحكم به
.
ثانياً: الإجماع على أن الشارع ألغى ذلك الوصف عن درجة الاعتبار، أو ألغى خصوصه وأناط الحكم بما هو أعمّ منه.
ثالثاً: كون الحُكْم ثابتاً في صورةٍ ما بالباقي من الأوصاف دون الوصف المحذوف.
وبيان هذه الطرق على النحو الآتي:
أولاً: استقراء عادة الشرع في إلغاء وصفٍ عن درجة الاعتبار وعدم إناطة الحكم به:
وذلك لأنه ليس في إناطة الحُكْم به مصلحة، فهو خالٍ من المناسبة (3).
(1) المرجع السابق.
(2)
ينظر: قواطع الأدلة (1/ 42)، البحر المحيط للزركشي (1/ 51).
(3)
ينظر: رسالة في أصول الفقه للعُكْبَري (85)، المستصفى (3/ 489)، شفاء الغليل (412، 415)، أساس القياس (52 - 53)، روضة الناظر (3/ 804)، الإحكام للآمدي (3/ 336)، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 352)، نهاية الوصول (7/ 3179)، شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 238)، شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 272)، تيسير التحرير (4/ 47)، نشر البنود (2/ 168)، نثر الورود (2/ 489).
وهو ما يُطْلَقُ عليه عند الأصوليين بـ: "الوصف الطردي"، وينقسم إلى قسمين (1):
الأول: ما هو طرديٌّ في جميع الأحكام، كالطول والقِصَر، والسواد والبياض، فلا يُعلَّل بها شيءٌ من أحكام الشرع.
الثاني: ما هو طرديٌّ في بعض الأحكام، مع كونه معتبراً في بعضٍ آخر، كالذُّكورة والأنوثة، فإنهما وصفان طرديان بالنسبة إلى العتق، فلا يُعلَّل شيءٌ من أحكام العتق بذكورةٍ ولا أنوثةٍ، مع أنهما معتبران في بعض الأحكام كالميراث والشهادة ونحو ذلك.
فإذا أثبت المجتهد كون الوصف طردياً، إما مطلقاً في جميع الأحكام الشرعيَّة أو بالنسبة إلى ذلك الحُكْم المطلوب، كان ذلك دليلاً على حذف ذلك الوصف عن درجة الاعتبار.
قال الآمدي في القسم الأول: " أن يكون ما يحذفه من جنس ما أَلِفْنَا من الشارع عدم الالتفات إليه في إثبات الأحكام، كالطول والقِصَر والسواد والبياض ونحوه .. "(2).
ويقصد بذلك: طرد المحذوف مطلقاً في جميع الأحكام الشرعيَّة فلا يُعَلَّل بها حُكْمٌ أصلاً.
وقال في القسم الثاني: " أن يكون ما يحذفه من جنس ما ألِفْنَا من الشارع إلغاءه في جنس ذلك الحُكْم المُعَلَّل، فيجب إلغاؤه .. "(3).
(1) ينظر: بيان المختصر للأصفهاني (3/ 106 - 107)، شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 238)، تشنيف المسامع (3/ 280)، شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 272)، الضياء اللامع لحلولو (2/ 354)، شرح الكوكب المنير (4/ 148)، نشر البنود (2/ 168 - 169)، نثر الورود (2/ 489).
(2)
الإحكام: (3/ 336).
(3)
المرجع السابق: (3/ 336 - 337).
ويقصد بذلك: طرد المحذوف بالنسبة إلى بعض الأحكام دون غيرها، كالذُّكورة والأنوثة في العتق، فإنهما لم يعتبرا فيه، فلا يُعْلَّل بهما شيءٌ من أحكام العتق، وإن اعتبرا في الشهادة والقضاء والإرث وولاية النكاح.
وإثبات أن الوصف المحذوف مما عُلِمَ من عادة الشرع إلغاؤه وعدم إناطة الحُكْم به إنما يكون باستقراء أحكام الشرع وموارده ومصادره، إما مطلقاً، وإما في جنس ذلك الحُكْم.
قال الغزالي: " وإنما يُعْرَفُ أنه لا مدخل له في التأثير باستقراء أحكام الشرع وموارده ومصادره .. "(1).
وقال صفي الدين الهندي: " تُعْلَمُ العِلَّة لنفي ما عداها عن درجة الاعتبار باستقراء أحكام الشرع .. "(2).
وقال حُلولو المالكي (3): "ويُعْرَفُ كون الوصف طردياً- أي: لامدخل له في التعليل- باستقراء موارد الشرع ومصادره إما مطلقاً، وإما في ذلك الباب المُتَكَلَّم فيه"(4).
فإذا استقرأ المجتهد أحكام الشرع وموارده ومصادره وحصل له من ذلك العلم أو غلب على ظنه بأن الشارع اعتبر أوصافاً وألغى أخرى وجب حينئذٍ على المجتهد أن يتصرَّف بتصرَّف الشريعة في جنس تلك الأحكام، فيُسقِط ما أسقطه الشارع من الأوصاف عن درجة الاعتبار، ويُبقِي الحُكْم منوطاً بالباقي من الأوصاف المؤثِّرة.
قال الغزالي: " النظر في تنقيح المناط: بإلغاء بعض القيود والاختصاصات أو اعتبارها، والتدوار فيها على أمورٍ عُقِل من الشرع تأثيرها في الأحكام "(5).
(1) المستصفى: (3/ 598).
(2)
نهاية الوصول: (7/ 3179).
