الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومثاله: الحُكْم بطهارة الآبار والحياض بعدما تنجَّست، فإن القياس يأبى جوازه؛ لأن ما يَرِد عليه النجاسة يتنجَّس بملاقاته ، لكن حُكِم بطهارتها للضرورة المُحْوِجة إلى ذلك لعامَّة الناس، والحرج مدفوعٌ بالنصّ (1).
النوع الرابع: استحسان القياس الخفي.
وهو أن يُترَك العمل بمقتضى القياس الجلي لقياسٍ خفيٍّ قوي الأثر.
ومثاله: القياس المُستَحسَن في سؤر سباع الطير، فالقياس فيه النجاسة؛ اعتباراً بسؤر سباع الوحش، بعِلَّة حُرْمَة التناول، وفي الاستحسان لا يكون نجساً؛ لأن السباع غير مُحَرَّمٍ الانتفاع بها ،فعرفنا أن عينها ليست بنجسة، وإنما كانت نجاسة سؤر سباع الوحش باعتبار حُرْمَة الأكل؛ لأنها تشرب بلسانها وهو رطبٌ من لعابها ،ولعابها يتجلب من لحمها، وهذا لا يوجد في سباع الطير؛ لأنها تأخذ الماء بمنقارها ، ثم تبتلعه ، ومنقارها عظمٌ جافٌّ ، والعظم لا يكون نجساً من الميت، فكيف يكون نجساً من الحي، وتأيد هذا بالعِلَّة المنصوص عليها في الهِرَّة، فإن معنى البلوى يتحقَّق في سؤر سباع الطير؛ لأنها تَنْقَضُّ من الهواء، ولا يمكن صون الأواني عنها ،خصوصاً في الصحارى (2).
المطلب الثاني: حُجِّية الاستحسان
.
الاستحسان بمعناه المتقدِّم المستندِ إلى دليلٍ معتبرٍ شرعاً مقبولٌ عند الأصوليين كافّة من حيث الجملة ، وإن اختلفوا في تسميته بالاستحسان ، واعتباره دليلاً مستقلاً بذاته.
(1) ينظر: أصول السرخسي (2/ 203) ،شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 199) ، كشف الأسرار (4/ 6) ، التقرير والتحبير (3/ 222) ، فواتح الرحموت (2/ 374).
(2)
ينظر: أصول السرخسي (2/ 204) ،شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 200 - 201) ،المحصول لابن
العربي (131) ، كشف الأسرار (4/ 6) ، التقرير والتحبير (3/ 223) ، فواتح الرحموت (2/ 375).
وقد ذهب إلى القول به، واعتباره دليلاً مستقلاً بذاته: الحنفية، والمالكية ، والحنابلة (1).
واستنكره الشافعية ،وشنَّعوا على القائلين به ، باعتبار أنه عملٌ بلا دليل (2).
وإذا تحرَّر معنى الاستحسان المُعتبَر عند القائلين به لم يَعُد استنكار الشافعية وتشنيعهم في محلِّه؛ لأن الكلَّ متفقٌ على العدول عن القياس بالنصِّ والإجماع والضرورة ، كما إنهم متفقون على عدم شرعيَّة الاستحسان بمجرَّد الرأي والهوى.
وعليه فلا خلاف بين الأصوليين في حُجيِّة الاستحسان بالنصِّ، أو الإجماع، أو الضرورة؛ لأنه بالاتفاق يُترَك القياس بهذه الأمور الثلاثة ، وإن اختلفوا في تسمية ذلك بالاستحسان.
قال الغزالي تعقيباً على ماذكره من أمثلة الحنفية في العدول بالمسألة عن حُكْم نظائرها بدليل الكتاب والسُّنَّة: " وهذا مما لا يُنْكَر، وإنما يرجع الاستنكار إلى اللفظ ، وتخصيص هذا النوع من الدليل بتسميته استحساناً من بين سائر الأدلة"(3).
