الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني
تعريف تنقيح المناط اصطلاحاً
" تنقيح المناط " مصطلحٌ استعمله الأصوليون وتناولوه بالبحث في مواضع مختلفةٍ من كتاب القياس فبعض الأصوليين يذكره قبل البحث في مسالك العِلَّة، وبعضهم يذكره عند البحث في مسالك العلة، وبعضهم يذكره بعد الفراغ من البحث في مسالك العلة.
ويظهر لي أن اختلاف الأصوليين في مواضع بحث " تنقيح المناط " في المدونات الأصولية ينبِّه على اختلافهم في حقيقته: هل يُعْتَبر في نفسه مسلكاً من مسالك العِلَّة؟ أو يُعْتَبر من طرق الاجتهاد في العِلَّة بعد إثباتها بمسلك النصِّ أو الإيماء والتنبيه؟
وحاصل أنظار الأصوليين في ذلك تتمثل في اتجاهين:
الاتجاه الأول: ذهب بعض الأصوليين إلى أن " تنقيح المناط " يُعْتَبر من طرق الاجتهاد في العِلَّة بعد إثباتها بأحد المسالك المُعْتَبرة وهو" مسلك النصِّ " أو" مسلك الإيماء والتنبيه "، ولا يُعْتَبر في نفسه مسلكاً من مسالك العِلَّة.
وبناءً على ذلك فقد ذكر أصحاب هذا الاتجاه " تنقيح المناط " مستقلاً عن مسالك العِلَّة إما قبلها أو بعدها، وأدرجوه تحت ما يُسَمَّى بـ " أنواع الاجتهاد في العِلَّة " أو " أنواع الاجتهاد في مناط الحُكْم "، ولم يذكروه ضمن مسالك العِلَّة (1).
(1) ينظر: المستصفى (3/ 488)، روضة الناظر (3/ 803)، الإحكام للآمدي (3/ 380)، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 237)، الموافقات (5/ 19 - 20)، التحبير شرح التحرير (7/ 3333)، المدخل إلى مذهب الإمام أحمد لابن بدران (307).
وقد ذهب إلى هذا الاتجاه: الغزالي، وابن قدامة، والآمدي، والطُّوفي، والشاطبي، والمرداوي، وابن بدران الدمشقي.
وفيما يأتي تعريفاتهم لـ " تنقيح المناط " وقد اقتصر أكثرهم على ما بين المراد دون التقيد بشروط الحدود:
- عرَّفه الغزالي بقوله: " أن يضيف الشارع الحُكْم إلى سببٍ وينوطه به، وتقترن به أوصافٌ لا مدخل لها في الإضافة، فيجب حذفها عن درجة الاعتبار حتى يتسع الحُكْم "(1).
- وعرَّفه ابن قدامة بقوله: " أن يضيف الشارع الحُكْم إلى سببه، فيقترن به أوصافٌ لا مدخل لها في الإضافة، فيجب حذفها عن الاعتبار ليتسع الحكم"(2).
- وعرَّفه الآمدي بأنه: " النظر والاجتهاد في تعيين ما دلَّ النصُّ على كونه عِلَّةً من غير تعيين، بحذف ما لا مدخل له في الاعتبار مما اقترن به من الأوصاف"(3).
- وعرَّفه الطُّوفي بأنه: " إلغاء بعض الأوصاف التي أضاف الشارع الحُكْم إليها، لعدم صلاحيتها للاعتبار في العِلَّة "(4).
- وعرَّفه الشاطبي بقوله: " أن يكون الوصف المُعْتَبَر في الحُكْم مذكوراً مع غيره في النصِّ، فَيُنَقَّح بالاجتهاد حتى يُميَّز ما هو معتبرٌ مما هو ملغيٌّ"(5).
- وعرَّفه المرداوي بأنه: " الاجتهاد في تحصيل المناط الذي ربط به الشارع الحُكْم، فيُبْقِي من الأوصاف ما يصلح، ويُلْغِي ما لا يصلح "(6).
- وعرَّفه ابن بدران الدمشقي بأنه: " إلغاء بعض الأوصاف التي أضاف
(1) المستصفى: (3/ 488).
(2)
روضة الناظر: (3/ 803).
(3)
الإحكام: (3/ 380).
(4)
شرح مختصر الروضة: (3/ 237).
