الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثامن
التورُّق المصرفي المنظَّم
التورُّق لغةً: طلب الوَرِق ، والوَرِق هي: الفضة مضروبةً كانت أو غير مضروبة ، ثم شاع استعمال الوَرِق: في الدراهم المضروبة من الفضة (1).
والتورُّق اصطلاحاً هو: أن يشتري المرءُ سلعةً نسيئةً، ثم يبيعها نقداً لغير البائع بأقل ممّا اشتراها به، ليحصل بذلك على النقد (2).
وهذه المسألة تُسمَّى عند الحنابلة بـ"مسألة التورُّق" من الوَرِق، وهو الفضة؛ لأن مشترِي السلعة يبيع بها، والمقصود فيها الحصول على النقد (3).
وتسمَّى عند بعض الشافعية ب"الزرنقة"، وهي لفظةٌ أعجميةٌ معرَّب زرنة: أي ليس الذهب معي، فيطلب الذهب بالعِينَة (4).
ويبحثها أكثر الفقهاء ضمن مسائل بيوع الآجال، وعند ذكر مسألة العِينَة ، مع الاقتصار على إيراد صورتها دون تسميتها (5).
أما التورُّق المصرفي المنظَّم فهو: "قيام المصرف بعملٍ نمطيٍّ يتم فيه ترتيب بيع سلعةٍ (ليست من الذهب أو الفضة) من أسواق السلع العالمية أو غيرها، على المستورِق بثمنٍ آجل، على أن يلتزم المصرف - إما بشرطٍ في
(1) ينظر: الصحاح (10/ 375) ،معجم مقاييس اللغة (6/ 101) ،لسان العرب (10/ 375).
(2)
ينظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (29/ 303) ، كشاف القناع (7/ 382) ، شرح منتهى الإرادات (3/ 164).
(3)
ينظر: كشاف القناع (7/ 383) ، مطالب أولي النهى (3/ 61).
(4)
ينظر: الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي للأزهري (143) ،النهاية في غريب الحديث لابن الأثير (2/ 301).
(5)
ينظر: القوانين الفقهية لابن جزي (422 - 423) ، حاشية ابن عابدين (5/ 325 - 326).
العقد أو بحُكْم العرف والعادة - بأن ينوب عنه في بيعها على مشترٍ آخر بثمنٍ حاضر، وتسليم ثمنها للمستورِق" (1).
أو يقال هو: " شراء المستورِق سلعةً من الأسواق المحلية أو الدولية أو ما شابهها بثمنٍ مؤجَّلٍ يتولى البائع (المموِّل) ترتيب بيعها، إما بنفسه أو بتوكيل غيره أو بتواطؤ المستورِق مع البائع على ذلك، وذلك بثمنٍ حالٍّ أقلّ غالباً"(2).
ومن أبرز غايات التورُّق المصرفي المنظَّم مايأتي (3):
1 -
تمويل الأفراد والشركات، وتوفير السيولة اللازمة التي تحتاجها مشاريعهم الاقتصادية والاجتماعية.
2 -
تمكين المدينين من سداد ديونهم لدى المصارف التجارية، حيث تستخدم المصارف الإسلامية التورُّق لتحويل المدين للبنوك التجارية للتعامل مع المصارف الإسلامية.
3 -
استثمار المصرف ما لديه من سيولةٍ فائضةٍ في السلع الدولية عن طريق المتاجرة بها، حيث يقوم المصرف بشراء السلعة من شركةٍ في السوق الدولية بوسائل الاتصال الحديثة، ومن ثَمَّ بيعها للمتورِق بالأجل مساومةً أو مرابحة، بأكثر من سعر يومها، ثم يبيعها المصرف نيابةً عن المالك (العميل)، وقد يبيعها للشركة التي اشترى منها السلعة، ويستفيد المصرف من فرق السعرين.
فإذا كان التورّق المصرفي المنظَّم كما تقدم بيانه فما حُكْم التعاقد به في الشرع المطهّر؟
(1) قرارات المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته السابعة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة، في الفترة من 19 - 23/ 10/1424 هـ.
