الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: علاقة الاجتهاد في المناط بالعرف
.
يُعْتَبر دليل العُرف من أوثق الأدلة الشرعيَّة صِلَةً بالاجتهاد في المناط، وتظهر العلاقة الوثيقة بينهما في جوانب عديدة ، من أهمها ما يأتي:
أولاً: من ضوابط الاجتهاد في تحقيق مناطات الأحكام مراعاة اختلاف الأحوال والأزمنة والأمكنة كما تقدَّم (1).
ومن أهم الصور في ذلك: مراعاة المجتهد لاختلاف عادات الناس في أقوالهم وأفعالهم بحسب اختلاف أزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم.
ولذلك اُشترِط في المجتهد أن يكون عارفاً بعادات الناس في عصره وبلده؛ لأن الأحكام المترتِّبة على العُرف تختلف باختلاف الأعصار والأمصار.
قال ابن عابدين: "اعلم أن المسائل الفقهية إما أن تكون ثابتةً بصريح النصِّ وهي الفصل الأول، وإما أن تكون ثابتةً بضرب اجتهادٍ ورأي، وكثيرٌ منها ما يبيِّنه المجتهد على ما كان في عرف زمانه، بحيث لو كان في زمان العُرف الحادث لقال بخلاف ما قاله أولاً، ولذا قالوا في شروط الاجتهاد إنه لابدَّ فيه من معرفة عادات الناس، فكثيرٌ من الأحكام تختلف باختلاف الزمان"(2).
بل لابدَّ أن يميِّز المجتهد بين الأعراف العامة التي تنطبق أحكامها على عامّة الناس ، والأعراف الخاصّة التي تنطبق أحكامها على طائفةٍ من الناس، كأصحاب المِهَن والحِرَف المعيَّنة.
وكذلك على المجتهد أن يميِّز بين الأعراف المُعْتَبرة شرعاً ، والأعراف الباطلة التي تُصادِم النصوص الشرعية، فلايَعْتبِر الباطل ، ويُبطِل المُعْتَبَر.
(1) ينظر): 229 - 235).
(2)
نشر العَرْف (2/ 125) ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين
قال ابن عابدين: "المفتي الذي يفتي بالعُرف لا بدَّ له من معرفة الزمان وأحوال أهله ، ومعرفة أن هذا العُرف خاصٌّ أو عام، وأنه مخالفٌ للنصِّ أو لا "(1).
فلا يجوز للمفتي أن يفتي فيما يتعلَّق بالألفاظ كالطلاق والعِتاق والأيمان والأقارير بما اعتاده هو من فهم تلك الألفاظ دون أن يعرف عُرْفَ أهلها والمتكلمين بها ،بل يحملها على ما اعتادوه وعرفوه وإن كان الذي اعتادوه مخالفاً لحقائقها الأصلية اللغوية؛ لأن العُرْف يُقدَّم على الحقيقة المهجورة (2).
قال النووي في معرض كلامه عن أحكام الفتوى: " لا يجوز أن يفتي في الأيمان والإقرار ونحوهما مما يتعلَّق بالألفاظ إلا أن يكون من أهل بلد اللافظ أو متنزِّلاً منزلتهم في الخبرة بمرادهم من ألفاظهم وعُرفِهم فيها"(3).
ولو أن الرجل حفظ جميع كتب المذهب ، فإن ذلك لا يؤهله للفتوى ، إذ لابدَّ أن يتتلمذ للفتوى، ويتمرَّس عليها حتى يهتدي إلى الصواب فيها؛ لأن كثيراً من المسائل يُجاب عنه على عادات أهل الزمان فيما لايخالف الشريعة (4).
قال ابن عابدين: "ولابدَّ له من التخرُّج على أستاذٍ ماهر ، ولا يكفيه مجرَّد حفظ المسائل والدلائل ،فإن المجتهد لابدَّ له من معرفة عادات الناس"(5).
