الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول: التصوُّر الصحيح التام للواقعة ومعرفة حقيقتها
.
التصوُّر هو: حصول صورةٍ لشيءٍ في العقل، وإدراك ماهيته من غير أن يُحْكْم عليها بنفيٍّ أو إثبات (1).
والمراد بهذا الضابط: أن يحيط المجتهد بأطراف الواقعة، ومكوناتها، وأوصافها، وأسبابها، وآثارها، قبل إيقاع الأحكام الشرعيَّة عليها.
وهذا الضابط يشتمل على جانبين:
الأول: التصوُّر الصحيح لحقيقة الواقعة.
والثاني: التصوُّر التام للجوانب الأخرى المتعلِّقة بالواقعة.
وقد جاء في كتاب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري (2) رضي الله عنهم ما يؤكد أهمية الفهم الدقيق للواقعة قبل الحُكْم عليها، حيث قال له:"ثم الفهم فيما أُدِلَى إليك مما ورد عليك مما ليس فيه قرآنٌ ولا سُنَّة"(3).
قال ابن القيم رحمه الله: "ولا يتمكَّن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحُكْم بالحقِّ إلا بنوعين من الفهم:
أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به عِلْمَاً.
(1) ينظر: التعريفات للجرجاني (83)، تحرير القواعد المنطقية للرازي (7)، شرح الأخضري على السلم في المنطق (24).
(2)
هو: عبدالله بن قيس بن سليم بن حضار، أبو موسى الأشعري، صحابي جليل، من الشجعان الولاة الفاتحين، ولاة عمر بن الخطاب البصرة سنة (17 هـ)، وتوفي بالكوفة سنة (44 هـ).
ينظر في ترجمته: طبقات ابن سعد (4/ 105)، الاستيعاب (4/ 1762)، الأعلام للزركلي (4/ 114).
(3)
أخرجه الدارقطني في سننه، رقم (4381)، وأخرجه البيهقي في سننه، رقم (20324)، وقال ابن القيم في إعلام الموقعين (2/ 163):" هذا كتابٌ جليل تلقاه العلماء بالقبول "، ثم أفاض في شرحه وبيان معانيه.
والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حُكْم الله الذي حَكَمَ به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبِّق أحدهما على الآخر " (1).
وذلك أن الحُكْم على الشيء فرعٌ عن تصوره، فالاجتهاد في إثبات مُتَعَلَّق حُكْمٍ شرعيٍّ في بعض جزيئاته، وإدراج ذلك الجزئي تحت حُكْم الكلي، مبنيٌّ على تصوُّر محلِّ ذلك الحُكْم الشرعي، ومعرفةِ حقيقته.
قال ابن السعدي (2): " جميع المسائل التي تحدث في كلِّ وقت، وسواءٌ حدثت أجناسها أو أفرادها يجب أن تُتَصَوَّر قبل كلِّ شيء، فإذا عُرِفت حقيقتها، وشُخِّصَت صفاتها، وتصوَّرها الإنسان تصوُّراً تامّاً بذاتها ومقدماتها ونتائجها، طُبِّقَت على نصوص الشرع وأصوله الكلية "(3).
وكلُّ من يحْكُم على شيءٍ فإنما يحْكُم عليه بناءً على الصورة الحاصلة في ذهنه، فلابدَّ من مطابقة صورة الشيء الحاصلة في الذهن مع صورته في الخارج (4).
والتقصير في تصور الواقعة أو الخطأ في ذلك يؤدي - غالباً - إلى الخطأ في تنزيل الحُكْم الشرعي على تلك الواقعة.
ولهذا فإن أكثر أخطاء المجتهدين ترجع إلى التقصير أو الخطأ في تصوُّر محلِّ الحُكْم الشرعي.
قال الحجوي (5): " وأكثر أغلاط الفتاوى من التصورّ "(6).
ولا شك أن التصوُّر الصحيح التام للواقعة يجنِّب المجتهد الخلط بين المسائل المفضي إلى الخطأ في إجراء الأحكام على تلك الواقعات، فعلى المجتهد أن يبين حقائق الواقعات لاسيما التي قد تتشابه صورةً وتختلف معنى وحكماً، أو التي يكتنفها الالتباس في معرفة حقيقتها.
(1) إعلام الموقعين: (2/ 165).
