الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلا بعد استنشاق رائحة المعنى الذي هو مناط الحُكْم، وإن لم يُطلَّع بَعْدُ على تحديدْه أو تعيينه " (1).
ولهذا المعنى عَدَّ ابن السبكي " إلغاء الفارق " ضمن مسالك العِلَّة، وذكر أنه يرجع إلى ضرب شبه؛ لأنه يحصل به ظن العِلِّية في الجملة (2).
وإذا كان "إلغاء الفارق "لا يخلو من وجود معنىً جامعٍ مجملٍ بخلاف "تنقيح المناط" الذي لابد فيه من تعيين المعنى الجامع، فقد قيَّد الغزالي المواضع التي يُحْذَف فيها تأثير الفارق، ويجوز الإلحاق به دون تنقيح المناط واستنباط العِلَّة وتعيينها، حيث قال:"والطريق الأول الذي هو التعرُّض للفارق ونفيه ينتظم: حيث لم تُعْرف عِلَّة الحُكْم، بل ينتظم في حُكْمٍ لا يُعَلَّل، وينتظم حيث عُرِف أنه مُعَلَّل، لكن لم تتعين العِلَّة، فإنا نقول: الزبيب في معنى التمر في الرِّبا قبل أن يتعين -عندنا- عِلَّة الرِّبا أنه الطعم أو الكيل أو القوت، وينتظم حيث ظهر أصل العِلَّة وتعيَّن -أيضاً- ولكن لم تتلخَّص بَعْدُ أوصافه، ولم تتحرَّر بَعْدُ قيوده وحدوده"(3).
الترجيح بين الاتجاهات السابقة:
من خلال ما سبق من المقارنة بين اتجاهات الأصوليين في بيان العلاقة بين تنقيح المناط وإلغاء الفارق فإنه يترجَّح -والعلم عند الله- أن "إلغاء الفارق" إذ أُظْهِر معه حذف خصوصية الوصف الذي دلَّ ظاهر النصِّ على عِلِّيته صراحةً أو إيماءً، وأنيط الحُكْم بالمعنى الأعمِّ بعد تعيينه، فهو أحد صور تنقيح المناط.
قال الغزالي: " وإنما الشأن في تنقيح المناط وتلخيصه وتجريده عن كلِّ ما لا مدخل له في الاعتبار، وتقييده بكلِّ وصفٍ له دَخْلٌ في الاعتبار، حتى يصير محدوداً مميزاً لا يدخل فيه ما ليس منه، ولا يخرج منه ما هو مناطٌ
(1) أساس القياس: (68 - 69).
(2)
ينظر: جمع الجوامع (95)، شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 293).
(3)
المستصفى: (3/ 603).
للحُكْم أصلاً" (1).
ومن الأمثلة التي توضح ذلك: إلغاء الوصف الفارق وهو الذُّكورة بين العبد والأَمَة في قوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] وذلك بحذف خصوصية الوصف الذي دلَّ ظاهر النصِّ على عليِّته وهو " الأنوثة "، وتعيين وصف " الرِّق " مناطاً للحُكْم الذي هو تشطير الحدِّ، فوجب استواؤهما فيه (2).
ففي هذا المثال لم يُقْتَصَر على التعرُّض لنفي الفارق وهو "الذكورة"، بل تعيَّن مناط الحُكْم وهو "الرِّق" بحذف خصوصية الوصف الذي دلَّ ظاهر النصِّ على عِلِّيته وهو "الأنوثة"، فحينئذٍ يصدق على هذه الصورة تسميتها بـ " تنقيح المناط "؛ لأن مناط الحُكْم -هنا- تعيَّن وتميَّز.
أما إذا اقْتُصِرَ على إلغاء الوصف الفارق بين الأصل والفرع، ولم تُعَيَّن فيه العِلَّة وتتميَّز كما لو كان ذلك في الحالات التي ذكرها الغزالي (3) فإنه لا يُعَدُّ إلغاء الفارق في هذه الصورة من تنقيح المناط؛ لأن "تنقيح المناط" يعني: تهذيب العِلَّة وتمييزها، فإذا لم تُعيَّن العِلَّة وتُهَذَّب لم تصدق التسمية بذلك.
(1) أساس القياس: (51).
(2)
ينظر: شرح تنقيح الفصول (388)، رفع النقاب عن تنقيح الشهاب (5/ 288)، نثر الورود (2/ 522)، نشر البنود (2/ 205).
(3)
ينظر: (99 - 100).