(2)
ينظر: قرارات مجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي المنعقد في دورته التاسعة عشرة من 1 إلى 5 جمادى الأولى 1430 هـ، الموافق 26 - 30 نيسان (إبريل 2009 م).
(3)
ينظر: التورق الفقهي وتطبيقاته المصرفية المعاصرة في الفقه الإسلامي ،د. محمد عثمان شبير ، (22) بحث مقدم لمجمع الفقه الإسلامي الدولي في دورته التاسعة عشرة.
لقد بحث مجلس المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي هذه المعاملة ، وذلك في دورته السابعة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة، في الفترة من 19 - 23/ 10/ 1424 هـ الذي يوافقه: 13 - 17/ 12/ 2003 م.
وبعد الاستماع إلى الأبحاث المقدمة حول الموضوع، والمناقشات التي دارت حوله، قرر مايلي:" عدم جواز التورّق الذي سبق توصيفه .. ".
كما بحث مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي هذه المعاملة ، وذلك في دورته التاسعة عشرة في إمارة الشارقة (دولة الإمارات العربية المتحدة) من 1 إلى 5 جمادى الأولى 1430 هـ، الموافق 26 - 30 نيسان (إبريل) 2009 م.
وبعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع التورّق: حقيقته، أنواعه (الفقهي المعروف والمصرفي المنظَّم)، وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله، وبعد الاطلاع على قرارات المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة بهذا الخصوص، قرَّر مايلي:" لا يجوز التورّقان (المنظَّم والعكسي) .. "(1).
ويمكن إبراز أوجه تطبيق الاجتهاد في المناط على هذه المسألة فيما يأتي:
أولاً: من ضوابط الاجتهاد في تحقيق المناط التصوّر التام للواقعة ومعرفة مكوناتها التي تميِّزها عن غيرها كما تقدّم (2).
وقد راعى مجلس المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي هذا الضابط في توصيفه للتورّق المصرفي المنظَّم كما يجري في الوقت الحاضر قبل تحقيق مناط التحريم فيه.
(1) صورة التورّق العكسي هي صورة التورّق المنظَّم نفسها مع كون المستورِق هو المؤسسة والمموِّل هو العميل. ينظر: قرارات مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورته التاسعة عشرة في إمارة الشارقة (دولة الإمارات العربية المتحدة) من 1 إلى 5 جمادى الأولى 1430 هـ، الموافق 26 - 30 نيسان (إبريل) 2009 م.
(2)
ينظر: (223 - 228).
حيث ورد في القرار ما نصُّه: " وبعد الاستماع إلى الأبحاث المقدمة حول الموضوع، والمناقشات التي دارت حوله، تبين للمجلس أن التورّق الذي تجريه بعض المصارف في الوقت الحاضر هو: قيام المصرف بعملٍ نمطيٍّ يتم فيه ترتيب بيع سلعةٍ (ليست من الذهب أو الفضة) من أسواق السلع العالمية أو غيرها، على المستورِق بثمنٍ آجل، على أن يلتزم المصرف - إما بشرطٍ في العقد أو بحُكْم العرف والعادة - بأن ينوب عنه في بيعها على مشترٍ آخر بثمنٍ حاضر، وتسليم ثمنها للمستورِق".
كما أوضح مجلس المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي الفرق بين التورّق المعروف عند الفقهاء والتورّق المصرفي المنظَّم ، وهو من تمييز مكونات الواقعة عن غيرها الذي يترتَّب عليه الأثر في اختلاف الحُكْم بين الصور والوقائع.
