الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
و" ليس يخلو أمْرُ الله تعالى بالرد إلى كتابه وسُنَّة نبيه عند التنازع من أحد ثلاثة معانٍ: إما أن يكون أمراً بردِّ المُتنازَع فيه إلى ما نصَّ الله عليه في كتابه ورسوله في سُنَّته لا إلى غير ذلك ، فأيُّ منازعةٍ وأي اختلافٍ يقع فيما قد تولَّى الله ورسوله الحُكْم فيه نصَّاً ، فهذا لا معنى له، أو يكون أمراً بردِّه إلى ما ليس له بنظيرٍ ولا شبيه ، ولا خلاف أن ذلك لا يجوز أو يكون أمراً بردِّه إلى جنسه ونظيره مما قد تولَّى الله ورسوله الحُكْم فيه نصَّاً فيُستَدل بحكمه على حكمه ، ولا وجه للردِّ إلى غير هذا المعنى؛ لفساد القسمين الأولين، وأن لا رابع لما ذكرناه"(1).
وما نُقِل عن بعض الصحابة مما يُستَدل به على إنكار العمل بالرأي والقياس فهو محمولٌ على القياس الباطل الذي يخالف الكتاب أو السُّنَّة أو الإجماع أو القواعد الشرعيَّة، أما ما كان مستوفياً لأركانه وشروطه فهو من القياس المُعتبَر شرعاً (2).
المطلب الثالث: علاقة الاجتهاد في المناط بالقياس
.
يُعْتَبر دليل القياس أوثق الأدلة الشرعيَّة صلَةً بالاجتهاد في المناط ، وتظهر هذه العلاقة الوثيقة بينهما في جوانب عديدة ، من أهمها مايأتي:
أولا: الاجتهاد في المناط بأنواعه الثلاثة يُعْتَبر أهم مُتَعَلَّقات النظر والاستدلال في القياس، ومرجع ذلك إلى أمرين:
الأول: أن الاجتهاد في المناط هو المقدمة الضرورية لإجراء القياس.
والثاني: أن النظر في كلِّ الأنواع الثلاثة للاجتهاد في المناط يتوجّه إلى أهم ركنٍ من أركان القياس وهو " العِلَّة ".
(1) الفقيه والمتفقه: (1/ 469).
(2)
ينظر: الإحكام للآمدي (4/ 62 - 63).
وتوضيح ذلك على النحو الآتي:
أما كون الاجتهاد في المناط هو المقدمة الضرورية للقياس فذلك لأن القياس يتوقف على مقدمتين:
المقدمة الأولى: إثبات العِلَّة في حُكْم الأصل بمسلكٍ من مسالك العِلَّة المُعْتَبرة.
والمقدمة الثانية: إثباتُ عِلَّة حُكْم الأصلِ في الفرع.
فإن ثبتت العِلَّة في حُكْم الأصل بالنصِّ مع أوصافٍ أخرى لا تأثير لها في الحكم تعلَّق النظر فيها - حينئذٍ- بتنقيح المناط، وإن ثبتت العِلَّة في حُكْم الأصل بالاستنباط تعلَّق النظر فيها بتخريج المناط، وبهذا تتقرر المقدمة الأولى.
ثم إذا ثبتت العِلَّة في حُكْم الأصل بالنصِّ أو الإجماع أو الاستنباط كما في المقدمة الأولى فالنظر فيها بعد ذلك يتعلَّق بالتحقُّق من وجودها في الفرع وهو تحقيق المناط، وبهذا تتقرر المقدمة الثانية بعد تقرر الأولى.
قال الفخر الرازي: " واعلم أن الجمع بين الأصل والفرع تارةً يكون بإلغاء الفارق والغزالي يسميه تنقيح المناط ، وتارةً باستخراج الجامع ، وهاهنا لابدَّ من بيان أن الحُكْم في الأصل مُعلَّلٌ بكذا ، ثم من بيان وجود ذلك المعنى في الفرع ، والغزالي يُسمِّي الأول تخريج المناط ، والثاني تحقيق المناط "(1).
