الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المعاملات المدنيّة، كتعارفهم في الأنكحة تعجيلَ جانبٍ معيَّنٍ من مهور النساء كالنصف أو الثلثين، وتأجيل الباقي إلى ما بعد الوفاة أو الطلاق (1).
والأَوْلى أن يزاد في التعريف مايعيِّن العُرفَ المُعْتَبر شرعاً، وهو العُرف الذي لم يثبت في الشرع مايبطله، أو يتعارض معه، كأن يجري عُرف أغلب الناس في بلدٍ أو طائفةٍ منهم على التعامل بالرِّبا، فهذا عُرفٌ باطلٌ غير مُعْتَبر؛ لأنه يصادم نصوص الشرع الذي ثبت فيها تحريم التعامل بالرِّبا (2)، وعلى هذا يمكن أن يقال:
العُرف اصطلاحاً هو: عادة جمهور قومٍ من قولٍ أو فعلٍ لم يَرِدْ في الشرع ما يصادمه.
المطلب الثاني: حُجِّيَّة العُرف
.
العُرف حُجَّةٌ مُعْتَبرةٌ في الأحكام الشرعيَّة التي وردت مطلقةً في الشرع، ولم يَرِدْ فيها تحديدٌ أو تقدير، أو أحال الشارع الاجتهاد فيها إلى تحكيم العُرْف.
وقد ذهب إلى أصل العمل بذلك عامّة المذاهب الأربعة ، وإن اختلفوا في بعض آحاد الصور والحوادث.
قال القرافي: "أما العُرْف فمشتركٌ بين المذاهب، ومن استقرأها وجدهم يصرّحون بذلك فيها"(3).
ولمَّا أورد الطوفي نصَّ القرافي السابق تعقبه تأييداً فقال: " هذا كما يقول
(1) ينظر: نشر العَرْف (2/ 114 - 115) ضمن رسائل ابن عابدين، المدخل الفقهي العام لمصطفى الزرقا (2/ 876 - 877).
(2)
ينظر: الموافقات (2/ 488 - 489) ،فتح الباري لابن حجر (9/ 510) ، نشر العَرْف (2/ 116) ضمن رسائل
ابن عابدين، شرح مجلة الأحكام لعلي حيدر (1/ 47) ،المدخل الفقهي العام لمصطفى الزرقا (2/ 902 - 908).
(3)
شرح تنقيح الفصول: (448).
أصحابنا وغيرهم يُرْجع في القبض ، والإحراز، وكلُّ ما لم يَرِد من الشرع تحديدٌ فيه إلى ما يتعارفه الناس بينهم" (1).
ولقد تظافرت أدلة الكتاب والسُّنَّة على اعتبار العُرف حُجَّةً في الأحكام الشرعيَّة حتى بلغت مبلغ القطع في الدلالة على ذلك ، وبناءً على استقراء تلك النصوص المتكاثرة تقررت عند المجتهدين تلكم القاعدة الفقهية الشهيرة "العادة مُحَكَّمة" وما يندرج تحتها من قواعد فرعية (2).
ومحلُّ العمل بالعُرْف: كلُّ ما ورد في الشرع مطلقاً، وليس له حدٌّ في الشرع، ولا في اللغة، فإنه حينئذٍ يُرْجَع فيه إلى العُرْف (3).
ومن أهم الأدلة وأقواها وأوضحها في الدلالة على حجية العرف مايأتي:
1 -
قول الله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233]
وتحديد الرزق والكسوة ونوعهما تابعٌ للعُرف؛ لأن الله قد أحال إليه.
قال ابن جرير: " (بالمعروف) بما يجب لمِثْلِها على مِثْلِه، إذ كان الله تعالى ذكْرُه قد علم تفاوت أحوال خلقه بالغنى والفقر، وأنَّ منهم الموسِع والمُقْتِر وبيَّن ذلك، فأمر كلاً أن ينفق على من لزمته نفقته من زوجته وولده على قدر ميسرته"(4).
وإذا كان المعروف هو ما يجب لمِثْلِها على مِثْلِه، فإن المثلية هنا لا تُقَدَّر إلا من طريق العُرْف الغالب في كلِّ مجتمعٍ بحسبه.
قال الجصاص: " قوله تعالى: (بالمعروف) يدل على أن الواجب من النفقة والكسوة هو على قدر حال الرجل في إعساره ويساره; إذ ليس من
(1) شرح مختصر الروضة للطوفي: (3/ 212).