و"من أفتى الناس بمجرَّد المنقول في الكتب على اختلاف عُرفِهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضلَّ وأضل، وكانت جنايته على الدِّين أعظم من جناية من طبَّب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتابٍ من كتب الطبِّ على
(1) نشر العَرْف (2/ 129) ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين.
(2)
ينظر: إعلام الموقعين (6/ 151) ،كشاف القناع (6/ 304).
(3)
المجموع: (1/ 46).
(4)
نشر العَرْف: (2/ 129) ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين.
(5)
نشر العَرْف: (2/ 129) ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين.
أبدانهم، بل هذا الطبيب الجاهل وهذا المفتي الجاهل أضرُّ ما على أديان الناس وأبدانهم" (1).
وذلك لأنه إذا ورد في الشرع حُكْمٌ مُطْلَقٌ من غير تقييدٍ ولا تقديرٍ فإنه يعني أن الشارع أحال المجتهدَ فيه إلى العُرف الذي يختلف باختلاف الأحوال والأزمنة والأمكنة، وهو من صور العدل والرحمة في هذه الشريعة؛ لأن حمل الناس في كلِّ زمانٍ ومكانٍ على حُكْم له صورةٌ واحدةٌ مع اختلاف أحوالهم فيه من العَنَت والمشقة بالمكلَّفين ما يُخرِج تلك الأحكام عن سَمْتِ الرسالة التي بُعِث بها النبي صلى الله عليه وسلم {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء: 107].
وعلى هذا فإنه لابدَّ للمجتهد في تحقيق مناطات الأحكام المترتبة على العُرف أن يكون عالماً بعادات أهل عصره، والأعرافِ الغالبةِ في أقوالهم وأفعالهم وبيوعاتهم ومناكحاتهم وكافّة تعاقداتهم.
ثانياً: يُعْتَبر العُرف من أهم مسالك تحقيق المناط في الأحكام الشرعيَّة المطلقة التي لم يَرِد فيها تحديدٌ أو تقدير.
وهو: أن يدلَّ العُرف - سواءٌ كان عامّاً أو خاصّاً - على ثبوت مُتعَلَّق الحُكْم الشرعي في بعض جزئياته كما تقدَّم (2).
ومن صور تحقيق المناط بالعُرف: حمل الأحكام الشرعيَّة المطلقة التي أناط الشارع الحُكْم فيها بالعُرف صراحةً على عادات الناس الغالبة أثناء تنزيل تلك الأحكام على الوقائع المتعلِّقة بهم.
فكلُّ مارَدَّ الشرعُ الاجتهادَ في تقديره إلى العُرف بنصِّ الكتاب أو السُّنَّة فإنه يجب تحقيق المناط فيه بما غلب على الناس من أعرافهم وعاداتهم في ذلك الشيء، وهو ما يختلف بحسب الأزمنة والأمكنة والأحوال الجارية في الخلق.
ومن الأمثلة على ذلك: قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 233].
(1) إعلام الموقعين: (4/ 470).
(2)
ينظر: (266).
أي: وعلى والد الطفل نفقةُ الوالدات وكسوتهن بما جرت به عادة أمثالهن في بلدهن من غير إسرافٍ ولا إقتار، وبحسب قدرته في يساره وتوسطه وإقتاره (1).
فالآية في هذا الموضع نصَّت صراحةً على ردِّ تقدير النفقة والكسوة إلى العُرف الغالب بين الناس مع مراعاة حال الأب في الغنى والفقر.
قال ابن عبدالسلام: "وقد نصَّ الله على أن الكسوة بالمعروف في قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] وكذلك السكنى وماعُون الدار يرجع فيهما إلى العُرف من غير تقدير، والغالب في كلِّ ما رُدَّ في الشرع إلى المعروف أنه غير مقدَّر، وأنه يُرجَع فيه إلى ما عُرِفَ في الشرع، أو إلى ما يتعارفه الناس"(2).