حيث ورد في القرار ما نصُّه: " وهذه المعاملة -أي: التورّق المصرفي المنظَّم- غير التورّق الحقيقي المعروف عند الفقهاء، والذي سبق للمجمع في دورته الخامسة عشرة أن قال بجوازه بمعاملاتٍ حقيقيةٍ وشروطٍ محدَّدَةٍ بيَّنها قرارُه (1) .. وذلك لما بينهما من فروقٍ عديدةٍ فصَّلت القولَ فيها البحوثُ المقدَّمة، فالتورّق الحقيقي يقوم على شراءٍ حقيقيٍّ لسلعةٍ بثمنٍ آجلٍ تدخل في ملك المشتري ، ويقبضها قبضاً حقيقياً ، وتقع في ضمانه، ثم يقوم ببيعها هو بثمنٍ حالٍّ لحاجته إليه، قد يتمكن من الحصول عليه وقد لا يتمكن، والفرق بين الثمنين الآجل والحال لا يدخل في ملك المصرف الذي طرأ على المعاملة لغرض تسويغ الحصول على زيادةٍ لِما قدَّم من تمويلٍ لهذا الشخص بمعاملاتٍ صوريَّةٍ في معظم أحوالها، وهذا لا يتوافر في المعاملة المبيَّنة التي تجريها بعض المصارف"(2).
أما مجلس مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي فقد
(1) ينظر: قرارات المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي (320 - 321).
(2)
قرارات المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته السابعة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة، في الفترة من 19 - 23/ 10/1424 هـ.
راعى هذا الضابط بذكر أنواع التورّق، وتوصيف التورّق المعروف عند الفقهاء، وتوصيف التورّق المصرفي المنظَّم ،ثم بناء الحُكْم على الفرق المميِّز بينهما.
حيث ورد في القرار ما نصّه: " أولاً: أنواع التورّق وأحكامها:
(1)
التورّق في اصطلاح الفقهاء: هو شراء شخصٍ (المستورق) سلعةً بثمنٍ مؤجَّلٍ من أجل أن يبيعها نقداً بثمنٍ أقلّ غالباً إلى غير من اشتُريت منه بقصد الحصول على النقد. . .
(2)
التورّق المنظَّم في الاصطلاح المعاصر: هو شراء المستورق سلعةً من الأسواق المحلية أو الدولية أو ما شابهها بثمنٍ مؤجَّلٍ يتولى البائع (المموِّل) ترتيب بيعها، إما بنفسه أو بتوكيل غيره أو بتواطؤ المستورِق مع البائع على ذلك، وذلك بثمنٍ حالٍّ أقلّ غالباً.
(3)
التورّق العكسي: هو صورة التورّق المنظَّم نفسَها مع كون المستورِق هو المؤسسة والمموِّل هو العميل" (1).
ثانياً: ثبت بنصِّ السُّنَّة الصريح تحريم بيع العِينَة ، كما في قوله صلى الله عليه وسلم:" إذا تبايعتم بالعِينَة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزَّرع وتركتم الجهاد سلَّط الله عليكم ذُلَّاً لا ينْزِعُه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم"(2).
والمقصود بالعِينَة: بيع الرجل سلعةً إلى أجل، ثم يشتريها البائع نفسُه بثمنٍ حالٍّ أقلّ منه (3).
(1) ينظر: قرارات مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورته التاسعة عشرة في إمارة الشارقة (دولة الإمارات العربية المتحدة) من 1 إلى 5 جمادى الأولى 1430 هـ، الموافق 26 - 30 نيسان (إبريل) 2009 م.
(2)
أخرجه أبو داود في "سننه"، كتاب البيوع ، باب النهي عن العِينَة، رقم (3462) وأحمد في المسند ،
…
... رقم (4825)، وحسّنه ابن القيم في تهذيب سنن أبي داود (5/ 104).
(3)
ولها صورٌ أخرى عديدة. ينظر: مغني المحتاج (2/ 396) ، مواهب الجليل شرح مختصر خليل (4/ 404) ، شرح منتهى الإرادات (3/ 164) ، حاشية ابن عابدين (5/ 325).
ومناط التحريم في بيع العِينَة: أنه ذريعةٌ إلى الرِّبا، وسَدُّ الذرائع مُعتبرٌ شرعاً، ووجه اعتباره ذريعةً إلى الرِّبا أن البائع استباح أخذ الثمن الأكثر الآجل بالثمن الأقل العاجل إلى أجلٍ معلوم، واحتال على ذلك بالبيع إلى أجل (1).