وذكر الآمدي أن تفسير الاستحسان بالرجوع عن حُكْم دليلٍ خاصٍّ إلى مقابله بدليلٍ طارئٍ عليه أقوى منه ، من نصٍّ أو إجماعٍ أو غيره ، لا نزاع في صحة الاحتجاج به، وإن نوزع في تلقيبه بالاستحسان ، فحاصل النزاع راجعٌ فيه إلى الإطلاقات اللفظية، ولا حاصل له (4).
(1) ينظر: أصول السرخسي (2/ 201 - 202) ، العدة (5/ 1604) ،روضة الناظر ، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 197) ،شرح تنقيح الفصول (355) ، المحصول لابن العربي (131) ، كشف الأسرار (4/ 2 - 3) ، شرح الكوكب المنير (4/ 427).
(2)
ينظر: الرسالة (504) المستصفى (2/ 467) ، المحصول (6/ 126) ، الإحكام (4/ 190 - 191) ، نهاية السول (4/ 399) ، البحر المحيط للزركشي (6/ 87) ، إرشاد الفحول (2/ 986).
(3)
ينظر: المستصفى (2/ 477).
(4)
ينظر: الإحكام (4/ 193 - 194).
وإن كان الاستحسان تركاً لقياسٍ جليٍّ في مقابل قياسٍ خفيٍّ أدقَ منه، فهو محلُّ اتفاقٍ أيضاً؛ لأنه تَرْكُ قياسٍ مرجوحٍ إلى قياسٍ راجح، فليس فيه خروجٌ على القياس ، وإن اختلفوا في تسمية ذلك بالاستحسان.
والاختلاف في إطلاق مُسمَّى الاستحسان على تلك المعاني راجعٌ إلى الاصطلاح ، ولامشاحة في الاصطلاح.
ولهذا قال ابن الحاجب: " ولا يتحقَّق استحسانٌ مختلَفٌ فيه"(1).
وقال ابن السُّبكي: " وقد ذُكِر للاستحسان تفاسيرُ أُخر مزيفةٌ لا نرى التطويل بذكرها، وحاصلها يرجع إلى أنه لا يتحقَّق استحسانٌ مختلَفٌ فيه"(2).
وقال الأصفهاني بعد مناقشته الاختلافَ في تعريف الاستحسان: " فقد ثبت أن الاستحسان في الصور التي ذكرناها مما لا نزاع فيه"(3).
وقال المحلِّي: " فلم يتحقَّق معنىً للاستحسان مما ذُكِر يصلح محلّاً للنزاع"(4).
وخلاصة القول في الكلام عن حُجِّية الاستحسان أنه" لما اختلفت العبارات في تفسير الاستحسان، مع أنه قد يُطلَق لغةً على ما يهواه الإنسان ويميل إليه ،وإن كان مستقبَحاً عند الغير ،وكثُر استعماله في مقابلة القياس على الإطلاق ،كان إنكار العمل به عند الجهل بمعناه مستحسَناً حتى يتبين المراد منه؛ إذ لا وجه لقبول العمل بما لا يُعرَف معناه، وبعدما استقرت الآراء على أنه اسمٌ لدليلٍ متفقٍ عليه - نصَّاً كان أو إجماعاً أو قياساً خفيِّاً- إذا وقع في مقابلة قياسٍ تسبق إليه الأفهام ، حتى لا يطلق على نفس الدليل من غير مقابلة ، فهو حُجَّةٌ عند الجميع من غير تصوُّر خلاف، ثم إنه غلب في اصطلاح الأصول على القياس الخفي خاصّة ، كما غلب اسم القياس على القياس الجلي؛ تمييزاً بين القياسين "(5).
(1) مختصر ابن الحاجب: (2/ 1192).
(2)
الإبهاج: (3/ 190).
(3)
بيان المختصر: (3/ 283 - 284).
(4)
شرح المحلي على جمع الجوامع مع حاشية البناني: (2/ 353).
(5)
شرح التلويح على التوضيح: (2/ 163).