ومن خلال النظر في هاتين المقدمتين يتضح أن المقدمة الأولى لابدَّ أن تتضمن تنقيح المناط أو تخريج المناط، وأن المقدمة الثانية لابدَّ فيها من تحقيق المناط.
فإذا ثبتت المقدمة الأولى ثم ثبتت المقدمة الثانية أجرى المجتهد القياس، فأثْبَتَ مثلَ حُكْم الأصل في الفرع؛ لاشتراكهما في عِلَّة الحُكْم.
(1) المحصول: (5/ 20).
ومن هذا الوجه يُعْتَبر الاجتهاد في المناط المقدمة الضرورية لإجراء القياس.
أما كون الاجتهاد في المناط يتعلَّق بالنظر في أهم ركنٍ من أركان القياس فذلك لأن الأنواع الثلاثة للاجتهاد في المناط تشترك كلها في أنها تَرِدُ على العِلَّة، إما لتنقيحها إذا كانت العِلَّة منصوصةً واقترن بها من الأوصاف ما يصلح للعلية وما لا يصلح، أو لتخريجها إذا كانت العِلَّة مُسْتنبَطة، أو لتحقيقها في الفرع سواءً ثبتت العِلَّة في حُكْم الأصل بالنصِّ أو الإجماع أو الاستنباط.
وقد ذكر الأصوليون الأنواع الثلاثة للاجتهاد في المناط ضمن مباحث العِلَّة، وصرَّحوا بأن المقصود بـ" المناط" في اصطلاحهم - هنا - العِلَّة واعتبروه أحد إطلاقاتها كما تَقَدَّم (1).
والعِلَّة أهم ما يُعْتَنَى به في باب القياس على الإطلاق؛ لأنها ركن القياس الأعظم، وهي الطريق الموصل إلى أحكام الوقائع المتجدِّدة التي لا حصر لها (2).
ولا ريب أن القول بعدم اعتبار العلل الشرعيَّة قولٌ يفضي إلى تعطيل الشريعة في الأزمنة المتجدِّدة؛ لأنه لابدَّ من حدوث وقائع لا تكون منصوصاً على حكمها، وعند ذلك إما أن يُتْرَكَ الناسُ فيها مع أهوائهم، وهو خلاف المقصود من إنزال الشرائع والتعبُّد بها، أو يُنْظَرَ فيها بغير اعتبارٍ للمعاني والأوصاف التي أناط الشارع الأحكام بها، فيُجْمَعُ بين المُختلِفات ويُفرَّقُ بين المتماثلات، وهو مناقضةٌ لقصد الشارع، وإهدارٌ للمعاني التي علَّقت الشريعة الأحكام بها وجوداً وعدماً، ومجانبةٌ للعدل الذي أنزل الله به الكتب وأرسل من أجله الرسل.
قال ابن تيمية: " القياس الصحيح حقيقته التسوية بين المتماثلين، وهذا هو العدل الذي أنزل الله به الكتب، وأرسل به الرسل، والرسول لا يأمر
(1) ينظر: (31 - 33).
(2)
ينظر المعتمد: (2/ 692)، البحر المحيط للزركشي (7/ 142)، نبراس العقول (215).
بخلاف العدل، ولا يَحْكُم في شيئين متماثلين بحكمين مختلفين، ولا يُحرِّم الشيء ويُحِلُّ نظيره " (1).
وقال ابن القيم: " وهل إبطالُهُ الحِكَم والمناسباتِ والأوصافَ التي شُرِعَت الأحكام لأجلها إلا إبطالٌ للشرع جملة، وهل يُمْكِنُ فقيهاً على وجه الأرض أن يتكلَّم في الفقه مع اعتقاده بطلان الحكمة والمناسبة والتعليل وقصد الشارع بالأحكام مصالح العباد؟ وجناية هذا القول على الشرائع من أعظم الجنايات "(2).