وقد اجتهد مجلس المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في تحقيق مناط التذرّع إلى الرِّبا في التورّق المصرفي المنظَّم ، وذلك باعتبار أن المصرف يهدف بطريقةٍ منظَّمةٍ إلى توفير السيولة النقدية للمتورِّق على أن يكون مديناً له بزيادة ، وهذا هو حاصل رِبا النسيئة ، وقد اتخذ المصرف التورّقَ المنظَّم ذريعةً إلى ذلك (2).
حيث ورد في القرار ما نصّه -في سياق ذكر تعليل الحُكْم بعدم جواز التورّق المصرفي المنظَّم-: " أن التزام البائع في عقد التورّق بالوكالة في بيع السلعة لمشترٍ آخر أو ترتيب من يشتريها يجعلها شبيهةً بالعِينَة الممنوعة شرعاً، سواء أكان الالتزام مشروطاً صراحةً أم بحُكْم العرف والعادة المتَّبَعة ".
ونصّ القرار على "أن واقع هذه المعاملة يقوم على منح تمويلٍ نقديٍّ بزيادةٍ لما سُمِّيَ بالمستورِق فيها من المصرف في معاملات البيع والشراء التي تجري منه والتي هي صوريةٌ في معظم أحوالها، هدفَ البنكُ من إجرائها أن تعود عليه بزيادةٍ على ما قدَّم من تمويل".
فالمتورِّق -هنا- لا همَّ له غير السيولة النقدية ، وموضوع السلعة إنما كان فقط للتحايل، فالمحصِّلة بالنسبة للمتورِّق في هذه المعاملة أنه أخذ من البنك مبلغاً وهو (ثمن السلعة بعد بيعها حالَّا) وسيردُّه أكبرَ من ذلك (ثمن السلعة التي اتفق أن يشتريها من البنك آجلا) ، وهذا من صور الرِّبا.
كما اجتهد مجلس مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في تحقيق مناط التذرُّع إلى الرِّبا في التورّق المصرفي المنظَّم ، وجاء
(1) ينظر: المراجع السابقة.
(2)
ينظر: التورُّق والتورُّق المنظم دراسة تأصيلية ،د. سامي السويلم، (22 - 23) ،التورّق حقيقته وأنواعه ، أ. د. وهبة الزحيلي، (10 - 11) بحث مقدم لمجمع الفقه الإسلامي الدولي في دورته التاسعة عشرة.
في القرار الصادر عنه ما نصُّه: " لا يجوز التورقان (المنظَّم والعكسي) وذلك لأن فيهما تواطؤاً بين المموِّل والمستورِق، صراحةً أو ضمناً أو عرفاً، تحايلاً لتحصيل النقد الحاضر بأكثر منه في الذمة وهو رِبا"(1).
وهذا المعنى هو ماحدا بشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم إلى القول بتحريم التورّق المعروف عند الفقهاء.
قال ابن القيم: "وكان شيخنا رحمه الله يمنع من مسألة التورُّق، وروجع فيه مراراً وأنا حاضِرٌ فلم يرخِّص فيها ،وقال: المعنى الذي لأجله حُرِّم الرِّبا موجودٌ فيها بعينه"(2).
بل قرر ابن القيم في موضعٍ آخر أنه أعظم تحريماً؛ وذلك لأنه قَصَدَ التحايلَ على الرِّبا، حيث قال:" فإن من أراد أن بيع مائةً بمائةٍ وعشرين إلى أجلٍ فأعطى سلعةً بالثمن المؤجَّل ثم اشتراها بالثمن الحال ، ولا غرض لواحدٍ منهما في السلعة بوجهٍ ما. . . فلا فرق بين ذلك وبين مائةٍ بمائةٍ وعشرين درهماً بلا حيلةٍ البتة ، لا في شرعٍ ولا في عقلٍ ولا في عرفٍ ، بل المفسدة التي لأجلها حُرِّم الرِّبا بعينه قائمةٌ مع الاحتيال أو أزيد ، فانها تضاعفت بالاحتيال "(3).
