الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كذلك؛ لأنه من الأمور الحادثة، وما لا يفتقر أرجح من المفتقِر، فيكون البقاء أرجح من العدم وهو المدَّعى، والثاني: أن عدم الباقي يقل بالنسبة إلى عدم الحادث؛ لأن عدم الحادث يصدق على ما لا نهاية له، وأما عدم الباقي مشروطٌ فمتناه؛ لأن عدم الباقي بوجود الباقي، والباقي متناه، وإذا كان عدم الباقي أقلَّ من عدم الحادث كان وجوده أكثر من وجوده فيكون راجحاً (1).
رابعاً: لو لم يكن الظنُّ حاصلاً ببقاء ما تحقَّق، ولم يُظَنَّ له معارض، لكان الشَّكُّ في الزوجية ابتداء كالشك في بقاء الزوجية في التحريم والجواز، والتالي باطل، أما الملازمة ; فلأنه حينئذٍ لا فرق فيهما، وأما بطلان التالي فلأنّ التفرقة بينهما في التحريم والجواز ثابتةٌ بالإجماع، فإنَّ مَدَّ اليد إليها حرامٌ في الأول، بخلاف الثاني فإنه جائز.
وإنما حكموا بالتحريم في الأول ; لأن الحُرْمَة ثابتةٌ قبل الشَّك، والأصل بقاء الشيء على ما كان عليه، وبالجواز في الثاني ; لأن الجواز ثابتٌ قبل الشك، والأصل بقاء الشيء على ما كان عليه (2).
المطلب الثالث: علاقة الاجتهاد في المناط بالاستصحاب
.
تظهر علاقة الاجتهاد في المناط بالاستصحاب في جوانب عديدة، من أهمها ما يأتي:
أولاً: إن المجتهد لا يأخذ بدليل الاستصحاب إلا بعد البحث التامِّ في أدلة الكتاب والسُّنَّة والإجماع والقياس (3).
قال ابن تيمية: " إذا كان المُدْرَكُ الاستصحابَ ونفيَ الدليل الشرعي فقد
(1) ينظر: الإبهاج (3/ 172 - 173) ، نهاية السول (4/ 370 - 372).
(2)
ينظر: الإبهاج (3/ 172) ، بيان المختصر (3/ 264) ، نهاية السول (4/ 369 - 370).
(3)
ينظر: الفقيه والمتفقه (1/ 526) ، البحر المحيط للزركشي (6/ 17).
أجمع المسلمون، وعُلِم بالاضطرار من دين الإسلام، أنه لا يجوز لأحدٍ أن يعتقد ويفتي بموجِب هذا الاستصحاب والنفي إلا بعد البحث عن الأدلة الخاصَّة إذا كان من أهل ذلك، فإنَّ جميع ما أوجبه الله ورسوله، وحرَّمه الله ورسوله مُغيِّراً لهذا الاستصحاب، فلا يُوثَق به إلا بعد النظر في أدلة الشرع لمن هو من أهل ذلك" (1).
وقال ابن القيم: " لايجوز الاستدلال بالاستصحاب لمن لا يعرف الأدلة الناقلة"(2).
وقال الزركشي: " وهو- أي: الاستصحاب- حُجَّةٌ يفزع إليها المجتهد إذا لم يجد في الحادثة حُجَّةً خاصَّة"(3).
ولهذا يُعْتَبر الاستصحاب " آخر مدار الفتوى"(4)، و" آخر متمسك
…
الناظر" (5) ، و"آخر قَدَمٍ يخطو بها المجتهد إلى تحصيل حُكْم الواقعة" (6).
وذلك لأن " المفتي إذا سُئِل عن حادثةٍ يطلب حكمها في الكتاب، ثم في السُّنَّة، ثم في الإجماع، ثم في القياس، فإن لم يجده فيأخذ حكمها من استصحاب الحال في النفي والإثبات، فإن كان التردُّد في زواله فالأصل بقاؤه، وإن كان في ثبوته فالأصل عدم ثبوته "(7).
وهذه الأدلة التي يلزم الرجوع إليها لا تثبت بها الأحكام إلا متعلِّقةً بمناطاتها، إمَّا نصَّاً أو استنباطاً ، فلامناصَ -حينئذٍ- من الاجتهاد في المناط تنقيحاً وتخريجاً وتحقيقاً.