وقال الشاطبي: " الوقائع في الوجود لا تنحصر، فلا يصح دخولها تحت الأدلة المنحصرة، ولذلك احتيج إلى فتح باب الاجتهاد من القياس وغيره، فلابدَّ من حدوث وقائع لا تكون منصوصاً على حكمها، ولا يوجد للأولين فيها اجتهاد، وعند ذلك فإما أن يُتْرَكَ الناسُ فيها مع أهوائهم أو يُنْظَرَ فيها بغير اجتهادٍ شرعي، وهو - أيضاً- اتباعٌ للهوى، وهو معنى تعطيل التكليف لزوماً .. "(3).
ولهذا فإن للاجتهاد في المناط أهميةً بالغة، حيث تعلَّق النظر والاستدلال في أنواعه الثلاثة بالأوصاف والمعاني التي أناط الشارع الأحكام بها وجوداً وعدماً، وذلك من خلال تنقيح العلل المنصوصة التي اقترنت بها أوصافٌ بعضها يصلح للعِلِّية وبعضها لا يصلح، واستخراج العلل المُستنْبَطة، ثم إثبات وجودها في الفروع وآحاد الصور والجزئيات غير المتناهية ، و" العِلَّة" أهم ركنٍ من أركان القياس.
ثانياً: القياس تارةً يكون بذكر الجامع ، وتارةً يكون بإلغاء الفارق، وإلغاء الفارق من صور تنقيح المناط كما تقدم (4).
وبناءً على ذلك اعتبر جمهور الأصوليين الاجتهاد في تنقيح المناط من القياس (5).
(1) مجموع الفتاوى: (22/ 332).
(2)
شفاء الغليل: (362 - 363).
(3)
الموافقات: (5/ 38 - 39).
(4)
ينظر: نهاية الوصول (8/ 3381)، الابتهاج (6/ 2396)، البحر المحيط للزركشي (7/ 323)، إرشاد
الفحول (2/ 641).
(5)
ينظر: (77 - 78).
قال صفي الدين الهندي: " والحقُّ أن تنقيح المناط قياسٌ خاصٌّ مندرجٌ تحت مُطْلَق القياس، وهو عامٌّ يتناوله وغيرَه "(1).
واصطلح الحنفية على تسميته بـ" الاستدلال "، أو "دلالة النص"، وفرَّقوا بينه وبين القياس: بأن القياس يجري فيه إلحاق الفرع بالأصل بذكر الجامع الذي لا يفيد إلا غَلَبَة الظن، أما الاستدلال فيكون بإلغاء الفارق لما ثبت عِلَّته بالنصِّ بحذف خصوص عِلَّةً النصِّ، وهذا يفيد القطع، فيكون أقوى من القياس، فلذا أجروه مجرى القطعيات في النسخ به ونسخه (2).
وقال الإسنوي: " وهذا النوع عند الحنفية يُسَمُّونه بالاستدلال، وليس عندهم من باب القياس "(3).
وقد عقَّب صفي الدين الهندي على ذلك بقوله: " والحقُّ أن تنقيح المناط قياسٌ خاصٌّ مندرجٌ تحت مُطْلَق القياس، وهو عامُّ يتناوله وغيره، وكلُّ واحدٍ من القياسين- أعني ما يكون الإلحاق بذكر الجامع وبإلغاء الفارق - يُحْتَمَلُ أن يكون ظنياً وهو الأكثر؛ إذ قلما يوجد الدليل القاطع على أن الجامع عِلَّة، أو أن ما به الامتياز لا مدخل له في العِلِّية، وقد يكون قطعياً بأن يوجد ذلك فيه، نعم حصول القطع فيما فيه الإلحاق بإلغاء الفارق أكثر من الذي فيه الإلحاق بذكر الجامع، لكن ليس ذلك فرقاً في المعنى بل في الوقوع، وحينئذٍ ظهر أنه لا فرق بينهما في المعنى"(4).
وذهب الأبياري وابن تيمية إلى أن " تنقيح المناط " خارجٌ عن باب القياس المتنازع فيه، وهو راجعٌ إلى نوعٍ من تأويل الظواهر يتناول كلَّ حُكْمٍ تعلَّق بعينٍ معينةٍ مع العلم بأنه لا يختصُّ بها، فيحتاج أن يعرف المناط الذي تعلَّق به ذلك الحُكْم.