بينما ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية (4) ،والمالكية (5) ، والشافعية (6) ، والحنابلة (7) إلى جواز التورّق البسيط باعتبار أنه لاتذرُّع فيه إلى الرِّبا ، والأصل في البيوع الإباحة.
(1) ينظر: قرارات مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورته التاسعة عشرة في إمارة الشارقة (دولة الإمارات العربية المتحدة) من 1 إلى 5 جمادى الأولى 1430 هـ، الموافق 26 - 30 نيسان (إبريل) 2009 م.
(2)
ينظر: إعلام الموقعين (5/ 86).
(3)
إعلام الموقعين (4/ 524 - 525).
(4)
ينظر: تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق (4/ 55).
(5)
ينظر: القوانين الفقهية لابن جزي (422 - 423).
(6)
ينظر: الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي للأزهري (143).
(7)
ينظر: شرح منتهى الإرادات (3/ 164).
كما أصدر المجمع الفقهي الاسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي قراراً ينصُّ على جواز التورّق المعروف عند الفقهاء -وهو: شراء سلعةٍ في حوزة البائع وملكه، بثمنٍ مؤجَّلٍ، ثم يبيعها المشتري بنقدٍ لغير البائع، للحصول على النقد (الوَرِق) - لأن الأصل في البيوع الإباحة، لقول الله تعالى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] ولم يظهر في هذا البيع رِباً لا قصداً ولا صورة، ولأن الحاجة داعيةٌ إلى ذلك لقضاء دَين، أو زواج ، أو غيرهما (1).
ثالثاً: ثبت بنصِّ السُّنَّة الصريح اشتراط قبض المبيع قبل بيعه ، كما في قوله صلى الله عليه وسلم:" من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه"(2).
وهذا النهي يشمل الطعامَ وغيرَه من المبيعات ،كما ذهب إلى ذلك جمهور الفقهاء من الحنفية (3) ، والشافعية (4) ، والحنابلة (5).
قال ابن عباس (راوي الحديث): ولا أحسب كلَّ شيءٍ إلا مثلَه (6).
وتختلف كيفية قبض الأشياء بحسب حالها واختلاف الأعراف فيما يكون قبضاً لها، فقبض ما يُتنَاول عادةً باليد يكون بتناوله باليد، وقبض المكيل والموزون والمعدود والمذروع يحصل باستيفائه كيلاً أو وزناً أو عدّاً أو ذرعاً ،وتمييزه عن غيره ، وقبض مالا يُعْتَبر فيه تقديرٌ من كيلٍ أو وزنٍ أو ذَرْعٍ أو عدٍّ كالدَّواب يُرجَع فيه إلى العرف ، والأشياء التي لا تنقل كالأراضي والعقارات ونحوها يكون قبضها بالتخلية بينها وبين المشتري، بلا حائلٍ دونها، وتمكينه من التصرف فيها (7).
(1) ينظر: قرارات المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته الخامسة عشرة ، (320).
(2)
أخرجه البخاري في "صحيحه"، كتاب البيوع، باب مايذكر في بيع الطعام والحُكْرة، رقم (2132) ، وأخرجه مسلم في "صحيحه"،كتاب البيوع، باب بطلان المبيع قبل القبض، رقم (1525) ، كلاهما من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(3)
ينظر: الهداية في شرح بداية المبتدي (3/ 59).
(4)
ينظر: مغني المحتاج (2/ 461).
(5)
ينظر: شرح منتهى الإرادات (3/ 231).
(6)
أخرجه مسلم في "صحيحه"،كتاب البيوع، باب بطلان المبيع قبل القبض، رقم (1525).
(7)
ينظر: المغني لابن قدامة (6/ 186 - 188) ،روضة الطالبين للنووي (3/ 517 - 518) ،بدائع الصنائع (5/ 244) ،
…
مواهب الجليل (4/ 477).
