الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فيها، والعادِّ في صحة القسمة، والماسح في تقدير الأرضين ونحوها (1).
وبهذا يتبيّن أن الرجوع إلى قول أهل الخبرة يُعْتَبر من أهمِّ المسالك في تحقيق مناطات الأحكام في الوقائع والجزئيات التي لا يُدرِكُ ثبوت المناط فيها إلا من كان خبيراً بها.
المسلك الخامس: البيِّنات الشرعيَّةً
.
وهو: أن تدلَّ البيِّنَةُ الشرعيَّة على تحقُّق مناط الحُكْم في بعض أفراده.
والبيِّنة لغةً: الدليل والحُجَّة، من أَبَاَن الشيء، أي: أوضحه وأظهره، وجمعها: بيِّنات (2).
أمَّا في الاصطلاح فالبيِّنة: " اسمٌ لكلِّ ما يبيِّن الحقَّ ويظهره "(3)، فكلُّ دليلٍ أو حُجَّةٍ أو وسيلةٍ يتبيَّن بها الحقُّ ويظهر وليس لها معارضٌ أرجح منها فهي بيِّنةٌ في الشرع يعتمد عليها القاضي في إثبات الحقوق والوقائع التي تترتَّب عليها آثارٌ شرعيَّة (4).
ومن أهمِّ البيِّنات: الشهادة، والإقرار، واليمين، والكتابة، والقرائن.
وذلك لأنَّ الشارع في جميع المواضع إنما يقصد ظهور الحق بما يمكن ظهوره به من البيِّنات التي هي أدلةٌ عليه وشواهدٌ له، ولا يقف ظهور الحقِّ على أمرٍ معيَّنٍ لا فائدة في تخصيصه به مع مساواة غيره في ظهور الحقِّ أو رجحانه عليه ترجيحاً لا يمكن جحده ودفعه (5).
وبناءً على هذا فإن من خصَّ - من الفقهاء - البيِّنة بالشهود (6)، أو
(1) ينظر: الموافقات (5/ 128 - 129).
(2)
ينظر: معجم مقاييس اللغة (1/ 327)، لسان العرب (13/ 79)، " مادة: ب ي ن ".
(3)
الطرق الحكمية لابن القيم: (25).
(4)
ينظر: إعلام الموقعين (2/ 168 - 171)، الطرق الحكمية لابن القيم (192 - 193)، معين الحكام للطرابلسي (68)، تبصرة الحكام لابن فرحون (1/ 240)، ظفر اللاظي لصديق حسن خان (96).
(5)
ينظر: إعلام الموقعين (2/ 171).
(6)
ينظر: بدائع الصنائع (6/ 225)، منح الجليل على مختصر خليل (4/ 174)، مغني المحتاج للشربيني (4/ 461)، شرح منتهى الإرادات (6/ 525 - 526).
الشهود وعلم القاضي (1)، فقد اقتصر على بعض أفراد البيِّنة.
قال ابن القيم: "ومَنْ خصَّها بالشاهدين أو الأربعة أو الشاهد لم يوفِّ مسمَّاها حقَّه، ولم تأت البيِّنة قطُّ في القرآن مراداً بها الشاهدان، وإنما أتت مراداً بها الحُجَّة والدليل والبرهان مفردةً ومجموعة، وكذلك قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "البيِّنة على المدَّعِي" (2) المراد به: أنَّ عليه بيانَ ما يصحِّح دعواه ليُحُكْم له، والشاهدان من البيِّنة، ولا ريب أنَّ غيرها من أنواع البيِّنة قد يكون أقوى منها، كدلالة الحال على صدق المدَّعِي، فإنها أقوى من دلالة إخبار الشاهد، والبيِّنة والدلالة والحُجَّة والبرهان والآية والتبصرة والعلامة والأمارة متقاربةٌ في المعنى"(3).
وتعتبر البيِّنات -بهذا المعنى- من أهم مسالك تحقيق مناطات الأحكام في الوقائع والجزئيات؛ لأنها مستند الأحكام القضائية، وهي من جنس أدلة وقوع الأحكام كما تقدَّم (4)، إلا أنها تختصُّ بالقضاة -غالباً- والحكَّام، وتُسَمَّى:"الحِجَاج" أو "طرق القضاء"(5).
