الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: علاقة الاجتهاد في المناط بالمصلحة المرسلة
.
يُعْتَبر دليل المصلحة المرسلة من أوثق الأدلة الشرعيَّة صلةً بالاجتهاد في المناط ، وتظهر العلاقة الوثيقة بينهما في جوانب عديدة ، من أهمها ما يأتي:
أولاً: تقدَّم أن المناط اصطلاحاً يعني: العِلَّة، وهي: ما أناطَ الشارعُ الحُكْم به وأضافه إليه (1).
والمجتهد قد يجد عند بحثه عن العِلَّة في حُكْم الأصل وصفاً ظاهراً منضبطاً يمكن تعديته إلى الفرع، فلايعدل حينئذٍ عن إجراء القياس.
وقد لايجد إلا معنىً مناسباً يلائم تصرُّفات الشارع في تحقيق المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها، فيفزع حينئذٍ للاستنجاد به، وبناء الأحكام عليه في النوازل والمستجدات.
وذلك لأن المجتهد عندما يبحث في حُكْم النازلة فإنه إما أن يجد لها نظيراً في الكتاب أو السُّنَّة فيقيس ما لم يَرِدَ حكمه على ما ورد حكمه بجامعٍ مشترك.
وإما أنه لا يجد لتلك النازلة نظيراً بعينه في الكتاب أو السُّنَّة يقيس عليه، فيلجأ إلى النظر في المعاني الكليَّة التي جرت عليها تصرُّفات الشارع، فيحكم بها على تلك النازلة.
وهذا الاجتهاد يشمل المعاني الجزئية والكليَّة التي أناط الشارع الأحكام عليها وجوداً وعدماً.
قال الشافعي: " "كلُّ حُكْمٍ لله أو لرسوله وجدت عليه دلالةٌ فيه أو في غيره من أحكام الله أو رسوله بأنه حُكِمَ به لمعنىً من المعاني، فنزلت نازلةٌ ليس فيها نصُّ حُكْمٍ - حُكِمَ فيها حُكْمُ النازلة المحكوم فيها، إذا كانت في معناها" (2).
(1) ينظر: (31 - 33).
(2)
الرسالة: (512).
والفرق بين الصورتين أن المعاني في القياس ترجع إلى أصلٍ معين، بينما المعاني في المصالح المُرْسَلة لاترجع إلى أصلٍ معين، وإنما ترجع إلى أصولٍ كليَّة.
قال الغزالي: " كلُّ مصلحةٍ رجعت إلى حفظ مقصودٍ شرعيٍّ عُلِمَ كونه مقصوداً بالكتاب والسُنَّة والإجماع فليس خارجاً من هذه الأصول، لكنه لا يُسمَّى قياساً بل مصلحة مُرْسَلة، إذ القياس أصلٌ معيَّن، وكون هذه المعاني مقصودةً عُرِفَت لا بدليلٍ واحد، بل بأدلةٍ كثيرةٍ لا حصر لها من الكتاب والسُّنَّة وقرائن الأحوال وتفاريق الأمارات، تُسمَّى لذلك مصلحةً مُرْسَلة"(1).
وقد تقدَّم أن العِلَّة هي: الوصف الظاهر المنضبط المُعَرِّف للحكم بوضع الشارع (2)، فمثلًا: أوجب الشارع قطع يد السارق، وإذا بحثنا عن عِلَّة هذا الحُكْم نجد أنها: السرقة، والسرقة من الأوصاف الظاهرة التي لا تخفى على أحد، كما أنها منضبطةٌ لا تختلف من شخصٍ لآخر أو من مكانٍ لآخر.
أما الحكمة فهي: المصلحة التي قصد الشارع من تشريع الحُكْم تحقيقها أو تكميلها، أو المفسدة التي قصد الشارع بتشريع الحُكْم دفعها أو تقليلها، فإذا كانت العِلَّة في قطع يد السارق هي: السرقة، فإن الحكمة من تشريع هذا الحدِّ: حفظ أموال الناس وحمايتها وصيانتها.
وبهذا يتبين أن حِكْمَة الحُكْم: هي الباعث على تشريعه، أما عِلَّة الحُكْم فهي الأمر الظاهر المنضبط الذي بنى الشارع الحُكْم عليه، وربطه به وجودًا وعدمًا; لأن من شأن إناطة الحُكْم به تحقُّق حِكْمَة تشريع الحُكْم منه.
