الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول: تعريف المناسبة لغةً واصطلاحاً
.
المناسبة في اللغة (1): المُشَاكَلَةُ.
يقال: بين الشيئين مُناسَبَةٌ وتناسبٌ، أي: مُشَاكلَةٌ وتَشَاكلَّ.
وكذا قولهم: لا نِسبةَ بينهما، وبينهما نِسْبَةٌ قريبةٌ.
وتأتي المناسبة بمعنى: الملاءمة.
يقال: هذه اللؤلؤة تناسب هذه اللؤلؤة، أي: تلائم جمعها في سلكٍ واحد.
أما المناسبة في الاصطلاح فهي متوقفةٌ على معرفة المناسب؛ لأنها مشتقةٌ منه، وحينئذٍ لابدَّ من تعريف المناسب حتى يتبيَّن المراد بالمناسبة (2).
والمناسب اصطلاحاً - كما عرَّفه الآمدي - هو: " وصفٌ ظاهرٌ منضبطٌ يلزم من ترتيب الحُكْم على وَفْقِهِ حصولُ ما يصلح أن يكون مقصوداً من شرع ذلك الحُكْم "(3).
فقوله: (وصف) جنسٌ في التعريف يشمل سائر الأوصاف، سواءً كان ظاهراً أو خفياً، وسواءً كان منضبطاً أو مضطرباً، وسواءً ترتَّب على شرع الحُكْم عند حصوله جلبُ مصلحةٍ أو دفعُ مضرَّةٍ أو لم يكن كذلك.
وقوله: (ظاهر) قيدٌ في التعريف احتُرِزَ به عن الوصف الخفي، مثل وصف العَمْدِية، فإنه لا يُعْتَبر مناسباً لوجوب القصاص؛ لأنه وصفٌ خفي،
(1) ينظر: الصحاح (1/ 224)، لسان العرب (1/ 756)، تاج العروس (4/ 265) مادة:" ن س ب ".
(2)
ينظر: نهاية السول (4/ 76).
(3)
الإحكام: (3/ 339).
وينظر في تعريف المناسب عند الأصوليين: المحصول (5/ 157 - 158)، نهاية الوصول (8/ 3287 - 3291)، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 382 - 385)، شرح تنقيح الفصول (391)، نهاية السول (4/ 76 - 80)، شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 239)، البحر المحيط للزركشي (5/ 206 - 207)، شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 274 - 275)، شرح الكوكب المنير (4/ 153 - 155)، فواتح الرحموت (2/ 352)، إرشاد الفحول (2/ 896 - 898).
فالقصد وعدمه أمرٌ باطنٌ لا يُدْرَكُ شيءٌ منه، فنيط القصاص بما يلازم العمدية من أفعالٍ مخصوصةٍ تقضي في العرف عليها بكونها عمداً كاستعمال الجارح في القتل (1).
وقوله: (منضبط) أي: لا يختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والأمكنة والأحوال، وهو قيدٌ في التعريف احتُرِزَ به عن الوصف المضطرب كالمشقة، فلا تعتبر وصفاً مناسباً لقصر الصلاة في السفر؛ لأنها ذات مراتبٍ تختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والأمكنة والأحوال، فنيط الترخيص بوصفٍ منضبطٍ وهو السفر الذي يُعْتَبر مَظِنَّة المشقة (2).
وقوله: (يلزم من ترتيب الحُكْم على وفقه
…
إلى آخره) قيدٌ في التعريف احتُرِزَ به عن الوصف الطردي كالطول والقِصَر والسواد والبياض؛ لأنها ليست أوصافاً مناسبةً يحصل من ترتيب الحُكْم عليها ما يصلح أن يكون مقصوداً من شرع ذلك الحُكْم (3).
واحتُرِزَ به - أيضاً - عن الوصف الشبهي (4)؛
لأنه لا يلزم من ترتيب
(1) ينظر: شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 239)، رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب (4/ 331)، الردود والنقود للبابرتي (2/ 538)، حاشية التفتازاني على شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 239)، سلم الوصول للمطيعي (4/ 77).
(2)
ينظر: شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 239)، رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب (4/ 331)، الردود والنقود للبابرتي (2/ 538)، شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 276)، حاشية العطار على شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 319 - 320)، سلم الوصول للمطيعي (4/ 77).
(3)
ينظر: (118 - 119).
(4)
الوصف الشبهي هو: الوصف الذي لم تظهر مناسبته بعد البحث التام، ولكن عُهِدَ من الشارع الالتفات إليه في بعض الأحكام.
