الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع
علاقة الاجتهاد في المناط بالقياس
سأتناول في هذا المبحث بيان علاقة الاجتهاد في المناط بالقياس ، وذلك من خلال ثلاثة مطالب ، وهي على النحو الآتي:
المطلب الأول: تعريف القياس لغةً واصطلاحاً
.
القياس في اللغة: التقدير والتسوية.
يقال: قاس الشيئ بغيره ، إذا قدّره على مثاله، وساواه به (1).
أما القياس في الاصطلاح فقد اختلف الأصوليون في تعريفه بناءً على اختلافهم في اعتبار أنه من فعل المجتهد ، أو أنه دليلٌ بذاته ، نظر المجتهد فيه أو لم ينظر؟
فمن ذهب إلى أن القياس عمل المجتهد عبَّر في تعريفه ب"الحمل" أو "الإثبات" أو " الإلحاق " ومافي معناه ، ومن أشهر التعريفات بناءً على ذلك مايأتي:
- عرَّفه الباقلاني بأنه: " حمل معلومٍ على معلومٍ في إثبات حُكْمٍ لهما أو نفيه عنهما بأمرٍ جامعٍ بينهما من إثبات حُكْمٍ أو صفةٍ أو نفيهما عنهما"(2).
- وعرَّفه البيضاوي بأنه: " إثبات حُكْمِ معلومٍ في معلومٍ آخر لاشتراكهما
(1) ينظر: معجم مقاييس اللغة (5/ 41) ، لسان العرب (6/ 187) ، تاج العروس (16/ 421) مادة "ق وس ".
(2)
ينظر: البرهان (2/ 745) ، المستصفى (3/ 481) ، المحصول (5/ 5) ، البحر المحيط للزركشي (5/ 8).
في عِلَّة الحُكْم عند المُثْبِت" (1).
- وعرَّفه ابن السُّبكي بأنه: " حملُ معلومٍ على معلومٍ لمساواته في عِلَّة حُكْمِه عند الحامِل"(2).
ومن ذهب إلى أن القياس دليلٌ بذاته ، نصبه الشارع للدلالة على الحُكْم ، سواءٌ نظر فيه المجتهد أم لم ينظر ، عبَّر في تعريفه ب" الاستواء" أو " المساواة"، ومن أشهر التعريفات بناءً على ذلك ما يأتي:
- عرَّفه الآمدي بأنه: " الاستواء بين الفرع والأصل في العِلَّة المُستْنَبطة من حُكْم الأصل "(3).
- وعرَّفه ابن الحاجب بأنه: " مساواة فرعٍ لأصلٍ في عِلَّة حُكْمِه "(4).
والفرق بين الاتجاهين: أن أصحاب الاتجاه الأول اعتبروا الدليل هو إثبات المساواة بين الفرع والأصل في عِلَّة الحُكْم وإظهارها، بينما اعتبر أصحاب الاتجاه الثاني أن الدليل هو المساواة ذاتها بين الفرع والأصل في عِلَّة الحُكْم ، وليس الدليل هو إظهار المساواة بينهما الذي يُعْتَبر عمل المجتهد لا دليل الحُكْم ، ودليل الحُكْم يلزم أن يكون ثابتاً في نفسه ، نظر فيه المجتهد أم لم ينظر كالنصّ؛ لأنه يسبق عمل المجتهد (5).
والأظهر أن القياس تصرُّفٌ اجتهاديٌّ مبنيٌّ على دليلٍ مُعتبَرٍ بذاته ، كالكتاب أو السُنَّة أو الإجماع ، فهو طريق الحُكْم ، وليس دليله.
فالقياس مُظْهِرٌ للحُكْم وليس مُثْبِتاً له، والمُثْبِت له هو دليل الأصل؛ حيث إن القياس يُظْهِر المساواة بين الفرع والأصل في عِلَّة الحُكْم ، ودليل
(1) منهاج الوصول (55) ، الإبهاج شرح المنهاج (3/ 3) ، نهاية السول (4/ 2).
(2)
جمع الجوامع (80) ، شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 238 - 239).
(3)
الإحكام: (3/ 237).