ومن أنواع التعليل المُعتبَرة: "التعليل بالحِكْمَة الظاهرة المنضبطة"(3).
(1) المستصفى: (2/ 502 - 503).
(2)
ينظر: (36).
(3)
اختلف الأصوليون في جواز تعليل الحكم بالحِكْمَة المقصودة من تشريع الحكم، على أقوال:
القول الأول: لا يجوز التعليل بالحكمة مطلقاً، سواءٌ كانت منضبطةً أو غير منضبطة، ظاهرةً أو خفية، وهو قول اكثر الأصوليين.
القول الثاني: الجواز مطلقاً ، وهو اختيار الرازي والبيضاوي.
القول الثالث: التفصيل، فيجوز التعليل بالحكمة الظاهرة المنضبطة، ولا يجوز التعليل بها إن كانت مضطربةً أو خفية ، وهو اختيار الآمدي، وصفي الدين الهندي. ينظر: الإحكام للآمدي (3/ 254 - 255) ،شرح تنقيح الفصول (306) ،نهاية الوصول لصفي الدين الهندي (8/ 3494 - 3495) ،الإبهاج (3/ 140) ، نهاية السول (4/ 260 - 262) ،شرح المحلي على جمع الجوامع مع حاشية البناني (2/ 238) ،البحر المحيط (5/ 133) ،تيسير التحرير (4/ 88) ،شرح الكوكب المنير (4/ 47 - 48) ،إرشاد الفحول (2/ 872).
وذلك لأن الحُكْم إذا اقترن بوصفٍ ظاهرٍ منضبطٍ مشتمِلٍ على حِكْمَةٍ غير منضبطةٍ بنفسها فإنه يصح التعليل به، وإن لم يكن هو المقصود من شرع الحكم، بل ما اشتمل عليه من الحِكْمَة الخفية، فإذا كانت الحِكْمَة وهي المقصود من شرع الحُكْم مساويةً للوصف في الظهور والانضباط كانت أولى بالتعليل بها (1).
ومن صور التعليل بالحِكْمَة التعليل بالأوصاف الملائمة لتصرُّفات الشارع التي لم يشهد لها دليلٌ خاصٌّ بالاعتبار أو الإلغاء، وهو ما يُطْلَق عليه مُسمَّى:
…
" المصلحة المُرْسَلة" كما تقدَّم " (2).
وقد بنى الصحابة رضوان الله عليهم كثيراً من تصرُّفاتهم الاجتهادية على التعليل بالمصلحة المرسلة، مثل: ضرب النقود، ووضع الخراج على الأراضي الزراعية، وإنشاء الدواوين، واتخاذ السجون، وغير هذا من المصالح التي وضعوا الأحكام بناءًعليها (3).
ثانياً: قد يتفق المجتهدون على أصل المصلحة المقصودة شرعاً، ولكنَّهم يختلفون في تحقيق مناطها في بعض الصور والجزئيات، فقد يرى بعضهم أن المصلحة متحقِّقةٌ في صورةٍ معيَّنةٍ، ويرى آخرون أنها غير متحقِّقةٍ، أو يعارضها ماهو أرجحُ منها.
فالمقدِّمة الأولى وهي اعتبار المصلحة الكليَّة المقصودة شرعاً وقعت
(1) ينظر: الإحكام للآمدي (3/ 255).
(2)
ينظر: (152 - 153).
(3)
ينظر: شرح تنقيح الفصول (351) ، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 213) ،الاعتصام (612 - 616) ، الموافقات (3/ 41) ،نشر البنود (2/ 189 - 192).
مُسَلَّمَة، ولكن وقع الاختلاف في الحُكْم بثبوتها في صورةٍ معيَّنةٍ، مابين مُثْبِتٍ لوجود تلك المصلحة في تلك الصورة بعينها، وبين نافٍ لوجودها فيها، وهي المقدِّمة الثانية.
وبهذا يكون محلُّ النظر والتأمل والاجتهاد هو المقدمة الثانية.
قال الشاطبي: "والذي يقال فيه أن خاصية المقدِّمة النقلية أن تكون مُسَلَّمَةً إذا تحقَّق أنها نقلية؛ فلا تفتقر إلى نظرٍ وتأملٍ إلا من جهة تصحيحها نقلاً، ونظير هذا في العقليات المقدَّمات المُسَلَّمَة، وهي الضروريات وما تنزَّل منزلتها مما يقع مُسَلَّمَاً عند الخصم؛ فهذه خاصيَّة إحدى المقدِّمتين، وهي أن تكون مُسَلَّمَة"(1).