قال الخطيب البغدادي: " ليس يلزمه - أي: المجتهد- الانتقال عن
(1) مجموع الفتاوى: (29/ 165 - 166).
(2)
إعلام الموقعين: (3/ 105).
(3)
البحر المحيط: (6/ 17).
(4)
المرجع السابق: (6/ 17).
(5)
البرهان: (2/ 1135).
(6)
إجابة السائل شرح بغية الآمل: (217).
(7)
البحر المحيط: (6/ 17).
استصحاب الحال إلا بدليلٍ شرعيٍّ ينقله عنه ، فإن وجد دليلاً من أدلة الشرع انتقل عنه، سواءٌ كان ذلك الدليل نُطْقاً أو مفهوم نصٍّ أو ظاهراً؛ لأن هذه الحال إنما استصحبها لعدم دليلٍ شرعي ، فأيُّ دليلٍ ظهر من جهة الشرع حَرُم عليه استصحاب الحال بعده " (1).
وهذا يستلزم بذل الجهد في البحث والطلب عن معاني النصوص ومناطات الأحكام، حتى يتحقَّق للمجتهد العلمُ أو الظنُّ الغالب إما بانتفاء الدليل المغيِّر للحُكْم فيستند - حينئذٍ- إلى دليل الاستصحاب ، أو بوجود الدليل الناقل عنه ، فيَحْرُم حينئذٍ العمل بالاستصحاب ، ويجب المصير إلى مقتضى الدليل الناقل عنه (2).
قال ابن القيم: " وبالجملة فالاستصحاب لا يجوز الاستدلال به إلا إذا اعتقد انتفاء الناقل، فإن قطعَ المستدلُّ بانتفاء الناقل قطعَ بانتفاء الحكم، كما يقطع ببقاء شريعة محمدٍ صلى الله عليه وسلم وأنها غير منسوخة، وإن ظنَّ انتفاء الناقل أو ظنَّ انتفاء دلالته ظنَّ انتفاء النقل"(3).
وبهذا يكون الاستصحاب قطعياً إذا قُطِع بانتفاء الدليل الناقل ، ويكون الاستصحاب ظنيَّاً إذا ظُنَّ انتفاء الدليل الناقل.
والقطع بانتفاء الدليل المغيِّر للحُكْم ، أو دعوى غلبة الظنِّ في ذلك ، لا تُقبَل إلا من الباحث المجتهد المطَّلِع على مدارك الأدلة القادر على الاستقصاء.
قال الغزالي: " يجوز للباحث المجتهد المطَّلِع على مدارك الأدلة القادر على الاستقصاء، كالذي يقدر على التردُّد في بيته لطلب متاعٍ إذا فتش وبالغ أمكنه أن يقطع بنفي المتاع أو يدِّعي غلبة الظنّ، أما الأعمى الذي لا يعرف البيت ولا يُبْصِر ما فيه فليس له أن يدَّعي نفي المتاع من البيت"(4).
(1) الفقيه والمتفقه: (1/ 526).
(2)
ينظر: المستصفى (2/ 410 - 411) ، الإبهاج (3/ 170).
(3)
إعلام الموقعين: (3/ 105).
(4)
المستصفى: (2/ 408 - 409).
ولما ذكر ابن القيم مذاهب المنكرين للقياس وتعليل الأحكام أوضح أشنع أخطائهم التي وقعوا فيها بسبب ذلك، ومنها:" تحميل الاستصحاب فوق ما يستحقّه، وجزمهم بموجبه، لعدم علمهم بالناقل، وليس عدم العلم علماً بالعدم"(1).
ولهذا فإن أكثر الأصوليين يذكرون الاستصحاب عقب مباحث القياس، وذلك ضمن الأدلة المختلف فيها (2).
ثانياً: إذا رتَّب المجتهد حكماً شرعياً بالنظر إلى تحقُّق مناطه في بعض أفراده، فالأصل دوامه واستمراره وتكرُّره بتكرُّر سببه، ما لم يتخلف مناط ذلك الحُكْم أو يتغَّير سببه.