(2)
هو: عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله السعدي التميمي النجدي، عالمٌ مفسِّر، من فقهاء الحنابلة، مولده ووفاته في عنيزة، وهو أول من أنشأ مكتبة فيها، له نحو 30 كتاباً، من مؤلفاته: تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن (ط)، والقواعد والأصول الجامعة النافعة (ط)، ورسالة في أصول الفقه (ط)، وغيرها، توفي سنة (1376 هـ).
ينظر في ترجمته: علماء نجد خلال ثماينة قرون (3/ 218)، مشاهير علماء نجد (256)، الأعلام للزركلي (3/ 340).
(3)
مجموع الفوائد واقتناص الأوابد: (90).
(4)
ينظر: أبجد العلوم (209).
(5)
هو: محمد بن الحسن بن العربي بن محمد الحجوي الثعالبي الفاسي، من علماء المالكية السلفية بالمغرب، تولى سفارة المغرب بالجزائر، ثم ولي وزارة العدل فوزارة المعارف، من مؤلفاته: الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي (ط)، والتعاضد المتين بين العقل والعلم والدين (ط)، وغيرهما، توفي بالرباط، ودفن بفاس سنة (1376 هـ).
ينظر في ترجمته: الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي (4/ 199) بقلم المؤلف نفسه، الأعلام للزركلي (6/ 96).
(6)
الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي: (4/ 314).
والتمييز بين مشتبه الواقعات، والتفريق بينها في الأحكام، إنما يستند إلى صحة التصوُّر وتمامه لكلِّ واقعة، ومعرفة الفروق المؤثرة بينها وبين غيرها.
وقد نبَّه ابن القيم رحمه الله على صورٍ عديدةٍ من ذلك حيث قال:
" فالمفتي تَرِدُ إليه المسائل في قوالب متنوعةٍ جداً، فإن لم يتفطن لحقيقة السؤال وإلا هلك وأهلك، فتارةً تُورد عليه المسألتان صورتهما واحدةٌ وحكمهما مختلف، فصورة الصحيح والجائز صورة الباطل والمُحَرَّم، ويختلفان بالحقيقة، فيذهل بالصورة عن الحقيقة، فيجمع بين ما فرَّق اللهُ ورسولُه بينه، وتارةً تُورد عليه المسألتان صورتهما مختلفةٌ وحقيقتهما واحدةٌ وحكمهما واحد، فيذهل باختلاف الصورة عن تساويهما في الحقيقة فيفرِّق بين ما جمع الله بينه، وتارةً تُورد عليه المسألة مجمَلةً تحتها عدة أنواعٍ فيذهب وهْمُه إلى واحدٍ منها، ويذهل عن المسؤول عنه منها، فيجيب بغير الصواب "(1).
ومن لوازم التصوُّر الصحيح للوقائع أن ينظر المجتهد في حقائقها، وأن لا يغترَّ بمسمياتها الخادعة وقوالبها المزخرفة؛ إذ الأحكام الشرعيَّة إنما تتعلَّق بالحقائق والمعاني لا بالألفاظ والمباني.
قال ابن القيم: " وتارةً تُورد عليه المسألة الباطلة في دين الله في قالَبٍ مزخرَفٍ ولفظٍ حَسَنٍ فيجيب بغير الصواب، فيبادر إلى تسويغها وهي من أبطل الباطل "(2).
ولاسيما في مثل هذا العصر الذي غُيَّرت فيه كثيرٌ من المُسْمَّيات وسُمِّيت بغير اسمها.
فالرِّبا يُسمّى فائدةً أو تمويلاً أو تسهيلاتٍ بنكيةٍ ونحو ذلك، والخمر يُسمَّى مشروباً روحيَّاً، وألعاب القمار والميسر تُسمَّى مسابقات، والرشوة تسمى هديةً أو إكراميةً، وغير ذلك كثير.
(1) إعلام الموقعين: (6/ 97).
(2)
المرجع السابق.
ومن لوازم التصور الصحيح للوقائع أن يستفصل المفتي من المستفتي في مسألته إذا كانت المسألة فيها تفصيلٌ وتختلف فيها الأحكام من صورةٍ إلى أخرى (1).
وقد " استفصل النبي صلى الله عليه وسلم ماعزاً (2) لما أقرَّ بالزنا، هل وُجِدَ منه مقدماته أو حقيقته؟ فلما أجابه عن الحقيقة استفصله: هل به جنونٌ فيكون إقراره غير مُعْتَبَرٍ أم هو عاقل؟ فلما عَلِمَ عقله استفصله: بأن أمر باستنكاهه (3) ليُعْلَم هل هو سكرانٌ أو صاحٍ؟ فلما عَلِمَ أنه صاحٍ استفصله: هل أُحْصِنَ أم لا؟ فلما عَلِمَ أنه قد أُحِصنَ أقام عليه الحدّ"(4).