وقال ابن قدامة: "الصحيح ما ذكرناه، من ردِّ النفقة المطلقة في الشرع إلى العُرف فيما بين الناس في نفقاتهم، في حقِّ الموسِر والمعسِر والمتوسِّط، كما رددناهم في الكسوة إلى ذلك"(3).
وهكذا"كلُّ ما تكرَّر من لفظ "المعروف" في القرآن نحو قوله سبحانه: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] فالمراد به ما يتعارفه الناس في ذلك الوقت من مثل ذلك الأمر"(4).
ومن صور تحقيق المناط بالعُرْف -أيضاً-: حَمْلُ أحكام الشرع المطلقة التي لم يَرِد فيها تحديدٌ على العُرف الجاري بين الناس عامّةً ،أو بين طائفةٍ منهم ، وذلك بحسب الأزمنة والأمكنة والأحوال المختلفة.
قال ابن تيمية: "الأسماء التي علَّق الله بها الأحكام في الكتاب والسُّنَّة: منها ما يُعرَف حدُّه ومسمَّاه بالشرع، فقد بيَّنه الله ورسوله: كاسم الصلاة والزكاة والصيام والحج، والإيمان والإسلام، والكفر والنفاق، ومنه ما يُعرَف
(1) ينظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (3/ 163) تفسير ابن كثير (1/ 634).
(2)
قواعد الأحكام: (1/ 101)
(3)
المغني: (11/ 351).
(4)
شرح الكوكب المنير: (4/ 449).
حدُّه باللغة: كالشمس والقمر، والسماء والأرض، والبَرّ والبحر، ومنه ما يُرجَع حدُّه إلى عادة الناس وعُرفهم فيتنوع بحسب عادتهم: كاسم البيع والنكاح والقبض والدرهم والدينار، ونحو ذلك من الأسماء التي لم يحدُّها الشارع بحدّ؛ ولا لها حدٌّ واحدٌ يشترِك فيه جميع أهل اللغة ، بل يختلف قدرُه وصفتُه باختلاف عادات الناس " (1).
ومن ذلك: البلوغ ; فإنه يُعْتَبر فيه عوائد الناس من الاحتلام أو الحيض، أو بلوغ سِنِّ من يحتلم أو من تحيض، وكذلك الحيض يُعْتَبر فيه إما عوائد النساء بإطلاق ، أو عوائد المرأة ،أو قراباتها، أو نحو ذلك فيُحْكَم لهم شرعاً بمقتضى العادة في ذلك (2).
وضابطه: كلُّ اسمٍ أو فعلٍ رتَّب الشارع عليه الحُكْم مطلقاً ولم يرد في الشرع ولا في اللغة تحديدٌ له ولاتقدير ، فإنه يُرْجَع فيه إلى العُرْف.
قال ابن تيمية: "كلُّ اسمٍ ليس له حدٌّ في اللغة ولا في الشرع فالمرجع فيه إلى العُرف "(3).
وقال ابن النَّجار: "وضابطه: كلُّ فعلٍ رُتِّبَ عليه الحكم، ولا ضابط له في الشرع ولا في اللغة"(4).
ومن ذلك: ماجاء عن جابر بن عبدالله الأنصاري رضي الله عنه أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: " مَنْ أحيا أرضاً ميتةً فهي له"(5).
فالإحياء ما تعارفه الناس إحياء؛ لأن الشرع وَرَدَ بتعليق المِلك على الإحياء، ولم يبيِّنه، ولا ذكر كيفيته، فيجب الرجوع فيه إلى ما كان إحياءً في
(1) مجموع الفتاوى: (19/ 235 - 236).
(2)
ينظر: الموافقات: (2/ 491).
(3)
مجموع الفتاوى: (24/ 41).
(4)
شرح الكوكب المنير: (4/ 452).
(5)
أخرجه البخاري معلقاً في "صحيحه" ، كتاب المزارعة ، باب من أحيا أرضاً مواتاً، وأسنده ابن حجر في "تغليق التعليق"(3/ 308 - 310)، وأخرجه الترمذي في "صحيحه" ، كتاب الأحكام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، باب ماذُكِر في إحياء أرض الموات، رقم (1378)، وقال: حديثٌ حسنٌ صحيح.