فإذا تغَّيرت أوصاف الواقعة ، أو أسبابها، أو احتفَّت بها أحوالٌ أخرى مؤثِّرة، لزم عدم الاستناد إلى الاستصحاب، والبحث عن حُكْمٍ يختصُّ بتلك الواقعة متعلِّقاً بمناط ذلك الحكم.
وهو من استصحاب الحُكْم الذي دلَّ الشرع على ثبوته ودوامه (3).
قال الغزالي: " ومن هذا القبيل: الحُكْم بتكرُّر اللزوم والوجوب إذا تكرَّرت أسبابها ، كتكرُّر شهود شهر رمضان، وأوقات الصلوات ،ونفقات الأقارب عند تكرُّر الحاجات، إذا فُهِمَ انتصاب هذه المعاني أسباباً لهذه الأحكام من أدلة الشرع إما بمجرَّد العموم عند القائلين به ،أو بالعموم وجملةٍ من القرائن عند الجميع، وتلك القرائن تكريراتٌ وتأكيداتٌ وأماراتٌ عَرَفَ حملةُ الشريعة قصدَ الشارع إلى نصبها أسباباً إذا لم يمنع مانع، فلولا دلالة الدليل على كونها أسباباً لم يجز استصحابها"(4).
(1) إعلام الموقعين: (3/ 99).
(2)
ينظر: البرهان (2/ 1135) ، المعتمد (2/ 884) ، الإحكام للآمدي (4/ 155) ، المحصول (6/ 109) ، منهاج الوصول (67) ، شرح تنقيح الفصول للقرافي (351) ،مختصر ابن الحاجب (2/ 1173) ، جمع الجوامع (108) ، البحر المحيط للزركشي (6/ 7).
(3)
ينظر: المستصفى (2/ 410) ، الإبهاج (3/ 169) ، البحر المحيط للزركشي (6/ 20).
(4)
المستصفى: (2/ 410).
ولما ذكر الزركشي استصحاب الحُكْم الذي دلَّ الشرع على ثبوته ودوامه قال: " ومن صوره: تكرُّر الحُكْم بتكررُّ السبب "(1).
ثالثا: استصحاب العموم حتى يَرِدَ المُخصِّص أمرٌ معمولٌ به بالإجماع، كما حكى ذلك الزركشي (2) ، والشوكاني (3).
ومن أنواع الاجتهاد في تحقيق المناط - كما تقدم - (4): تحقيق مناط الحُكْم الثابت بنصٍّ عامٍّ في بعض أفراده الداخلة تحته.
وإثبات وجود مناط ذلك الحُكْم الثابت بنصٍّ عامٍّ في بعض أفراده يستند فيه المجتهد ابتداءاً إلى استصحاب عموم النصِّ الذي ثبت به مناط ذلك الحُكْم ، ولايمنع المجتهد من استصحاب ذلك العموم إلا إذا ثبت تخصيصه بدليلٍ مُعتبَر.
ومثال ذلك: أن الرِّبا ثبت تحريمه بالكتاب والسُّنَّة والإجماع ، ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] ولفظ"الرِّبا" من ألفاظ العموم؛ لأن الألف واللَاّم لاستغراق الجنس فتفيد العموم، فيستصحب عموم هذا النصِّ مالم يَرِد مُخصِّصٌ له.
واستناداً إلى هذا النوع من الاستصحاب يُجتهَد -حينئذٍ- في إثبات متعلَّق ذلك العموم في بعض أفراده الداخلة تحته ، فيقال: يتحقَّق مناط تحريم الرِّبا الثابت بنصٍّ عامٍّ في ربا النسيئة ، وربا الفضل ، والقرض الذي جرَّ نفعاً، ونحو ذلك ، حيث لم يَرِد مايخصِّص هذا الأفراد الداخلة تحت العموم بحُكْمٍ آخر (5).
(1) البحر المحيط: (6/ 20).
(2)
ينظر: البحر المحيط (6/ 21).
(3)
ينظر: إرشاد الفحول (2/ 977).
(4)
ينظر: (199).
(5)
ينظر: مجموع الفتاوى (19/ 283)، منهاج السنة (2/ 287)، درء تعارض العقل والنقل (7/ 337).