وكلُّ بيِّنةٍ من البيِّنات المُعْتَبرة شرعاً تُعَدُّ مسلكاً مستقلاً من مسالك تحقيق مناطات الأحكام في الوقائع القضائية، وفيما يأتي بيان ذلك مقتصراً على ماله صلةٌ مباشرةٌ بموضوع البحث دون الاستطراد في ذكر تفصيلاتٍ تتعلَّق بأحكام تلك البيِّنات ليس هذا موضع بحثها.
أولاً: الشهادة.
وهي في اللغة: مصدرٌ مشتقٌ من "شهد"، "يشهد"، "شهادة"، وتطلق في اللغة على عدة معانٍ، منها: الحضور، والخبر القاطع، والإطلاع على الشيء
(1) ينظر: المحلى لابن حزم (9/ 370).
(2)
أخرجه البيهقي في " السنن الكبرى "(10/ 252)، وصححه الألباني في " إرواء الغليل "(8/ 266).
(3)
الطرق الحكمية: (11).
(4)
ينظر: (259 - 260).
(5)
ينظر: أنوار البروق في أنواع الفروق للقرافي (2/ 252).
ومعاينته، ومُطْلَق الإخبار بما قد رأى (1).
أمَّا في اصطلاح الفقهاء فالشهادة: إخبارٌ بحقٍّ للغير على الغير في مجلس القضاء بلفظ أشهد (2).
فإذا شَهِد عَدْلٌ، أو أثنان، أو أربعةٌ، أو رجلٌ وامرأتان، أو نسوةٌ -بحسب اختلاف المشهود عليه- على ثبوت حقٍّ للغير على الغير، أو ثبوت واقعةٍ تترتب عليها آثارٌ شرعيَّة، فقد تحقَّق مناط الحُكْم فيما شُهِد عليه ما لم يعارضه ما هو أرجح منه.
ومن أصْرح الأدلة على ذلك: ما جاء عن الأشعث بن قيس (3) رضي الله عنه أنه قال: "كانت بيني وبين رجُلٍ خصومةٌ في بئرٍ، فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شاهداك أو يمينه" (4).
فالحديث صريح الدلالة على اعتبار الشهادة حُجَّةً يتحقَّقُ بها مناط الحُكْم في المشهود عليه، وبها يُقْطَعُ النزاع بين المدَّعِي والمدَّعَى عليه، فدلَّ ذلك على أن الشهادة تُعْتَبَرُ مسلكاً من مسالك تحقيق مناطات الأحكام في الوقائع القضائية.
ومثال ذلك: أن يشهد اثنان ذوا عدلٍ على أن فلانَّا ابتاع من فلانٍ داراً بمبلغٍ قدره كذا إلى أجلٍ مُسمَّى، فيثبت حينئذٍ مناط وجوب أداء ذلك الدَّين في حقٍّ المديون عند حلول ذلك الأجل؛ لأنَّ الشهادة تُعْتَبَرُ مسلكاً من مسالك ثبوت مناطات الأحكام في الوقائع والجزئيات، فثبت بها مناط ذلك الحُكْم في تلك الواقعة.
(1) ينظر: مقاييس اللغة (3/ 221)، لسان العرب (7/ 223)، تاج العروس (8/ 252)، "مادة: ش هـ د".
(2)
ينظر في تعريف الشهادة عند الفقهاء: فتح القدير لابن الهمام (7/ 364)، مواهب الجليل شرح مختصر خليل (6/ 151)، نهاية المحتاج للرملي (8/ 292)، شرح منتهى الإرادات (6/ 635).
(3)
هو: الأشعث بن قيس بن معدي كرب الكندي، أحد بني الحارث بن معاوية، ويكنى أبا محمد، صحابي جليل، سُمِّي الأشعث لشعوته رأسه، وغلب عليه هذا الاسم حتى عرف به، وكان شريفاً مطاعاً في قومه جواداً شجاعاً، توفي سنة (40 هـ).
ينظر في ترجمته: طبقات ابن سعد (6/ 22)، الإصابة (1/ 239)، الإعلام للزركلي (1/ 332).