(3)
هو: أبو العباس أحمد بن عبدالرحمن بن موسى بن عبدالحق الزليطني القيرواني المالكي، كان عالماً بالفقه والأصول، ولي قضاء طرابلس الغرب، ثم استقر بتونس وولي مشيخة بعض المدارس، من مؤلفاته: الضياء اللامع في شرح جمع الجوامع (ط)، والتوضيح في شرح التنقيح للقرافي (ط)، وشرح مختصر خليل (خ)، وغيرها، توفي بتونس سنة (898 هـ) تقريباً.
ينظر ترجمته في: الضوء اللامع لأهل القرن التاسع (2/ 260)، توشيح الديباج وحلية الابتهاج (52)، الأعلام للزركلي (1/ 147).
(4)
الضياء اللامع: (2/ 254).
(5)
شفاء الغليل: (412).
ومن الأمثلة على ذلك: تنقيح المناط بحذف الأوصاف الطردية المذكورة في قصة الأعرابي الذي واقع أهله في نهار رمضان (1) بناءً على استقراء أحكام الشرع وموارده ومصادره في إلغاء تلك الأوصاف، وعدم اعتبارها مؤثِّرةً في تلك الأحكام.
فوصف " الأعرابية " وصفٌ ملغيٌّ فيُلْحَق به غير الأعرابي؛ لأنه باستقراء أحكام الشرع وجد أنها لاتختصُّ بقومٍ دون آخرين.
و" كون الموطوءة زوجة " وصفٌ ملغيٌّ - أيضاً - فيُلْحَق به المملوكة والمزني بها؛ لأنه باستقراء أحكام الشرع لا فرق بين كون الجماع في محلٍّ هو حلالٌ بملك النكاح أو اليمين أو هو حرامٌ كالأجنبية، وذلك باعتبار أن كلاً منهما جنايةٌ على الصوم.
و" كون الوطء في عين ذلك الشهر " وصفٌ ملغيٌّ - أيضاً- فيُلْحَق به من وطئ في رمضان آخر، لأن أحكام الشرع إذا أُطْلِقَتْ لا تختصُّ بزمانٍ دون آخر.
فهذه الأوصاف المذكورة في النصِّ إنما حُذِفَت لكونها أوصافاً طردية، عُلِمُ من عادة الشرع باستقراء أحكامه إلغاؤها، وعدم إناطة الأحكام بها.
قال الغزالي: " هذه إلحاقاتٌ معلومةٌ تُبْتَنَى على تنقيح مناط الحُكْم بحذف ما عُلِم بعادة الشرع في موارده ومصادره في أحكامه أنه لا مدخل له في التأثير "(2).
وقال - أيضاً-: " فهذه وجوهٌ من القيود والخصوص اتفقت في الواقعة التي فيها الحُكْم، وبعضها محذوفٌ لا مدخل له في الاقتضاء، وبعضها معتَبر، وبعضها مختلَفٌ فيه، والتدوار في الإلغاء والإبقاء على تأثيراتٍ معقولةٍ من مورد الشرع."(3).
(1) سبق تخريجه: (48).
(2)
المستصفى: (3/ 489).
(3)
شفاء الغليل: (415).
ومن الأمثلة على ذلك أيضاً -ولكن مما يختصُّ ببابٍ من الأحكام دون الأبواب الأخرى-: تنقيح المناط بحذف الوصف الطردي المذكور في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: " من أعتق شِرْكاً له في عَبْدٍ وكان له مالٌ يبلغ ثمن العبد قوِّم عليه قيمة عدل "(1).
فوصف الذُّكورة في قوله: " عبد " وصفٌ ملغيٌّ، حيث ثبت باستقراء موارد الشرع ومصادره في أحكام العتق خاصةً التسَوية بين الذكر والأنثى، وعدم اعتبار الذكورة والأنوثة من الأوصاف المؤثِّرة في ذلك، وإن كان لهما تأثيرٌ في بعض الأحكام الأخرى كولاية النكاح والقضاء والشهادة (2).
قال الغزالي: "الشارع إذا ذكر في باب العتق أحكاماً كثيرة. . . وهو في جميع ذلك يُجْري الذُّكور مجرى الأنثى ولا يلتفت إلى الاختلاف فيه أصلاً، فعدم تعرُّضه لهذا الاختلاف مرَّةً بعد أخرى على سبيل العَوْدِ والتكرار يفهمنا أن مدخل الذكورة فيه كمدخل السواد والبياض والطول والقِصَر والتركي والهندي، فبه نتجاسر على قولنا: الأَمَة في معنى العبد. . ."(3).
وقال الآمدي: " .. فإنه وإن أمكن تقرير مناسبةٍ بين صفة الذكورة وسراية العتق غير أنا لما عهدنا من الشارع التسوية بين الذَّكر والأنثى في أحكام العتق ألغينا صفة الذُّكورة في السراية بخلاف ما عداه من الأحكام"(4).
وقال الطُّوفي: "لا تأثير للذُّكورة والأنوثة في هذا الحُكْم ونحوه في عُرْف الشرع وتصرُّفه، إذ هما وصفان طرديان كالسواد والبياض والطول والقِصَر والحُسْن والقبح، وإن كان للذُّكورية والأنوثية تأثيرٌ في الفرق في بعض الأحكام كولاية النكاح والقضاء والشهادة"(5).
(1) سبق تخريجه: (66).
(2)
ينظر: تشنيف المسامع (3/ 280)، شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 272)، شرح الكوكب المنير (4/ 148)، نشر البنود (2/ 169)، نثر الورود (2/ 489).
(3)
أساس القياس: (54).
(4)
الإحكام: (3/ 336 - 337).
(5)
شرح مختصر الروضة: (3/ 352).