العُرف ، ولأن الشارع لو علَّق الحُكْم على مُسَمَّى باسمٍ لتعلَّق بمسمَّاه عند أهل اللسان، فكذلك يتعلَّق الحُكْم بالمسمَّى إحياءً عند أهل العُرف، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلِّق حكماً على ما ليس إلى معرفته طريق، فلما لم يبيِّنه تعيَّن العُرف طريقاً لمعرفته، إذ ليس له طريقٌ سواه (1).
ويحصل إحياء الأرض عادةً إما بحائطٍ منيع، أو بإجراء الماء، أو حفر بئرٍ فيها، أو غرس شجر، ويُرجع في ذلك إلى العُرف، فما عدَّه الناس إحياءً فإنه تُمْلَك به الأرض الموات (2).
ومن صور تحقيق المناط بالعُرف -أيضاً-: حَمْلُ تصرُّفات المكلَّفين التعاقدية على ماجرت به العادة في تلك التصرُّفات مالم تكن مصادِمةً للشرع.
فالعُرف العام أو الغالب في الناس عامّةً، أو عند طائفةٍ منهم، يجري مجرى النطق إذا لم يُصَرَّح بخلافه.
قال ابن عبدالسلام: " كلُّ ما يثبت في العُرف إذا صرَّح المتعاقدان بخلافه بما يوافق مقصود العقد صح ، فلو شرط المستأجر على الأجير أن يستوعب النهار بالعمل من غير أكلٍ وشربٍ ويقطع المنفعة لزمه ذلك"(3).
وقال ابن القيم: "وقد جرى العُرف مجرى النطق في أكثر من مائةٍ موضع"(4).
ومن ذلك: أنه لوباع شيئاً بدراهم وأطلق ، فإنه يُحمَل على النقد الغالب في ذلك البلد؛ لأنه هو المُتعارَف عليه ، فينصرف المُطْلَق إليه ، إلا إذا صرَّح المتعاقدان بخلافه (5).
(1) ينظر: المغني لابن قدامة (5/ 437).
(2)
ينظر: المغني لابن قدامة (5/ 437 - 438)، الذخيرة للقرافي (6/ 148)، مغني المحتاج (3/ 501)، حاشية
…
ابن عابدين (6/ 433).
(3)
قواعد الأحكام: (2/ 186).
(4)
إعلام الموقعين: (4/ 316).
(5)
ينظر: الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام للقرافي (219) ،الأشباه والنظائر للسيوطي (92) ، الأشباه
والنظائر لابن نجيم (103) ، نشر العَرْف (2/ 134) ضمن رسائل ابن عابدين.
ومن ذلك-أيضاً-: إذا كانت العادة في النكاح قبض الصَّداق قبل الدخول، أو في البيع الفلاني أن يكون بالنقد لا بالنسيئة، أو بالعكس، أو إلى أجل كذا دون غيره، فالحُكْم أيضا جارٍ على ذلك، مالم يصرِّح المتعاقدان بخلافه (1).
ومن صور تحقيق المناط بالعُرف- أيضاً-: حَمْلُ ألفاظ المكلَّفين وعباراتهم على المعاني المتعارَف عليها بينهم.
ومن ذلك: أن عبارات الواقفين لاتُبنى على الدقائق اللغوية والأصولية ،إنما تُبنى على مايتبادر ويُفْهَم منها بحسب عادات الواقفين ومقاصدهم (2).
وكذا ألفاظ الطلاق ، والأيمان ، والوصايا ، والوكالة ، والإقرار، ونحو ذلك مما يُعْتَبر فيه العادة الغالبة عند المتلفظين بها كنايةً وتصريحاً (3).