(1) نهاية الوصول: (8/ 3381).
(2)
ينظر: نهاية الوصول (8/ 3381)، الابتهاج (6/ 2396)، البحر المحيط للزركشي (7/ 323).
(3)
نهاية السول: (4/ 141).
(4)
نهاية الوصول: (8/ 3381 - 3382).
قال الأبياري: " هو خارجٌ عن القياس، وكأنه يرجع إلى تأويل الظواهر"(1).
وقال ابن تيمية: " وهذا بابٌ واسع، وهو متناولٌ لكلِّ حُكْمٍ تعلَّق بعينٍ معينةٍ مع العلم بأنه لا يختصُّ بها، فيحتاج أن يُعَرْف المناط الذي يتعلَّق به الحُكْم، وهذا النوع يُسَمِّيه بعض الناس قياساً، وبعضهم لا يُسَمِّيه قياساً، ولهذا كان أبو حنفية وأصحابه يستعملونه في المواضع التي لا يستعملون فيها القياس، والصواب أن هذا ليس من القياس الذي يمكن فيه النزاع "(2).
ثالثاً: يعتبر الاجتهاد في تخريج المناط هو الاجتهاد القياسي الذي عظم فيه الخلاف بين العلماء.
قال الغزالي: " فهذا - أي: تخريج المناط - هو الاجتهاد الذي عَظُمَ فيه الخلاف "(3).
وقال صفي الدين الهندي: " وهذا النوع من الاجتهاد هو القياس المختلَف فيه بين الناس "(4).
وقال الشاطبي: "وهو- أي: تخريج المناط - الاجتهاد القياسي"(5).
وذلك لأن عِلَّة الحُكْم الذي دلَّ النصُّ أو الإجماع عليه مُستنْبَطةٌ بأحد المسالك الاجتهادية ، كالمناسبة ، أو السَّبْر والتقسيم، أو الدوران.
والقياس الذي اُستنبِطت العِلَّة فيه بأحد المسالك الاجتهادية هو محلُّ الخلاف بين المثبتين له والنافين.
أما القياس الذي ثبت عِلَّتُه بنصٍّ أو إجماعٍ فالعمل بمعناه مَحَلُّ وفاقٍ
(1) البحر المحيط للزركشي: (7/ 323).
(2)
مجموع الفتاوى: (22/ 330).
(3)
المستصفى: (3/ 491).
(4)
نهاية الوصول: (7/ 3047).
(5)
الموافقات: (5/ 22).
- في الجملة- عند العلماء سواءً سُمِّيَ قياساً أم لا، فالأمر في ذلك يرجع إلى الاصطلاح (1).
قال الغزالي: " ينقسم الجامع إلى معلومٍ بالنصِّ، وإلى معلومٍ بالاستنباط، فهذا لا يمنعه وضع اللغة، فإن خُصِّص بالاصطلاح فكذلك - أيضاً - لا حجر فيه
…
ولكن ينبغي أن يُعْلَمَ أن حاصل الخلاف يرجع إلى أمرٍ لفظي، وإلا فَحَظُّ المعنى مُتَّفَقٌ عليه، فخرج منه: أن المُسمَّى قياساً - بالاتفاق - هو إلحاقُ فرعٍ بأصلٍ بجامعٍ مُسْتَنْبَطٍ بالفكر " (2).
ومحلُّ الاجتهاد في هذا النوع من الأقيسة هو بذل الجهد في استخراج مناط الحُكْم.
قال الحجوي: " إذا تأمت هذه الأقيسة التي تلونا عليك وجدت محلَّ الاجتهاد فيها تخريج مناط الحكم، وهو استنباط الوصف المناسب من النصِّ ليُجعَل مدارًا للحكم "(3).
ولهذا اعتبر الأصوليون استخراج عِلَّة الحُكْم في الأصل بمسلك المناسبة هو
…
" عمدة كتاب القياس"(4)؛ لأن أكثر الأقيسة يُلْحَق فيها الفرع بالأصل لجامعٍ مُستنْبَطٍ بمسلك المناسبة الذي يُعَدُّ أهم صور الاجتهاد في تخريج المناط.