(4)
مختصر ابن الحاجب (2/ 1025 - 1026) ، بيان المختصر للأصفهاني (3/ 6) ، رفع الحاجب عن مختصر ابن السبكي (4/ 137) ، شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 204).
(5)
ينظر: شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 239 - 240).
الأصل هو المُثْبِت للحُكْم ، ولولا دليل الأصل لكان ذلك إثباتاً للشرع بالتحَكُّم (1).
ثم إن المساواة بين الفرع والأصل في عِلَّة الحُكْم إذا لم تظهر لم يُعْتَبر ذلك قياساً؛ لأنها خفيَّةٌ لم تُعْلَم ، فالمساواة هي الأصل الذي بَنَى عليه القائس تصرَّفه الاجتهادي ، والمجتهد لايعطي حُكْمَاً بمجرَّد نظره ، بل يتبيَّن المساواة بين الفرع والأصل في عِلَّة الحُكْم ، وذلك بالطرق المُعْتَبرة شرعاً، فإذا ثبتت عنده المساواة أظهرها وأثبتها، وألْحَقَ الفرع بالأصل في حُكْمِه.
قال التفتازاني: " واعلم أن القياس وإن كان من أدلة الأحكام مثل الكتاب والسُّنَّة لكن جميع تعريفاته واستعمالاته منبئٌّ عن كونه فعل المجتهد ، فتعريفه بنفس المساواة محلُّ النظر"(2).
والأظهر " أن أكثر الأصوليين إنما عرَّفوه بما هو فعل المجتهد، وإن كان الدليل في الحقيقة هو الاشتراك في العِلَّة؛ لأن جميع استعمالاته تنبئ عن كونه فعل المجتهد ، ولعل السِرَّ في كونه استُعمِل كذلك أنه بهذا الاعتبار هو محلُّ القبول والردّ ، وأما مجرَّد المساواة من غير نظر المجتهد فلا اعتداد بها، ولا يترتَّب عليها شيء"(3).
ومما يدل على ذلك:
- ماثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له: بم تَحْكُم؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: بسُنَّة رسول الله، قال: فإن لم تجد في سُنَّة رسول الله؟ قال: أجتهدُ رأيي ولا آلو، فقال صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي وفَّق رسولَ رسولِ الله لما يرضاه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم" (4).
- ما جاء في كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأبي موسى الأشعري قوله:
(1) ينظر: المحصول (5/ 6).
(2)
حاشية التفتازاني على شرح العضد على مختصر ابن الحاجب: (2/ 205).
(3)
نبراس العقول: (1/ 31).
(4)
سبق تخريجه: (22).
" الفهمَ الفهمَ فيما أُدلي إليك مما ليس في قرآنٍ ولا سُنَّة، ثم قِس الأمور عند ذلك، واعرف الأمثال والأشباه ، ثم اعمد فيها إلى أحبِّها إلى الله تعالى وأشبهها بالحق"(1).
والمقايسة عبارةٌ عن إلحاق ماليس فيه نصٌّ بما فيه نصٌّ لجامعٍ مشتركٍ بينهما، وهذا الإلحاق تصرُّفٌ اجتهاديٌّ مبنيٌّ على أدلةٍ شرعيَّةٍ مُعتبَرةٍ ثبت معها -عند المجتهد- الاستواء بين الفرع والأصل في عِلَّة الحُكْم ، وهو اجتهادٌ في موجِب الكتاب والسُنَّة والإجماع (2).
والقياس تصرُّفٌ اجتهاديٌّ يدخل في قوله رضي الله عنه: " أجتهدُ رأيي" ، وقد نسبه إلى فعله ، فدلَّ ذلك على أنه فعل المجتهد باعتباره مُظْهِراً للحُكْم لا دليلاً مستقلاً بذاته.
- إن ثمرة القياس هي ثبوت مثل حُكْم الأصل في الفرع ، وذلك لاشتراكهما في عِلَّة الحُكْم ، وهذا يستلزم إثباتَ عِلَّة الحُكْم في الأصل أوَّلاً ، ثم إثبات وجودها في الفرع ثانياً ، ولايتم ذلك إلا بالاجتهاد الذي يتبيَّن به القائسُ ثبوتَ الاشتراك في العِلَّة بين الأصل والفرع.