وبهذا يتبيَّن مما تقدَّم من صور تحقيق المناط بالعُرف أنه من أهم مسالك تحقيق مناطات الأحكام المطلقة التي لم يرد بشأنها في الشرع تحديدٌ أو تقدير.
ثالثاً: قد ينيط الشارعُ الحُكْم بالعُرف ، والعُرف تختلف صوره بحسب اختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال، فإذا تغيَّر العُرف لزم تغيُّر الحكم، فالأحكام تدور مع مناطاتها وجوداً وعدماً.
قال القرافي: " الأحكام المترتِّبة على العوائد تدور معها كيفما دارت، فتبطل معها إذا بطلت، كالنقود في المعاملات، والعيوب في الأعراض في البياعات ونحو ذلك، فلو تغيَّرت العادة في النقد، والسّكَّة إلى سكَّةٍ أخرى لحُمِل الثمن في البيع عند الإطلاق على السّكَّة التي تجدَّدت العادة بها دون ما قبلها، وكذلك إذا كان الشيء عيباً في الثياب في عادةٍ رددنا به المبيع، فإذا
(1) ينظر: الموافقات (2/ 491)
(2)
ينظر: الأشباه والنظائر لابن نجيم (80) ،نشر العَرْف (2/ 146) ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين.
(3)
ينظر: المجموع للنووي (1/ 46) ،إعلام الموقعين (6/ 151) ، الموافقات (2/ 490) ، كشاف القناع (6/ 304)، المعيار المعرب للونشريسي (6/ 63).
تغيَّرت العادة وصار ذلك محبوباً موجِباً لزيادة الثمن لم تُرَدَّ به، وبهذا القانون تُعتَبَر جميع الأحكام المترتبة على العوائد، وهو تحقيقٌ مجمعٌ عليه بين العلماء، لا خلاف فيه " (1).
و"جميع أبواب الفقه المحمولة على العوائد إذا تغيَّرت العادة تغيَّرت الأحكام في تلك الأبواب"(2).
ومن الأحكام التي وردت في الشرع مطلقةً من غير تحديدٍ ولا تقدير، وأحال الشرعُ الاجتهادَ فيها إلى العُرف: اشتراط العدالة في الشهود ، كمافي قوله تعالى:{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2].
فما يقدح في العدالة يختلف في بعض صوره باختلاف عادات الناس ، فما يكون في بلدٍ أو زمنٍ قادحاً قد لايُعْتَبر كذلك في بلدٍ أو زمنٍ آخر.
قال الشاطبي: " مثل كشف الرأس، فإنه يختلف بحسب البقاع في الواقع، فهو لذوي المروءات قبيحٌ في البلاد المشرقية، وغير قبيحٍ في البلاد المغربية، فالحُكْم الشرعي يختلف باختلاف ذلك، فيكون عند أهل المشرق قادحاً في العدالة، وعند أهل المغرب غير قادح"(3).
وأيضاً" فإنَّا نفتي في زمانٍ معيَّنٍ بأن المشتري تلزمه سكَّةٌ معيَّنةٌ من النقود عند الإطلاق؛ لأن تلك السَّكَّة هي التي جرت العادة بالمعاملة بها في ذلك الزمان، فإذا وجدنا بلداً آخر وزماناً آخر يقع التعامل فيه بغير تلك السَّكَّة تغيَّرت الفتيا إلى السَّكَّة الثانية، وحَرُمَت الفتيا بالأولى لأجل تغيُّر العادة، وكذلك القول في نفقات الزوجات والذرية والأقارب وكسوتهم تختلف بحسب العوائد، وتنتقل الفتوى فيها وتَحرُم الفتوى بغير العادة الحاضرة، وكذلك تقدير العواري بالعوائد ،وقبض الصدقات عند الدخول أو قبله أو بعده .. "(4).
وقد ذكر ابن عابدين أمثلةً كثيرةً من المسائل التي اختلف حكمها
(1) أنوار البروق في أنواء الفروق: (1/ 276).
(2)
الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام (232).