(5)
الموافقات: (5/ 19 - 20).
(6)
التحبير شرح التحرير: (7/ 3333).
الشارع الحُكْم إليها؛ لعدم صلاحيتها للاعتبار في العِلَّة " (1).
ويتضح من خلال النظر في التعريفات السابقة لـ " تنقيح المناط " أن تلك التعريفات وإن كانت مختلفةً في بعض ألفاظها إلا أنها متقاربةٌ في معانيها، فأصحاب هذا الاتجاه يعتبرون أن وظيفة المجتهد في "تنقيح المناط " حذف الأوصاف غير المُعْتَبرة، وتعيين الباقي من الأوصاف عِلَّةً للحُكْم، وذلك بعد أن أُثْبِتت العِلَّة بمسلك النصِّ أو الإيماء والتنبيه، واقترن بالحُكْم أوصافٌ بعضها يصلح للعِلَّيَّة وبعضها لا يصلح، فاحتيج حينئذٍ إلى تمييز وتعيين الوصف الذي يصلح أن يكون عِلَّةً للحُكْم، وإلغاء ما سواه من الأوصاف.
ومثاله: قصة الأعرابي الذي جامع أهله في رمضان فقال: هلكت يا رسول الله، قال:" ما صنعت "؟ قال: " وقعت على أهلي في نهار رمضان، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " أعتق رقبة" (2).
فالتعليل بالوقاع وإن كان قد أُومِئَ إليه بالنصِّ غير أنه يُفْتَقَرُ في معرفته إلى حذف كلِّ ما اقترن به من الأوصاف غير المُعْتَبَرة في العِلِّيَّة، وإبقاء الوصف أو الأوصاف الصالحة للعِلَّيَّة، وذلك بأن يبين المجتهد بالدليل أن كونه أعرابياً، وكونه شخصاً معيناً، وأن كون ذلك الزمان وذلك الشهر بخصوصه، وذلك اليوم بعينه، وكون الموطوءة زوجةً أو امرأةً معينةً لا مدخل له في التأثير، حتى يتعدَّى الحُكْم إلى كلِّ مكلفٍ وطئ في نهار رمضان عامداً (3).
الاتجاه الثاني: ذهب بعض الأصوليين إلى أن " تنقيح المناط " يُعْتَبر بنفسه مسلكاً مستقلاً من المسالك التي تثبت بها العِلَّة.
وبناءً على ذلك فقد ذكر أصحاب هذا الاتجاه " تنقيح المناط " ضمن مسالك العِلَّة، واعتبروه دليلاً تثبت به العِلَّة الشرعيَّة.
(1) المدخل إلى مذهب الإمام أحمد: (307).
(2)
تقدم تخريجه: (48).
(3)
ينظر: المراجع السابقة.
وقد ذهب إلى هذا الاتجاه: الفخر الرازي (1)، والبيضاوي (2)، والقرافي (3)، وصفي الدين الهندي (4)، وصدر الشريعة الحنفي (5)(6)،
وتاج الدين ابن السبكي (7)، والزركشي (8)، والشوكاني (9).
ثم اختلف أصحاب هذا الاتجاه في تعريفه على مذهبين:
المذهب الأول: تعريف " تنقيح المناط " على أنه اجتهادٌ في حذف خصوص وصفٍ مذكورٍ في النصِّ عن الاعتبار، وإناطة الحُكْم بالمعنى الأعمّ، أو حذف بعض الأوصاف المذكورة في النصِّ عن الاعتبار، وتعيين الباقي من الأوصاف عِلَّةً للحكم.
وقد عرَّفه بذلك تاج الدين ابن السُّبكي حيث قال: " هو: أن يدلَّ ظاهرٌ على التعليل بوصفٍ، فَيُحْذَف خصوصه عن الاعتبار، ويُنَاطُ بالأعمّ، أو تكون أوصافٌ، فَيُحْذَف بعضها، ويُنَاطُ بالباقي "(10).
وبهذا التعريف يتضح أن ابن السُّبكي يقسِّم " تنقيح المناط " إلى قسمين:
القسم الأول: أن يدلَّ نصٌّ ظاهرٌ على تعليل الحُكْم بوصفٍ، فَيُحْذَف، خصوص ذلك الوصف عن الاعتبار بالاجتهاد، ويُنَاطُ الحُكْم بالمعنى الأعمّ.