وقد تقدَّم أن الشريعة لم تنصُّ على حُكْم كلِّ جزئيةٍ على حِدَتِها، وإنما أتت بأمورٍ كليَّةٍ وعبارات مُطْلَقَةٍ تتناول أعداداً لا تنحصر (2).
وقد شملت هذه الكليَّات مصالح الخلق في العاجل والآجل ، ولم يتبق إلا الاجتهاد في تحقيق مناطاتها في الفروع والجزئيات الحادثة.
وإذا حصل خلافٌ ممن هو أهلٌ للاجتهاد في تحقيق مناطات تلك المصالح الكليَّة في بعض الصور والجزئيات فلاحرج حينئذٍ" لأن الأمر في ذلك راجعٌ إلى أمرٍ ظنِّيِّ مُجْتَهَدٍ فيه"(3).
والعبرة في تحقيق مناطات المصالح الكليَّة تحقُّق الظنِّ الراجح الذي لا يعارضه ما هو أقوى منه.
قال ابن عبد السلام: " لمَّا كان الغالب صدق الظنون بُنيَت عليها مصالح الدنيا والآخرة ; لأن كذبها نادر، ولا يجوز تعطيل مصالح صدَّقها الغالب خوفاً من وقوع مفاسد كذَّبها النادر، ولا شك أن مصالح الدنيا والآخرة مبنيَّةٌ على الظنون "(4).
(1) ينظر: الموافقات: (3/ 233 - 234).
(2)
ينظر: (215).
(3)
الموافقات: (5/ 409).
(4)
قواعد الأحكام: (2/ 27).
وأكثر المصالح والمفاسد إنما تُعْرَف بالتقريب لا بالتحديد.
قال ابن عبدالسلام: " أكثر المصالح والمفاسد لا وقوف على مقاديرها وتحديدها، وإنما تُعرف تقريباً؛ لعزة الوقوف على تحديدها"(1).
ولا يشترط فيها القطع " إذ لو شُرِط فيها العلم لفات معظم المصالح الدنيوية والأخروية"(2).
ولذلك يقع الخلاف كثيراً بين المجتهدين في تحقيق مناطات المصالح والمفاسد ، ولاسيما التي لم يرد بشأنها دليلٌ خاصٌّ بالاعتبار أو بالإلغاء، وهي المصالح المُرْسَلة.
ثالثاً: الأحكام الشرعيَّة مطَّرَدةٌ لا تختلف ولا تتغيَّر ، وإنما الذي يتغيَّر هو محل ذلك الحُكْم الذي يتحقَّق فيه المناط أو يتخلَّف عنه، إما لفقدان شرطٍ أو لوجود مانع.
و" حُكْم الله ورسوله لا يختلف في ذاته باختلاف الأزمان وتطوّر الأحوال وتجدّد الحوادث، فإنه ما من قضيةٍ كائنةً ما كانت إلا وحكمها في كتاب الله تعالى وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم نصَّاً أو ظاهراً أو استنباطاً، أو غير ذلك، عَلِم ذلك من عَلِمَه وجَهِله من جَهِله ، وليس معنى ما ذكره العلماء من تَغَيُّر الفتوى بتغيُّر الأحوال ما ظنَّه مَن قَلّ نصيبهم - أو عُدِم - مِن معرفة مدارك الأحكام وعللها، حيث ظنَّوا أن معنى ذلك بحسب ما يلائم إرادتهم الشهوانية البهيمية وأغراضهم الدنيوية وتصوراتهم الخاطئة الوَبِيّة، ولهذا تجدهم يُحَامُون عليها، ويجعلون النصوص تابعةً لها منقادةً إليها مهما أمكنهم، فيُحَرّفون لذلك الكَلِم عن مواضعه، وحينئذٍ مَعنى تَغَيُّر الفتوى بتغيُّر الأحوال والأزمان مُراد العلماء منه ما كان مُسْتَصْحَبةً فيه الأصول الشرعيَّة والعِلل المرعية، والمصالح التي جِنسها مُراد لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم"(3).
(1) القواعد الصغرى: (100).
(2)
قواعد الأحكام: (1/ 206).
(3)
فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن ابراهيم: (12/ 288).
فأحكام الشرع ثابتةٌ لا تتغيَّر ، وستظلُّ كذلك إلى قيام الساعة، ولا يجوز اعتقاد غير ذلك.