(3)
الموافقات: (2/ 489).
(4)
أنوار البروق في أنواء الفروق: (1/ 45).
لاختلاف عادات الناس وأحوالهم (1).
ولهذا فإن أصحاب المذاهب المتأخرين خالفوا أئمة مذاهبهم في أحكامٍ كثيرة ، وكانت ترجع مخالفتهم في ذلك إلى تغيُّر الأعراف والعادات في أزمنتهم، ولو كانوا في أزمنة أئمتهم لقالوا بمثل ماقالوا به (2).
ويُعْتَبر أكثر خلاف المجتهدين في هذا النوع من الأحكام المترتِّبة على العُرف اختلاف عصرٍ وأوانٍ ، لا اختلاف حُجَّةٍ وبرهان (3).
وقد تقرَّر عند الفقهاء أنه ليس في اعتبار العادة المتغيِّرة الحادثة مخالَفَةٌ للنصّ ، بل هو اتباعٌ للنصّ؛ لأن الشرع أناط الحُكْم المُطْلَق بالعُرف المتغيِّر (4).
وإنَّ عدم اعتبار تغيُّر تلك الأحكام بتغيُّر عادات الناس حسب الأزمنة والأمكنة والأحوال المختلفة يُعْتَبر خلاف الإجماع ، وهو من صور الجهل بالشريعة وتصرُّفاتها في الأحكام.
قال القرافي: " إن إجراء الأحكام التي مدركها العوائد مع تغيُّر تلك العوائد خلاف الإجماع، وجهالةٌ في الدِّين، بل كلُّ ما هو في الشريعة يتبع العوائد يتغيَّر الحُكْم فيه عند تغيُّر العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجدِّدة"(5).
ومما يجدر التنبيه إليه أن اختلاف الأحكام عند اختلاف العوائد لايُعْتَبر اختلافاً في أصل خطاب الشرع ، بل هو رجوع كلِّ عادةٍ إلى الأصل الشرعي الذي يُحُكْم به عليها؛ لأن الأحكام ثابتةٌ تتبع أسبابها حيث كانت.
قال الشاطبي: " واعلم أن ما جرى ذكره هنا من اختلاف الأحكام عند اختلاف العوائد فليس في الحقيقة باختلافٍ في أصل الخطاب ; لأن الشرع موضوعٌ على أنه دائمٌ أبدي، لو فُرِض بقاء الدنيا من غير نهايةٍ والتكليف
(1) ينظر: نشر العَرْف (2/ 125 - 128) ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين.
(2)
ينظر: المرجع السابق (2/ 128).
(3)
ينظر: المرجع السابق (2/ 126).
(4)
ينظر: المرجع السابق (2/ 118).
(5)
الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام: (219).
كذلك، لم يُحتَج في الشرع إلى مزيد، وإنما معنى الاختلاف أن العوائد إذا اختلفت رجعت كلُّ عادةٍ إلى أصلٍ شرعيٍّ يُحْكَم به عليها ; كما في البلوغ مثلا، فإن الخطاب التكليفي مرتفعٌ عن الصبي ما كان قبل البلوغ، فإذا بلغ وقع عليه التكليف ، فسقوط التكليف قبل البلوغ ثم ثبوته بعده ليس باختلافٍ في الخطاب، وإنما وقع الاختلاف في العوائد، أو في الشواهد، وكذلك الحُكْم بعد الدخول بأن القول قول الزوج في دفع الصداق بناءً على العادة، وأن القول قول الزوجة بعد الدخول أيضاً، بناءً على نسخ تلك العادة ليس باختلافٍ في حُكْم، بل الحُكْم أنَّ الذي ترجح جانبه بمعهودٍ أو أصل فالقول قوله بإطلاق؛ لأنه مُدَّعى عليه، وهكذا سائر الأمثلة ; فالأحكام ثابتةٌ تتبع أسبابها حيث كانت بإطلاق" (1).
(1) الموافقات: (2/ 491 - 492).