ومثاله: قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يقضين حَكَمٌ بين اثنين وهو غضبان "(11).
فإنَّ ذكر الغضب مقروناً بالحُكْم يدل بظاهره على التعليل بالغضب، لكن
(1) ينظر: المحصول (5/ 137).
(2)
ينظر: منهاج الوصول (209).
(3)
ينظر: شرح تنقيح الفصول (398 - 399).
(4)
ينظر: نهاية الوصول (8/ 3381).
(5)
ينظر: التوضيح شرح التنقيح (2/ 174).
(6)
هو: عبيد الله بن مسعود بن محمود المحبوبي البخاري الحنفي، صدر الشريعة الأصغر ابن صدر الشريعة الأكبر، فقيه، أصولي، جدلي، من مؤلفاته: التنقيح وشرحه التوضيح في أصول الفقه (ط)، وشرح الوقاية (ط) في الفقه الحنفي، توفي في بخارى سنة (747 هـ).
ينظر ترجمته في: الفوائد البهية (109)، الأعلام للزركلي (4/ 198).
(7)
ينظر: جمع الجوامع (95).
(8)
ينظر: البحر المحيط (7/ 322).
(9)
ينظر: إرشاد الفحول (2/ 640 - 641).
(10)
جمع الجوامع: (95).
(11)
أخرجه البخاري في " صحيحه "، كتاب الأحكام، باب هل يقضي القاضي أو يفتي وهو غضبان، رقم (1758)، ومسلم في "صحيحه "، كتاب الأقضية، باب كراهة قضاء القاضي وهو غضبان، رقم (1717).
ثبت بالنظر والاجتهاد أنه ليس عِلَّةً لذاته، بل لما يلازمه من التشويش المانع من استيفاء الفكر، فَيُحْذَف خصوص الغضب، ويُنَاطُ النهي بالمعنى الأعمّ، فيشمل النهيُ كلَّ ما يشغل القلب ويمنع من استيفاء النظر، كالجوع والعطش المفرطين (1).
القسم الثاني: أن يدلَّ نصٌّ ظاهرٌ على تعليل الحُكْم بمجموع أوصافٍ بعضها يصلح للتعليل وبعضها لا يصلح، فَيُحْذَف ما لا يصلح للتعليل عن درجة الاعتبار، ويُنَاطُ الحُكْم بالباقي من الأوصاف.
ومثاله: قصة الأعرابي الذي جامع أهله في رمضان، وجاء يضرب صدره وينتف شعره - كما في بعض الروايات - ويقول: هلكت، واقعت أهلي في نهار رمضان، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"أعتق رقبة"(2).
فكونه أعرابياً، وكونه يضرب صدره، وينتف شعره، وكون الموطوءة زوجته، وكونه واقع أهله في ذلك الشهر بعينه، كُلُّها أوصافٌ لا تصلح للعِلِّيَّة فَتُحْذَف عن درجة الاعتبار، ويُنَاطُ الحُكْم بالوصف الباقي الصالح للتعليل، وهو " وقاع مكلَّفٍ في نهار رمضان "، فَيُلْحق بالأعرابي غير الأعرابي، ويُلْحَق به مَنْ جامع في رمضان آخر، ويُلْحَق به من وطِئَ أَمَتَه، ويُلْحَق به الزاني (3).
وبهذا فإن حاصل " تنقيح المناط " بقسميه المذكورين آنفاً عند أصحاب هذا الاتجاه هو الاجتهاد في الحذف والتعيين.
قال المحلِّي (4): " وحاصله - أي: تنقيح المناط - أنه الاجتهاد في الحذف والتعيين "(5).
وهذا ظاهر؛ ففي القسم الأول يُجْتَهَدُ في حذف خصوص الوصف المذكور في النصِّ عن الاعتبار، ويُنَاطُ الحُكْم بالمعنى الأعمّ، وفي القسم
(1) ينظر: الضياء اللامع شرح جمع الجوامع (2/ 381)، نشر البنود (2/ 205)، نثر الورود
(2/ 522 - 523).
(2)
تقدم تخريجه: (48).
(3)
ينظر: تشنيف المسامع (3/ 318 - 319)، الغيث الهامع (3/ 735)، الضياء اللامع شرح جمع الجوامع (2/ 381)، نشر البنود (2/ 207)، نثر الورود (2/ 523).