ولهذا نلحظ المهرة من الأصوليين كالبيضاوي ، وابن السُّبكي ، في تعريفهم للقياس " يعلِّلون الإثبات أو الحمل بما هو الدليل في الحقيقة ، وهو المساواة في العِلَّة "(3).
وبناءً على ذلك فإن من أدقِّ التعريفات للقياس أن يقال هو: " إثباتُ مثلِ حُكْمِ معلومٍ لمعلومٍ آخر لأجل اشتراكهما في عِلَّة الحُكْم عند المُثْبِت"(4).
فقوله: "إثبات" يراد به المُشترَك بين العلم والظنِّ والاعتقاد؛ لأنَّا إذا
(1) سبق تخريجه: (229).
(2)
ينظر: التبصرة للشيرازي (426).
(3)
نبراس العقول: (1/ 31 - 32).
(4)
ينظر: شرح تنقيح الفصول (383) ، نهاية السول (2/ 4) ، الإبهاج (3/ 3).
أثبتنا حُكْمَاً بالقياس، فقد يعلم المجتهد ثبوت ذلك الحُكْم في الفرع قطعاً، وقد يظنّه ظنَّاً، وقد يعتقده اعتقاداً، والعلم والظن والاعتقاد مشترِكةٌ في كونها إثباتاً (1).
وقوله: "مثل حُكْمِ معلومٍ" لأن حُكْم الفرع ليس هو نفس حُكْم الأصل، إذ الحُكْم وصفٌ لمحلِّه، ووصف أحد المحلِّيْن ليس وصفاً للآخر، فتحريم الخمر ليس هو نفس تحريم النبيذ، بل هو مثله (2).
وقوله: "حُكْمِ معلومٍ لمعلوم" ليتناول الموجود والمعدوم، ولم يقل: حُكْم شيءٍ لشيء؛ لئلا يختصَّ بالموجود على أصل أن المعدوم ليس بشيء، والقياس الشرعي جارٍ في الموجود والمعدوم والمُثْبَت والمنفي (3).
وقوله: "لاشتراكهما في عِلَّة الحكم" ظاهر؛ لأن القياس لايوجد بدون عِلَّة ، واحتُرِز بذلك عن إثبات مثل حُكْمِ معلومٍ في معلومٍ آخر لا للاشتراك في العِلَّة، بل لدلالة نصٍّ أو إجماعٍ فإنه لا يكون قياساً (4).
وقوله: "عند المُثْبِت" ليشمل القياس الصحيح والفاسد؛ وذلك لأن العِلَّة قد تكون منصوصةً، وقد تكون مُستنبَطةً، كعِلَّة الرِّبا المُستخْرَجة من تحريم الرِّبا في الأعيان الستة بطريق تخريج المناط، وهل هي الكيل، أو الطعم، أو الوزن، أو الاقتيات؟ وقد ذهب إلى كلِّ واحدةٍ منها بعض المجتهدين، ومراد الشرع إنما هو واحدةٌ منها، فلو اقتصرنا على قولنا:"لاشتراكهما في عِلَّة الحكم " لكان بتقدير أن تكون العِلَّة المرادة من الحديث هي الكيل، يكون التعليل بغيرها قياساً فاسداً خارجاً عن الحدِّ المذكور؛ لأنه بغير العِلَّة المرادة للشارع، فإذا قلنا: لاشتراكهما في عِلَّة الحُكْم عند المُثْبِت- وهو القائس- كان إثبات كلِّ مجتهدٍ للحُكْم بالوصف الذي رآه عِلَّةً قياساً شرعياً داخلاً في الحدِّ المذكور (5).
(1) ينظر: شرح تنقيح الفصول (383) ، نهاية السول (4/ 2 - 3) ، الإبهاج (3/ 3).
(2)
ينظر: شرح تنقيح الفصول (384) ، نهاية السول (4/ 3) ، الإبهاج (3/ 3).
(3)
ينظر: نهاية السول (4/ 3) ، الإبهاج (3/ 3 - 4).
(4)
ينظر: شرح تنقيح الفصول (383 - 384) ، نهاية السول (4/ 3) ، الإبهاج (3/ 4).
(5)
ينظر: شرح تنقيح الفصول (383 - 384) ، نهاية السول (4/ 3) ، الإبهاج (3/ 4).