(4)
أخرجه البخاري في " صحيحه "، كتاب الشهادات، باب اليمين على المُدَّعى عليه، رقم (2670)، وأخرجه مسلم في " صحيحه "، كتاب الإيمان، باب وعيد من اقتطع حقَّ مسلمٍ بيمينٍ فاجرةٍ بالنار، رقم (221).
ثانياً: الإقرار.
وهو في اللغة: الإذعان للحق والاعتراف به، مِنْ أقرَّ بالشيء: إذا اعترف به (1).
وفي اصطلاح الفقهاء: إخبارٌ عن ثبوت حقٍّ للغير على نفسه (2).
فإذا أقرَّ المُدَّعَى عليه - إقراراً صحيحاً - بثبوت حقٍّ للغير على نفسه، أو ثبوت واقعةٍ تترتَّب عليها آثارٌ شرعيَّة، فقد تحقَّق مناط الحُكْم فيما أقرَّ به.
ومن أوضح الأدلة على ذلك: ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه
…
وزيد بن خالد الجهني (3)
أنَّ رجلاً من الأعراب أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله أنشدك الله إلا قضيت لي بكتاب الله، فقال الآخر وهو أفقه منه: فاقض بيننا بكتاب الله وائذن لي، فقال: قل، قال: إن ابني كان عسيفاً على هذا فزنى بامرأته، وإني أُخْبِرْتُ أنَّ على ابني الرجم، فافتديت منه بمائةٍ شاةٍ ووليدة، فسألتُ أهلَ العلم فأخبروني أنَّ على ابني جلد مائةٍ وتغريب عام، وأنَّ على امرأة هذا الرجم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لأقضينَّ بينكما بكتاب الله، الوليدة والغنم ردّ عليك، وعلى ابنك جلد مائةٍ وتغريب عام، واغدُ يا أُنيسِ إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها " (4).
فالحديث صريح الدلالة على اعتبار الإقرار حُجَّةً يتحقَّق بها مناط الحُكْم فيما أُقِرَّ به، وبهذه الحُجَّة ينحسم النزاع بين المدَّعِي والمدَّعَى عليه، فدلَّ ذلك على أن الإقرار يُعْتَبر مسلكاً من مسالك تحقيق مناطات الأحكام في الوقائع القضائية.
ومثال ذلك: أن يُقِرَّ المُدَّعَى عليه إقراراً مستوفياً لشروطه بأنه قذف مسلمةً محصَّنةً بالزنا، فيثبت حينئذٍ مناط وجوب إقامة الحدِّ عليه بذلك، لأنَّ
(1) ينظر: الصحاح (2/ 790)، لسان العرب (5/ 88)، تاج العروس (13/ 395 - 396) " مادة: ق رر ".
(2)
ينظر: فتح القدير (8/ 332)، الذخيرة (9/ 258)، مغني المحتاج (2/ 308)، شرح منتهى الإرادات (6/ 717).
(3)
هو: زيد بن خالد الجهني المدني، صحابي شهد الحديبية، وكان معه لواء جهينة يوم الفتح، له (81) حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، توفي بالمدينة سنة (78 هـ).
ينظر في ترجمته: طبقات ابن سعد (4/ 344)، الإصابة (2/ 499)، الإعلام للزركلي (3/ 58).
(4)
ينظر: أخرجه البخاري في " صحيحه "، كتاب الحدود، باب الاعتراف بالزنا، رقم (6828)، وأخرجه مسلم في " صحيحه "، كتاب الحدود، باب من اعترف بالزنا على نفسه، رقم (1698).
الإقرار يُعْتَبر مسلكاً من مسالك ثبوت مناطات الأحكام في الوقائع والجزئيات، فثبت به مناط ذلك الحُكْم في تلك الواقعة.
ثالثاً: اليمين.
وهي في اللغة: الحَلِف والقَسَم، سُمِّي بذلك لأنَّهم كانوا إذا تحالفوا ضرب كلُّ امرئٍ منهم بيمينه على يمين صاحبه (1).
وفي اصطلاح الفقهاء: إثبات أمرٍ أو نفيه بذكر اسم الله تعالى أو صفةٍ من صفاته (2).