وقد اجتهد مجلس المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في تحقيق مناط القبض في معاملة التورّق المصرفي المنظَّم، فأثبت في القرار عدم تحقُّق القبض الشرعي في أكثر عقود التورّق المصرفي ، واعتبر ذلك سبباً من أسباب عدم جواز هذه المعاملة.
حيث ورد في القرار ما نصّه -في سياق ذكر تعليل الحُكْم بعدم جواز التورّق المصرفي المنظَّم -: "أن هذه المعاملة تؤدي في كثيرٍ من الحالات إلى الإخلال بشروط القبض الشرعي اللازم لصحة المعاملة".
فالمصرف - غالباً- لايقبض السلعة ويحوزها من الأسواق العالمية قبضاً شرعياً أثناء إبرام عقد الشراء الذي وكَّلَه فيه العميل ، وكذلك العميل فإنه لا يقبض تلك السلعة ويستوفيها أثناء عقد البيع الذي وكَّل فيه المصرف لبيعها ، وكلُّ مايتم في ذلك إنما هو على الأوراق فقط؛ لأن وجود السلعة -هنا- أمرٌ صوريٌّ ليس مقصوداً لذاته.
حيث" إن السلعة التي ذُكِرَت للتحليل لا وجود لها، ولا يعلم المشتري عنها شيئاً، ولا يمكن أن يتم تسليمها، وإنما التعامل في أوراقٍ فقط، وأوراق المخازن الأصلية التي تثبت الملكية لا أحد يتسلمها أو يفكر في الحصول عليها، والذين يحصلون عليها للتسلُّم شركاتٌ عملاقةٌ تشتري بمئات الملايين أو بالمليارات، ويمكن لها التعامل في البورصة، أما المبالغ التي تودع في البنوك في هذا المنتج فهي ضئيلةٌ لا تصلح لشراء الأطنان من المعادن، لذلك وجدنا من هذه البنوك من يلغي السلعة أصلاً، ووجدنا كذلك من يصرِّح بأن العمليات تتم بالأوراق فقط، فالسلعة غير مقصودة"(1).
رابعاً: من ضوابط الاجتهاد في تحقيق المناط اعتبار مقاصد المكلَّفين ، والنظر في حقائق العقود لامسمياتها أو أشكالها الصورية كما تقدم (2).
وقد راعى مجلس المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم
(1) المنتج البديل للوديعة لأجل ـ أ. د. على السالوس: (13).
(2)
ينظر: (241 - 244).
الإسلامي هذا الضابط في تحقيق مناط التحريم في عقود التورّق المصرفي المنظَّم ، وذلك بناءً على اختلاف حقيقته عن التورّق المباح عند الفقهاء بشروطه.
حيث ورد في القرار ما نصُّه: -في سياق ذكر تعليل الحُكْم بعدم جواز التورّق المصرفي المنظَّم-" أن واقع هذه المعاملة يقوم على منح تمويلٍ نقديٍّ بزيادةٍ لما سُمِّيَ بالمستورِق فيها من المصرف في معاملات البيع والشراء التي تجري منه والتي هي صوريةٌ في معظم أحوالها، هدفَ البنكُ من إجرائها أن تعود عليه بزيادةٍ على ما قدَّم من تمويل ، وهذه المعاملة غير التورّق الحقيقي المعروف عند الفقهاء، والذي سبق للمجمع في دورته الخامسة عشرة أن قال بجوازه بمعاملاتٍ حقيقيةٍ وشروطٍ محدَّدَةٍ بيَّنها قراره (1) ، وذلك لما بينهما من فروقٍ عديدة. . . "(2).