ومثاله: إيجاب غسل النجاسة بالماء دون غيره عند الشافعي؛ لأن الطهارة لا تجوز بغير الماء كما في طهارة الحدث، فهنا لا مناسبة بين وصف الطهارة وبين وجوب استعمال الماء بذاته في ذلك، ولكن عُهِدَ من الشارع اعتبار الطهارة بالماء في الوضوء ومسِّ المصحف والطواف والصلاة، فهذا يوهم اشتمال الطهارة على المناسبة بينها وبين الحكم بوجوب غسل النجاسة بالماء دون غيره.
ينظر: المستصفى (2/ 311)، الإحكام للآمدي (3/ 371 - 372)، شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 244)، البحر المحيط للزركشي (5/ 231)، شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 286 - 287)، تيسير التحرير (4/ 53).
الحُكْم عليه ما يصلح أن يكون مقصوداً من شرع ذلك الحُكْم، وإذا كان كذلك فهو غير مناسبٍ للحُكْم بحسب ما يظهر لنا، وإلا فالواقع لابدَّ في ترتيب الحكم على الوصف الشبهي من حصول ما يصلح أن يكون مقصوداً للشارع من شرع الحُكْم، وإن لم يظهر لنا كما ظهر الوصف المناسب (1).
وقوله: (ما يصلح أن يكون مقصوداً من شرع الحُكْم) المراد بالمقصود من شرع الحُكْم: تحصيل المصلحة، أو دفع المضرَّة، أو مجموع الأمرين (2).
وعرَّفه ابن الحاجب بتعريفٍ قريبٍ من تعريف الآمدي، حيث قال:
…
" المناسب: وصفٌ ظاهرٌ منضبطٌ يحصل عقلاً من ترتيب الحُكْم عليه ما يصلح أن يكون مقصوداً من حصول مصلحةٍ أو دفع مفسدة "(3).
والتعريفان - كما هو ظاهرٌ - متقاربان في المعنى، إلا أن الآمدي ذكر في تعريفه عبارة:" ما يصلح أن يكون مقصوداً من شرع الحُكْم "، أما ابن الحاجب فقال:" ما يصلح أن يكون مقصوداً من حصول مصلحةٍ أو دفع مفسدة "، ولم يُثْبِت عبارةَ الآمدي:" من شرع الحُكْم ".
وقد فسَّر العضدُ قولَ ابن الحاجب: " ما يصلح أن يكون مقصوداً " بما يكون مقصوداً عند العقلاء من حصول مصلحةٍ أو دفع مفسدة (4).
وذكر السعد التفتازاني (5)
أن تفسير العضد لهذه العبارة بما يكون مقصوداً للعقلاء من حصول مصلحةٍ أو دفع مفسدةٍ مبنيٌّ على أن تعريف الآمدي مشتملٌ على الدَّوْر؛ لأن المقصود من شرع الحُكْم إنما يُعْرَف بكونه مناسباً، فلو عُرِف كونه مناسباً بذلك كان دَوْرَاً (6).
وقد أجيب عن هذا الإيراد بأن: تصور مفهوم المقصود من شرع الحُكْم
(1) ينظر: حاشية التفتازاني على شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 239)، سلم الوصول للمطيعي (4/ 77)، نبراس العقول (1/ 269).
(2)
ينظر: الإحكام للآمدي (3/ 339 - 340).
(3)
مختصر ابن الحاجب: (2/ 1085).
(4)
ينظر: شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 239).
(5)
هو: سعد الدين مسعود بن عمر بن عبدالله التفتازاني، كان عالماً بالعربية والبيان والمنطق والأصول، من مؤلفاته: التلويح إلى كشف غوامض التنقيح (ط) في الأصول وحاشية على شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (ط) في الأصول، وتهذيب المنطق (ط)، وغيرها، توفي بسرخس سنة (793 هـ).
ينظر في ترجمته: الدرر لكامنة لابن حجر (4/ 350)، البدر الطالع للشوكاني (2/ 303)، الأعلام للزركلي (7/ 219).
(6)
ينظر: حاشية التفتازاني على شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 239).
لا يتوقف على تصور المناسب، والمتوقف إنما هو معرفة كون هذا الشيء المُعَيَّن مقصوداً من شرع حُكْمٍ مُعَيَّنٍ على المناسب له بخصوصه (1).
الاعتراضات الواردة على التعريف والجواب عنها:
1 -
اعترض الإسنوي على التعريف: بأن المناسب قد يكون ظاهراً منضبطاً وقد لا يكون، بل يكون خفياً أو مضطرباً، والتعريف لا ينطبق إلا على الأول، فيكون غير جامع (2).