والأصل في اعتبار اليمين من طرق الإثبات في حق المُدَّعَى عليه إذا عجز المُدَّعِي عن إقامة البيِّنة قوله صلى الله عليه وسلم: " لو يُعْطَى الناس بدعواهم لادَّعى ناسٌ دماءَ رجالٍ وأموالَهم، ولكن اليمين على المدَّعَى عليه "(3)، وفي رواية:" ولكن البيَّنة على المدَّعِي واليمين على من أنكر "(4).
فالحديث صريح الدلالة على اعتبار اليمين حُجَّةً يتحقَّق بها مناط الحُكْم في المحلوف عيه إذا عجز المدَّعِي عن إقامة البيِّنة؛ لأنَّ الأصل براءة ذمة المُدَّعَى عليه، فدلَّ ذلك على أن اليمين في مثل هذه الحالة تُعْتَبَرُ مسلكاً من مسالك تحقيق مناطات الأحكام في الوقائع القضائية.
ومثال ذلك: أن يدَّعِي شخصٌ على آخر بأنه أقرضه مبلغاً قدره كذا، ولم يكن للمدَّعِي بيِّنةٌ على ذلك، فيوجّه القاضي اليمين على المُدَّعى عليه، فيحلف بالله أو اسمٍ من أسمائه أو صفةٍ من صفاته على أنه لم يقترض من المُدَّعِي مالاً، فيثبت حينئذٍ مناط براءة الذمَّة في حقِّ المُدَّعى عليه؛ لأنَّ اليمين في مثل
(1) ينظر: الصحاح (6/ 2221)، لسان العرب (13/ 462)، تاج العروس (36/ 305)، مادة:" ي م ن ".
(2)
ينظر في تعريف اليمين عند الفقهاء: فتح القدير (5/ 54)، جواهر الإكليل شرح مختصر خليل (1/ 224 - 225)، مغني المحتاج (4/ 430)، شرح منتهى الإرادات (6/ 367).
(3)
أخرجه البخاري في " صحيحه "، كتاب التفسير، باب {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً أولئك لا خلاق لهم} ، رقم (4552)، وأخرجه مسلم في " صحيحه "، كتاب الأقضية، باب اليمين على المُدَّعى عليه، رقم (1711) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(4)
أخرجه البيهقي في " السنن الكبرى "(10/ 252)، وصححه الألباني في " إرواء الغليل "(8/ 266).
هذه الحالة تُعْتَبَرُ من مسالك ثبوت مناطات الأحكام في الوقائع والجزئيات، فيثبت بها مناط ذلك الحُكْم في تلك الواقعة.
رابعاً: المستندات الخَطِّيَّة.
وهي: الوثائق المكتوبة التي يعتمد عليها القاضي في إثبات حقٍّ أو نفيه (1).
وتشمل: الوثائق الصادرة عن الجهات الرسمية كالصكوك وشهادات الميلاد والوفاة والنِّكاح والطلاق، والوثائق العُرْفِية التي وقَّع عليها الملتزم أو ختم عليها أو بصم بإصبعه ولم يثبت تزويرها، والأوراق التِّجارية والسندات المالية إذا ثبت الإقرار بها أو التوقيع عليها مع انتفاء شبهة التزوير (2).
وتُعْتَبَرُ هذه المستندات من أهمِّ طرق الإثبات في عصرنا الحاضر؛ لاتساع الاعتماد عليها والعمل بها في شتى مجالات الحياة (3).
فإذا قدَّم المُدَّعِي للقاضي مستنداً خطِّيَّاً صحيحاً يثبت حقَّاً له على الغير، أو واقعةً تترتَّب عليها آثارٌ شرعيَّة، فقد تحقَّق مناط الحُكْم فيما تضمنه ذلك المستند ما لم يثبت تزويره أو يعارضه ما هو أرجح منه كالشهادة والإقرار، والأصل في ذلك: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ} [البقرة: 282].
قال ابن العربي: " يريد: يكون صكَّاً ليُسْتَذْكَرَ به عند أَجَلِه لما يتوقع من الغفلة في المُدَّة التي بين المعاملة وبين حلول الأجل، والنسيان موكلٌّ بالإنسان، والشيطان ربَّما حمل على الإنكار، والعوارض من موتٍ وغيره تطرأ فشُرِعَ الكتاب والإشهاد .. "(4).
(1) ينظر: وسائل الإثبات للزحيلي (479)، توثيق الديون في الفقه الإسلامي للهليل (345).