ورغم أن التورّق المعروف عند الفقهاء يتفق مع التورّق المصرفي المنظَّم في الحصول على النقد عن طريق شراء سلعةٍ بالأجل وبيعها بالثمن الحال، إلا أنهما يختلفان من عِدَّة وجوهٍ مؤثِرةٍ في الحُكْم من أهمها (3):
1 -
التورّق المعروف عند الفقهاء يجمع بين عقدين منفصلين عن بعضهما البعض، حيث يقوم العميل بشراء السلعة مستوفياً أركانَ البيع بالأجل، ثم تنتهي هذه العملية لتبدأ عملية أخرى منفصلةً عنها مطلقاً، وهي بيع السلعة التي اشتراها بثمنٍ حال، أما في التورّق المصرفي فإن عملياته مرتبطةٌ بعضها ببعض، حيث يقوم المصرف باتفاقاتٍ سابقةٍ على العملية، مع كلٍّ من الجهة التي يشتري منها، والجهة التي يبيع عليها؛ ليضمن استقرار السعر، وعدم
(1) ينظر: قرارات المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي (320 - 321).
(2)
قرارات المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته السابعة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة، في الفترة من 19 - 23/ 10/1424 هـ.
(3)
ينظر: التورّق والتورق المنظم ، د. سامي السويلم (40 - 41) ، التورق الفقهي وتطبيقاته المصرفية المعاصرة في الفقه الإسلامي ،د. محمد عثمان شبير ، (25) بحث مقدم لمجمع الفقه الإسلامي الدولي في دورته التاسعة عشرة، قرارات المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته السابعة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة، في الفترة من 19 - 23/ 10/1424 هـ.
تذبذبه، وهو تواطؤٌ يقترب من بيع العِينَة ، وبمجرد توقيع العميل على الأوراق تتم عملية البيع والشراء، ويدخل الدَّين في ذِمَّة العميل ، ويتم تحويل ثمن السلعة بالنقد على حسابه البنكي.
2 -
في التورّق المصرفي المنظَّم يكون المصرف وكيلاً عن المشتري في بيع السلعة التي اشتراها منه، ولولا وكالة المصرف بالبيع نقداً لما أقدم العميل على هذه المعاملة، ولو انفصلت الوكالة عن البيع الآجل لانهار هذا التمويل من أساسه ،في حين أن البائع في التورّق المعروف عند الفقهاء لا علاقة له ببيع السلعة مطلقاً، ولا علاقة له بالمشتري الثاني.
3 -
في التورّق المعروف عند الفقهاء تدور السلعة دورتها العادية من مالكٍ أصليٍّ إلى المتورّق إلى مالكٍ جديد، ثم منه إلى أطرافٍ أخرى، أما في التورّق المصرفي المنظَّم فالسلعة قد ترجع إلى الشركة التي باعتها إلى المصرف ، وبهذا يكون التورّق المصرفي صورةً من صور العِينَة.
4 -
التورّق المعروف عند الفقهاء يقوم على شراءٍ حقيقيٍّ لسلعةٍ بثمنٍ آجلٍ تدخل في ملك المشتري ،ويقبضها قبضاً حقيقياً ، وتقع في ضمانه، ثم يقوم ببيعها هو بثمنٍ حالٍّ لحاجته إليه، قد يتمكّن من الحصول عليه وقد لا يتمكّن، والفرق بين الثمنين الآجل والحال لا يدخل في ملك المصرف الذي طرأ على المعاملة لغرض تسويغ الحصول على زيادةٍ لما قدَّم من تمويلٍ لهذا الشخص بمعاملاتٍ صوريةٍ في معظم أحوالها، وهذا لا يتوافر في التورّق المصرفي المنظَّم.
وبهذا يتبين أن عقد التورّق المصرفي المنظَّم كما تجريه أكثر البنوك أشبه ما يكون بالصورية أو الشكلية التي تعود عليها بالتربُّح من التمويل بمايشبه بيع العِينَة في المعنى الذي من أجله وقع النهي عن التبايع به ، والأصل تحريم ما أدى من العقود إلى محرَّم يكثرُ قصدُه ، ولو لم يُقصَد بالفعل (1).
(1) ينظر: مواهب الجليل (4/ 390)، منح الجليل (5/ 76 - 77) ، بلغة السالك لأقرب المسالك للدردير (3/ 117).