ولذلك" لا تجد فيها بعد كمالِها نسخاً، ولا تخصيصاً لعمومها، ولا تقييداً لإطلاقها، ولا رفعاً لحُكْمٍ من أحكامها، لا بحسب عموم المكلفين، ولا بحسب خصوص بعضهم، ولا بحسب زمانٍ دون زمان، ولا حالٍ دون حال، بل ما أُثْبِت سبباً فهو سببٌ أبداً لا يرتفع، وما كان شرطاً فهو أبداً شرط، وما كان واجباً فهو واجبٌ أبداً، أو مندوباً فمندوب، وهكذا جميع الأحكام فلا زوال لها ولا تبُّدل، ولو فُرِض بقاء التكليف إلى غير نهايةٍ لكانت أحكامها كذلك "(1).
والذي يتغيَّر هو محلُّ الحُكْم ، فإنه قد يطرأ عليه من الأحوال والحيثيات ما يجعله مختلِفاً عن محلٍّ آخر، فيقتضي تحقيق مناطٍ مختلِفٍ عن غيره.
فقد يطرأ على محلٍّ من الأحوال والحيثيات ما يتحقَّق معه مناط المصلحة المقصودة شرعاً ، وقد يطرأ عليه من الأحوال والحيثيات ما يتخلَّف عنه مناط المصلحة المقصودة شرعاً.
وعلى هذا فإن المصالح المُرْسَلة قد تختلف بحسب اختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال، فما يكون مصلحةً في حالٍ لا يلزم أن يكون كذلك في حالٍ آخر ، وعلى المجتهد أن يراعي ذلك في تحقيق مناط المصلحة على آحاد الوقائع والجزئيات المتجدِّدة ، ولاسيما التي لم يَرِدْ بشأنها دليلٌّ خاصٌّ بالاعتبار أو الإلغاء.
ومن الأمثلة على ذلك: أن الله أمر المسلمين بإعداد القوة التي ترهب عدوهم، وتقوى بها شوكة المسلمين.
قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60].
وصور القوة التي تتحقَّق بها مصلحة إرهاب العدو تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال.
(1) الموافقات: (1/ 109 - 110).
فقد كانت أكمل صور القوة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم تكمن في الرمي بالسهام كما قال عليه الصلاة والسلام: " ألَا إنَّ القوَّةَ الرَّميُ، ألَا إنَّ القوَّةَ الرَّميُ"(1).
أما في هذا الزمن فإن أكمل صور القوة التي تتحقق بها مصلحة إرهاب العدو تتمثل في: امتلاك الصواريخ، والطائرات الحربية، والمدفعيات، والدبَّابات، والقنابل، ونحو ذلك (2).
وذلك لأن مناط الحُكْم هو إرهاب العدو ، والصور التي يتحقَّق فيه هذا المناط تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال (3).
قال ابن السعدي: "ولهذا قال تعالى: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 6] وهذه العِلَّة موجودةٌ فيها في ذلك الزمان، وهي إرهاب الأعداء، والحُكْم يدور مع عِلَّته ،فإذا كان شيءٌ موجودٌ أكثرَ إرهاباً منها، كالسيارات البرِّية والهوائية، المُعَدَّة للقتال التي تكون النكاية فيها أشدّ، كانت مأموراً بالاستعداد بها، والسعي لتحصيلها، حتى إنها إذا لم توجد إلا بتعلُّم الصناعة، وجب ذلك، لأن ما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب"(4).
وبناءً على ذلك" فالواجب على المسلمين في هذا العصر بنصِّ القرآن صُنْعُ المدافع بأنواعها، والبنادق، والدبابات، والطيارات، والمناطيد، وإنشاء السفن الحربية بأنواعها، ومنها الغَّواصات التي تغوص في البحر، ويجب عليهم تعلُّم الفنون والصناعات التي يتوقَّف عليها صنع هذه الأشياء، وغيرها من قوى الحرب"(5).
(1) رواه مسلم في "صحيحه"، كتاب الإمارة، باب فضل الرمي والحث عليه، وذم من علمه ثم نسيه، رقم (1917) من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه.
(2)
ينظر: التحرير والتنوير (10/ 55).
(3)
ينظر: تفسير المنار (10/ 53).
(4)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (1/ 324).
(5)
تفسير المنار: (10/ 53 - 54).