والجواب: أن هذا تعريفٌ للمناسب الذي يصلح أن يكون عِلَّةً بنفسه؛ لأن المناسب إذا كان ظاهراً منضبطاً كان العِلَّة بنفسه، وإن كان خفياً أو مضطرباً اعتُبِر للعِلِّية وصفٌ آخر ظاهرٌ منضبطٌ يلازم ذلك الوصف ملازمةً عقليةً أو عاديةً أو عرفية، ويُعبَّرُ عن هذا الوصف الملازم بـ " المَظِنَّة "(3).
وهذا الجواب مبنيٌّ على تسليم أن المناسب ينقسم إلى القسمين المذكورين، والظاهر أن المنقسم إليهما هو مُطْلَق الوصف، أما المناسب فلا يكون إلا ظاهراً منضبطاً، فعلى ذلك يكون الوصف المناسب في القسم الثاني هو الوصف الملازم المُعَبَّرُ عنه بالمَظِنَّة كالسفر دون المشقة، وإن كانت مناسبته باعتبار ما يُظَنُّ فيه من المشقة فلا يَرِدُ هذا الإشكال من أصله؛ لأن الكلام - هنا - في المناسب الذي يصح أن يكون عِلَّةً، لا في المناسب مطلقاً (4).
2 -
اعترض صفي الدين الهندي على التعريف بأنه: اعْتَبَرَ في ماهية المناسبةِ اقترانَ الحُكْم بالوصف، وهو خارجٌ عنها، بدليل أن يقال: المناسبة دليل العِلِّية، ولو كان الاقتران داخلاً في الماهية لما صح (5).
(1) ينظر: نبراس العقول (270).
(2)
ينظر: نهاية السول (4/ 78).
(3)
ينظر: الآيات البينات على شرح المحلي على جمع الجوامع (4/ 90)، حاشية البناني على شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 275 - 276)، حاشية العطار على شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 319)، سلم الوصول للمطيعي (4/ 78).
(4)
ينظر: تقريرات الشربيني على حاشية البناني (2/ 319)، نبراس العقول (1/ 271).
(5)
ينظر: نهاية الوصول (8/ 3290).
والجواب: أن الاقتران المُعْتَبَر دليلاً في الإيماء هو اقتران وصفٍ ملفوظٍ أو مقدَّرٍ مع الحُكْم، والترتيب المأخوذ في التعريف معناه أن الحُكْم شُرِعَ لأجله من غير لزوم أن يكون مذكوراً معه أو مقدَّراً في نظم الكلام، ولو عمَّمْنا في الوصف المقترن في الإيماء بأن جعلناه شاملاً للمُسْتَنْبَطِ لزم أن يكون الإيماء في كلِّ صور العِلَّة (1).
3 -
اعترض صفي الدين الهندي - أيضاً - على التعريف بأنه: غير جامع؛ لأنه لا يشمل الحكمةَ الظاهرةَ المنضبطةَ؛ فإنه يجوز التعليل بها عند صاحب هذا الحدِّ - أي: الآمدي - وهي مناسب، والوصفية غير متحقِّقةٍ فيها (2).
والجواب: أن الحكمة تُطْلَق بإطلاقين، تُطْلَق أوَّلاً على ما كانت واسطةً في ترتيب الحُكْم على الوصف كالمشقة، وتطلق ثانياً على المقصود للشارع من شرع الحُكْم كالتخفيف، والظاهر أن مرادهم بالحكمة التي يجوز التعليل بها هي الحكمة بالإطلاق الأول، وهي ما كانت ظاهرةً منضبطة، وحينئذٍ لا يُسَلَّم أنه لا يصدق عليها التعريف (3).
ومن خلال ما سبق يتقرر أن المناسب هو: " وصفٌ ظاهرٌ منضبطٌ يلزم من ترتيب الحُكْم على وَفْقِهِ حصولُ ما يصلح أن يكون مقصوداً من شرع ذلك الحُكْم".
ومثاله: الإسكار، فإنه وصفٌ ظاهرٌ لاخفاء فيه، منضبطٌ لا اضطراب فيه، يحصل من ترتيب الحُكْم على وَفْقِهِ جلبُ مصلحةٍ هي حفظ العقول، أو دفعُ مفسدةٍ هي زوال العقول (4).
وإذا كان المناسب بهذا المعنى فالمناسبة - باعتبارها دليلاً على العِلِّية -
(1) ينظر: نبراس العقول (1/ 272).
(2)
ينظر: نهاية الوصول (8/ 3291).
(3)
ينظر: نبراس العقول (1/ 272).
(4)
ينظر: المستصفى (3/ 620)، شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 239)، الردود والنقود للبابرتي (2/ 537)، البحر المحيط للزركشي (5/ 209)، شرح الكوكب المنير (4/ 155).