رابعاً: يُعتَبر الاجتهاد في تحقيق المناط أعمَّ من القياس.
وذلك لأن القياس يختصُّ بالعِلل سواءٌ كانت منصوصةً أو مُجْمَعاً عليها أو مُستنْبَطة ، بينما تحقيق المناط يشمل ما إذا كان المناط عِلَّةً ثبتت بنصٍّ أو إجماعٍ أو استنباط، أو كان المناط قاعدةً كليَّةً ثبتت بنصٍّ أو إجماع أو
(1) ينظر: الإحكام للآمدي (4/ 35)، الإبهاج (3/ 83)، البحر المحيط للزركشي (7/ 24 - 25)، شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 204)، إرشاد الفحول (2/ 584).
(2)
أساس القياس: (109).
(3)
الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي: (1/ 132).
(4)
البحر المحيط للزركشي: (5/ 206).
استنباط، أو كان مقتضى لفظٍ عامٍّ أو مطلقٍ تعلَّق به حُكْمٌ شرعي (1).
قال الغزالي: " الحُكْم في الأشخاص التي ليست متناهيةً إنما يتمُّ بمقدمتين: كُليَّة، كقولنا: كلُّ مطعوم ربوي، وجزئيَّة، كقولنا: هذا النبات مطعومٌ أو الزعفران مطعوم، وكقولنا: كلُّ مُسْكِرٍ حرام، وهذا الشراب بعينه مُسْكِر، وكلُّ عدْلٍ مُصَدَّق، وزيدٌ عَدْل، وكلُّ زانٍ مرجوم، وماعز قد زنى فهو إذاً مرجوم، ، والمقدمة الجزئية هي التي لا تتناهى مجاريها فيضطر فيها إلى الاجتهاد لا محالة، وهو اجتهادٌ في تحقيق مناط الحكم، وليس ذلك بقياس، أما المقدمة الكليَّة فتشتمل على مناط الحُكْم وروابطه، وذلك يمكن التنصيص عليه بالروابط الكليَّة، كقوله: كلُّ مطعوم ربويٍّ بدلاً عن قوله: لا تبيعوا البُرَّ بالبُرِّ، وكقوله: كلُّ مُسْكِرٍ حرام بدلاً عن قوله: حرّمت الخمر، وإذا أتى بهذه الألفاظ العامّة وقع الاستغناء عن استنباط مناط الحكم، واستغني عن القياس، هذا مع أنه يمكن منازعة هذا القائل بأنه لم يجب استيعاب جميع الصور بالحكم، ولم يَسْتَحِلْ خلو بعضها عن الحكم، فإنه في المقدمة الجزئية أيضا يمكن أن يُرَدَّ فيه إلى اليقين، فيقال: من تيقنتم صدقه، وما تيقنتم كونه مطعوماً أو مُسْكِراً فاحكموا به، وما لم تتيقنوا به فاتركوه على حُكْم الأصل، إلا أن هذا لا يجري في جميع الجزئيات؛ لأنه لا سبيل إلى تيقُّن صدق الشهود، وعدالة القضاة، والولاة، ولا سبيل إلى تعطيل الأحكام، وكذلك لا سبيل إلى تقديرٍ متيقَّنٍ في كفاية الأقارب، وأروش المتلفات، فإن التكثير فيه إلى حصول اليقين ربما يضرُّ بجانب الموجَب عليه كما يضرُّ التقليل بجانب الموجَب له، فالاجتهاد في تحقيق مناط الحُكْم ضرورةٌ أما في تخريج المناط وتنقيح المناط فلا"(2).
خامساً: إذا كان المناط عِلَّةً ثبتت بنصٍّ أو إجماعٍ أو استنباط، وثبت المناط في حُكْم الأصل قطعاً ، ثم ثبت وجوده كذلك في الفرع كان القياس قطعياً.
(1) ينظر: (194 - 195).