(4)
هو جلال الدين محمد بن أحمد بن محمد المحلي الشافعي، أصولي، مفسِّر، كان مهيباً صداعاً بالحق، من مؤلفاته: البدر الطالع في حل جمع الجوامع (ط) في أصول الفقه، وشرح الورقات (ط) في أصول الفقه، وصنف كتاباً في التفسير أتمه جلال الدين السيوطي، فسمي " تفسير الجلالين "(ط)، توفي بالقاهرة سنة (864 هـ).
ينظر ترجمته في: شذرات الذهب (9/ 447)، الضوء اللامع (7/ 39)، الأعلام للزركلي (5/ 333).
(5)
شرح المحلي على جمع الجوامع: (2/ 292).
الثاني يُجْتَهَدُ في حذف بعض الأوصاف، وتعيين الباقي من الأوصاف عِلَّةً للحُكْم.
المذهب الثاني: تعريف " تنقيح المناط " على أنه اجتهادٌ في إلغاء الفارق بين الأصل والفرع، فيلزم حينئذٍ اشتراكهما في الحُكْم.
- وقد عرَّفه بذلك البيضاوي، فقال:"تنقيح المناط: بأن يبيِّن إلغاء الفارق"(1).
قال شارحه الإسنوي (2): " هو: أن يبين المُسْتَدِل إلغاء الفارق بين الأصل والفرع، وحينئذٍ فيلزم اشتراكهما في الحُكْم "(3).
- وعرَّفه القرافي بقوله: " هو: إلغاء الفارق، فيشتركان - أي: الاصل والفرع - في الحُكْم "(4).
- وعرَّفه صفي الدين الهندي (5)
بأنه: " إلحاق المسكوت عنه بالمنصوص عليه بإلغاء الفارق "(6).
- وعرَّفه صدر الشريعة الحنفي بقوله: " أن يبين عدم عِلِّيَّة الفارق؛ ليثبت عِلِّيَّه المشترك "(7).
- وعرَّفه الشوكاني بأنه: " إلحاق الفرع بالأصل بإلغاء الفارق "(8).
ومثاله: إلغاء الوصف الفارق بين الأَمَة والعبد في قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أعتق شِرْكاً له في عَبْدٍ، فكان له مالٌ يبلغ ثمن العبد، قوِّم عليه قيمة عدل، فأَعطَى شركاءَه حصَصَهُمْ، وعَتَقَ عليه، وإلا فقد عَتَقَ منه ما عَتَقَ "(9) فهذا النصُّ لا
(1) منهاج الوصول: (209).
(2)
هو: جمال الدين عبدالرحيم بن الحسن بن علي الإسنوي الشافعي، فقيه، أصولي، من علماء العربية، انتهت إليه رياسة الشافعية في القاهرة، من مؤلفاته: نهاية السول شرح منهاج الوصول (ط) في أصول الفقه، والتمهيد في تخريج الفروع على الأصول (ط)، وطبقات الفقهاء الشافعية (ط)، توفي بالقاهرة سنة (772 هـ).
ينظر ترجمته في: طبقات الفقهاء الشافعية لابن شهبة (2/ 171)، شذرات الذهب (6/ 223)، الأعلام للزركلي (3/ 344).
(3)
نهاية السول: (4/ 139).
(4)
شرح تنقيح الفصول: (398).
(5)
هو: صفي الدين محمد بن عبدالرحيم بن محمد الأرموي الهندي، ولد بالهند واستوطن دمشق، فقيه، أصولي، جدلي، من مؤلفاته: نهاية الوصول إلى علم الأصول (ط)، والفائق في أصول الفقه (ط) توفي بدمشق سنة (715 هـ).
ينظر ترجمته في: طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي (9/ 162)، طبقات الشافعية للإسنوي (2/ 354)، الأعلام للزركي (6/ 200).
(6)
نهاية الوصول: (8/ 3381).
(7)
التوضيح شرح التنقيح: (2/ 174).
(8)
إرشاد الفحول: (2/ 641)
(9)
أخرجه البخاري في " صحيحه "، كتاب العتق، باب إذا أعتق عبداً بين اثنين أو أَمَةً بين الشركاء، رقم (2522)، وأخرجه مسلم في " صحيحه "، كتاب العتق، رقم (1501).