(2)
ينظر: وسائل الإثبات للزحيلي (479 - 482)، توثيق الديون في الفقه الإسلامي للهليل (346 - 368).
(3)
ينظر: وسائل الإثبات للزحيلي (480 - 481)
(4)
أحكام القرآن: (1/ 328).
فالآية صريحةٌ في الأمر بكتابة الدَّيْن باعتبار أنها المستند الذي يُثبِت بها صاحبُ الحقِّ حقَّه، ويتحقَّق بها - حينئذٍ - مناط الحُكْم في المتنازع فيه ما لم يَثبُت تزويرها أو يعارضها ما هو أرجح منها.
وعلى القاضي أن يتوثَّق من صحة المستندات الخطِّيَّة والتوقيعات التي عليها، وكلّما سلمت تلك المستندات من شبهة التزوير كانت أقوى في الإثبات.
ومثال ذلك: أن يعتدي شخصٌ على أرضٍ لآخر ويضع يدَه عليها، فيتقدَّم صاحبُ الأرض بدعوى يثبت فيها ملكيته لتلك الأرض بصكٍّ صادرٍ عن المحكمة، فيحكم القاضي بثبوت ملكيته لتلك للأرض، واعتداء الشخص الآخر عليها؛ لأنَّ الصكَّ - وهو مستندٌ خطِّي - يُعْتَبر من مسالك ثبوت مناطات الأحكام في الوقائع والجزئيات، فيثبت به مناط ملكية - ذلك العقار لصاحبه.
خامساً: القرائن.
وهي في اللغة: جمع قرينة، وهي الأمر الدال على الشيء بمجرَّد المصاحبة (1).
وفي اصطلاح الفقهاء: تُطْلَقُ القرينة على الأمارة، وهي: ما يلزم من العلم به الظنُّ بوجود المدلول، كالغيم بالنسبة إلى المطر، فإنه يلزم من العلم به الظنُّ بوجود المطر (2).
والمراد بـ " القرائن " في طرق الإثبات القضائية: الأمارات التي يستدل بها القاضي على إثبات شيءٍ أو نفيه (3).
كما إذا رأى قتيلاً يتشحَّط في دمه، وآخرَ قائماً على رأسه بالسكين، وقد ثبتت بينهما عداوة، فإنَّ هذه أمارةٌ يُسْتَدَلُّ بها على إثبات القتل ووجوب
(1) ينظر: الصحاح (5/ 2181)، لسان العرب (13/ 336)، تاج العروس (35/ 543)، مادة:"ق ر ن ".
(2)
ينظر: التعريفات للجرجاني (37)، كشاف اصطلاحات الفنون (1/ 259).
(3)
ينظر: الإثبات بالقرائن في الفقه الإسلامي (62 - 63) وسائل الإثبات للزحيلي (488 - 489).
القصاص ما لم يثبت غير ذلك لمعارِضٍ أرجح كالشهادة ونحوها (1).
وتُعْتَبَرُ القرائن من طرق إثبات الحقوق ما لم يعارضها ما هو أرجح منها، وذلك باستقراء مصادر الشرع وموارده.
وقد ذهب إلى ذلك: ابن تيمية (2)، وابن القيم (3)، وابن فرحون (4)،
…
وابن عابدين (5).
قال ابن القيم: " فالشارع لم يُلْغِ القرائن والأمارات ودلالات الأحوال، بل من استقرأ الشرع في مصادره وموارده وَجَدَ شاهداً لها بالاعتبار مُرَتِّباً عليها الأحكام"(6).
ومِمَّا ورد عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في اعتبار العمل بالقرائن ما جاء عن عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه أن غلامين من الأنصار تداعيا قتلَ
…
أبي جهل (7)
يوم بدر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" هل مسحتما سيفيكما؟ فقالا: لا، فقال: أرياني سيفيكما، فلما نظر إليهما قال: " هذا قتله وقضى له بسلبه" (8).
فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم قضى بينهما بالسَّلَبِ اعتماداً على أثر الدَّم على السيف، وأثر الدَّم قرينةٌ من القرائن، وهذا يدل على مشروعية القضاء بالقرائن.