(2)
المستصفى: (3/ 504 - 505).
أما إذا ثبت المناط فيهما، أو في أحدهما ظنَّاً، كان القياس حينئذٍ ظنِّياً.
قال الفخر الرازي: "إذا اعتقدنا كون الحُكْم في محلِّ الوفاق مُعَلَّلاً بوصف ، ثم اعتقدنا حصول ذلك الوصف بتمامه في محلِّ النزاع ، حصل لا محالةَ اعتقاد أن الحُكْم في محلِّ النزاع مثل الحُكْم في محلِّ الوفاق ، فإن كانت المقدمتان قطعيتين كانت النتيجة كذلك ،ولا نزاع بين العقلاء في صحته ، أما إذا كانتا ظنيتين ، أو كانت إحداهما فقط ظنيَّة ، فالنتيجة تكون ظنَّيةً لا محالة "(1).
وقال القرافي: " إذا كان تعليل الأصل قطعياً، ووجود العِلَّة في الفرع قطعياً كان القياس قطعياً متفقاً عليه"(2).
ومن صور الأقيسة القطعية:
- إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق من طريق الأولى.
كإلحاق الضرب والشتم بالتأفيف في قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23].
وقد ذهب إلى ذلك: إمام الحرمين (3) ، والفخر الرازي (4).
وذهب جمهور الحنفية (5) ، والحنابلة إلى أنه من دلالة النصِّ (6)، واختاره الغزالي في " المستصفى "(7) ، والآمدي (8).
وقال الغزالي بعد أن اختار كونه من اللفظ دون القياس: "ومن سمَّاه قياساً اعترف بأنه مقطوعٌ به ولا مشاحةَ في الأسامي، فمن كان القياس عنده
(1) المحصول (5/ 19 - 20).
(2)
شرح تنقيح الفصول (387).
(3)
ينظر: البرهان: (2/ 786).
(4)
ينظر: المحصول (5/ 121).
(5)
فواتح الرحموت: (1/ 446).
(6)
ينظر: العدة (4/ 1333) ، شرح الكوكب المنير (3/ 483).
(7)
ينظر: (3/ 594 - 595).
(8)
ينظر: الإحكام (3/ 87).
عبارةً عن نوعٍ من الإلحاق يشمل هذه الصورة فإنما مخالفته في عبارة" (1).
- القطع بنفي الفارق المؤثِّر بين الأصل والفرع.
كقياس العبد على الأَمَة في تنصيف حدِّ الزنا، كما في قوله سبحانه:{فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25].
وضابط هذا النوع أنه لا يُحتَاج إلى التعرُّض للعِلَّة الجامعة ، بل يُتَعَرَّض للفارق، ويُعْلَم أنه لا فارقَ إلا كذا، ولا مدخلَ له في التأثير قطعاً (2).
قال الغزالي: " فإن تطرَّق الاحتمال إلى قولنا " لا فارق إلا كذا" بأن احتمل أن يكون ثَمَّ فارقٌ آخر، أو تطرَّق الاحتمال إلى قولنا " لا مدخلَ له في التأثير " بأن احتمل أن يكون له مدخل، لم يكن هذا الإلحاق مقطوعاً به بل ربَّما كان مظنوناً"(3).
- القياس الذي قُطِع فيه بأمرين: أحدهما أنَّ وصفاً معيَّنًا في الحُكْم هو عِلَّته قطعاً، وثانيهما: أنَّ ذلك الوصف موجودٌ في الفرع قطعاً (4).
وأما القياس الظني فهو أن تكون إحدى المقدمتين أو كلتاهما مظنونة، كقياس السفرجل على البُرِّ في الرِّبا، فإن الحُكْم بأن العِلَّة هي الطعم ليس مقطوعاً به، لجواز أن تكون هي الكيل أو القوت (5).
(1) المستصفى: (3/ 595).
(2)
ينظر: (90).
(3)
المستصفى: (3/ 598 - 599).
(4)
ينظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 320) ، نبراس العقول (180).
(5)
ينظر: نهاية السول (4/ 27).