و" كذلك إذا سئل عن رجلٍ حَلَف لا يفعل كذا وكذا ففعله، لم يجز للمفتي أن يفتي بحنثه حتى يستفصله: هل كان ثابت العقل وقت فعله أم لا؟ وإذا كان ثابت العقل فهل كان مختاراً في يمينه أم لا؟ وإذا كان مختاراً فهل استثنى عقيب يمينه أم لا؟ وإذا لم يستثن فهل فعل المحلوف عليه عالِماً ذاكراً مختاراً أم كان ناسياً جاهلاً أو مُكْرَهاً؟ وإذا كان عالِماً مختاراً فهل كان المحلوف عليه داخلاً في قصده ونيته أو قَصَدَ عدمَ دخوله فخصَّصه بنيته أو لم يقصد دخوله ولا نوى تخصيصه، فإن الحنث يختلف باختلاف ذلك كله "(5).
وإذا كانت الواقعة لها تعلُّقٌ بعلمٍ من العلوم غير الشرعيَّة لزم المجتهد الرجوع إلى أهل الاختصاص والخبرة في ذلك العلم؛ لتصوير الواقعة، ومعرفة حقيقتها، وأوصافها، وأثارها.
فالواقعة قد يكون لها تعلُّقٌ بعلم الطب أو الاقتصاد أو الفلك أو السياسة أو الإعلام أو غير ذلك من العلوم الأخرى، فحينئذٍ يرجع المجتهد إلى أهل
(1) ينظر: آداب الفتوى والمفتي والمستفتي للنووي (45)، إعلام الموقعين (6/ 91).
(2)
هو: ماعز بن مالك الأسلمي، صحب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي اعترف على نفسه بالزنا تائباً منيباً، وكان محصناً فرجم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ينظر في ترجمته: طبقات ابن سعد (4/ 324)، الاستيعاب (3/ 1345).
(3)
الاستنكاه: طلب النكهة، وهي شم رائحة الفمّ.
ينظر: معجم مقاييس اللغة (5/ 474)، تاج العروس (36/ 531)
(4)
إعلام الموقعين: (6/ 91).
(5)
المرجع السابق: (6/ 92).
الاختصاص والخبرة في ذلك العلم؛ لتوصيف الواقعة، وبيان حقيقتها، والملابسات المحيطة بها.
قال ابن السعدي: " فالطريق إلى الحُكْم العِلْمُ التامُّ بالواقع ليتمكن من الحُكْم عليه، وعند الاشتباه في الجزئيات يُرْجَع فيه إلى أهل الخبرة فيه"(1).
والرجوع إلى أهل الاختصاص والخبرة في تصوير الوقائع يحصل بالرجوع إليهم مباشرةً، وذلك بسؤالهم والإفادة منهم، أو الرجوع إلى دراساتهم الموثوقة حول تلك الواقعة، أو الرجوع إلى الموسوعات المتخصِّصة في العلم الذي له تعلُّقٌ بتلك الواقعة ومصطلحاتها، ولاسيما الموسوعات الصادرة عن الهيئات العلمية ومراكز الأبحاث المتخصِّصة.
وقد اعتبر مجمع الفقه الإسلامي في دورته السابعة عشر أن من شروط الإفتاء: " الرجوع إلى أهل الخبرة في التخصُّصات المختلفة لتصوُّر المسألة المسؤول عنها، كالمسائل الطبية والاقتصادية ونحوها "(2).
وإذا تقرر أن التصور التام للواقعة من مستلزمات تحقيق المناط، فإنه إذا لم يحصل للمجتهد تصورٌ تامُّ لواقعةٍ ما لزمه شرعاً أن يتوقف عن إصدار الحُكْم فيها، ولاسيما في الوقائع التي تحيط به ملابساتٌ كثيرةٌ ولم يسبق للمجتهد استكمال النظر فيها؛ لأن الحُكْم على الشيء فرعٌ عن تصوُّره، وإيقاعُ الأحكام على فروعٍ لم يحصل فيها تصوَّرٌ تامٌّ للمجتهد يُعْتَبر من القول على الله بلا علم.
(1) مجموع الفوائد واقتناص الأوابد: (110).
(2)
قرار رقم 153 (2/ 17) بشأن الإفتاء شروطه وآدابه.