وذلك لأنَّ من أعظم مقاصد الشرع تحقيق العدل وقيام الناس بالقسط " فإنَّ الله سبحانه أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل
(1) ينظر: الطرق الحكمية لابن القيم (6)، تبصرة الحكام لابن فرحون (1/ 392)، درر الحكام شرح مجلة الأحكام (2/ 431).
(2)
ينظر: مجموع الفتاوى (35/ 392).
(3)
ينظر: إعلام الموقعين (2/ 171)، الطرق الحكمية (11).
(4)
ينظر: تبصرة الحكام لابن فرحون (1/ 202).
(5)
ينظر: حاشية ابن عابدين (5/ 354).
(6)
الطرق الحكمية: (12).
(7)
هو: عمرو بن هشام بن المغيرة المخزومي القرشي الكناني، كان سيداً من سادات قريش، وكان من أشد الناس عداوةً للنبي صلى الله عليه وسلم، كناه الوليد بن المغيرة وقيل النبي صلى الله عليه وسلم بأبي جهل بعد أن كانت كنيته أبو الحكم، قتل في معركة بدر سنة (2 هـ).
ينظر في ترجمته: السيرة النبوية لابن هشام (1/ 710)، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 120)، الأعلام للزركلي (5/ 87).
(8)
أخرجه البخاري في " صحيحه "، كتاب فرض الخُمسُ، باب من لم يخمِّس الأسلاب ومن قتل قتيلاً فله سلبه من غير ان يخمس وحكم الإمام فيه، رقم (3141)، وأخرجه مسلم في " صحيحه "، كتاب الجهاد والسير، باب استحقاق القاتل سلب القتيل، رقم (1752)، والغلامان هما: معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعاذ بن عفراء رضي الله عنهما.
الذي قامت به الأرض والسماوات، فإذا ظهرت أمارات العدل، وأسفر وجهه بأي طريقٍ كان، فثمَّ شرعُ الله ودِينُه، والله سبحانه أعلمُ وأحكمُ وأعدلُ من أن يخُصَّ طرق العدل وأماراته وأعلامه بشيءٍ، ثم ينفي ما هو أظهر منها وأقوى دلالةً وأبيَنُ أمارة، فلا يجعلها منها، ولا يحكم عند وجودها وقيامها بموجبها، بل قد بيَّن الله سبحانه بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة العدل بين عباده، وقيام الناس بالقسط، فأي طريقٍ استخرج بها العدل والقسط فهي من الدِّين ليست مخالِفةً له" (1).
وإن الاقتصار في إثبات الحقوق على الشهادة والإقرار واليمين والكتابة، وإهدار الحُكْم بالقرائن القوية التي لم يعارضها ما هو أرجح منها، يؤدي إلى إضاعة كثيرٍ من الحقوق، وتعطيل كثيرٍ من الأحكام.
قال ابن القيم: " فالحاكم إذا لم يكن فقيه النَّفْسِ في الأمارات ودلائل الحال ومعرفة شواهده، وفي القرائن الحالية والمقالية، كفقهه في جزئيات وكليَّات الأحكام أضاع حقوقاً كثيرةً على أصحابها، وحكَمَ بما يعلم الناسُ بطلانَه لا يشكَّون فيه، اعتماداً منه على نوعٍ ظاهرٍ لم يلتفت إلى باطنه وقرائن أحواله "(2).
والقرائن تختلف في دلالتها قوةً وضعفاً بحسب قوة الاحتمالات الداخلة عليها وضعفها، فكلَّما سلمت القرينة من الاحتمالات القوية الواردة عليها كانت أقوى في دلالتها وترتيب الحُكْم عليها (3).
والضابط في القرائن المُعْتَبرة: كلُّ قرينةٍ تفيد ظناً قويَّاً راجحاً لا معارِض له أقوى منه (4).
وذلك جرياً على قاعدة: الظنُّ الرَّاجح يقوم مقام العلم عند تعذُّره كما تقدَّم (5).
(1) الطرق الحكيمة لابن القيم: (13).
(2)
المرجع السابق: (4).
(3)
ينظر: الإثبات بالقرائن في الفقه الإسلامي (65 - 70)، وسائل الإثبات للزحيلي (493 - 495).
(4)
ينظر: الإثبات بالقرائن في الفقه الإسلامي (70)، وسائل الإثبات للزحيلي (490).
(5)
ينظر: (213).