(2)
ينظر: الأشباه والنظائر لابن السبكي (1/ 50) ، المنثور في القواعد (2/ 360) الأشباه والنظائر للسيوطي
(89)
، الأشباه والنظائر لابن نجيم (101)
(3)
ينظر: نهاية السول (2/ 199)، الأشباه والنظائر لابن السبكي (1/ 51)، مجموع الفتاوى لابن تيمية (24/ 40)
الأشباه والنظائرللسيوطي (98)، شرح الكوكب المنير (4/ 452).
(4)
جامع البيان: (4/ 211).
المعروف إلزام المُعْسِر أكثر مما يقدر عليه ويمكنه، ولا إلزام الموسِر الشيءَ الطفيف، ويدل أيضاً على أنها على مقدار الكفاية مع اعتبار حال الزوج، وقد بيَّن ذلك بقوله عقيب ذلك:{لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 233]، فإذا اشتطت المرأة وطلبت من النفقة أكثر من المعتاد المتعارف لمثلها لم تُعط، وكذلك إذا قصّر الزوج عن مقدار نفقة مثلها في العُرف والعادة لم يَحِلّ ذلك، وأُجبِر على نفقة مثلها" (1).
2 -
قوله تعالى {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89].
فالله تعالى لم يقدِّر الوسط الواجب في كفارة الأيمان، بل إنه أطلقه، وأرجعه في ذلك إلى عُرف الناس، والناس متفاوتون في طعامهم بحسب تفاوت بلدانهم، فكلُّ بلدٍ لها طعامٌ خاص، بل إن البلد الواحد طعامهم متفاوتٌ حسب غناهم وفقرهم، فما اعتُبِر في عرف الناس أنه وسطٌ فهو الواجب، فدلَّ ذلك على أن العُرف مُعْتَبَر في الأحكام الشرعيَّة المطلقة التي لم يَرِدْ فيها تحديدٌ أو تقدير.
قال ابن تيمية: " فأمر الله تعالى بإطعام المساكين من أوسط ما يطعم الناس أهليهم، وقد تنازع العلماء في ذلك: هل ذلك مقدَّرٌ بالشرع أو يُرجَع فيه إلى العُرف .. والراجح في هذا كلِّه أن يُرجَع فيه إلى العُرف فيطعِم كلُّ قومٍ مما يطعمون أهليهم"(2).
3 -
حديث هند بنت عتبة، فيما روته عائشة رضي الله عنها:"أن هنداً بنت عتبة قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجلٌ شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم، فقال: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف"(3).
قال ابن قدامة: " فيه دلالةٌ على وجوب النفقة لها على زوجها، وأن ذلك مقدَّرٌ بكفايتها، وأن نفقة ولده عليه دونها مقدَّرٌ بكفايتهم، وأن ذلك
(1) أحكام القرآن: (1/ 489).
(2)
مجموع الفتاوى: (26/ 114).
(3)
سبق تخريجه: (267).
بالمعروف، وأن لها أن تأخذ ذلك بنفسها من غير عِلْمِه إذا لم يعطها إياه" (1).
فالرسول الله صلى الله عليه وسلم ردَّها إلى المعروف، وهو ما عُرِف أنه يكفيها من الطعام وغيره ، وذلك بحسب العادة المعهودة التي تختلف باختلاف الأحوال والأشخاص والازمنة والأمكنة.
قال ابن تيمية: "والصواب المقطوع به عند جمهور العلماء أن نفقة الزوجة مرجعها إلى العُرف وليست مقدَّرةً بالشرع؛ بل تختلف باختلاف أحوال البلاد والأزمنة وحال الزوجين وعادتهما"(2).
وقال ابن العربي في تقدير الإنفاق: "قد بيَّنا أنه ليس له تقديرٌ شرعي، وإنما أحاله الله سبحانه على العادة، وهي دليلٌ أصوليٌّ بنى الله عليه الأحكام، وربط به الحلال والحرام، وقد أحاله الله على العادة فيه في الكفَّارة، فقال:{إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] وقال جلَّ شأنه: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4].
وقال ابن القيم: " والله ورسوله ذكرا الإنفاق مطلقاً من غير تحديدٍ ولا تقديرٍ ولا تقييد، فوجب ردُّه إلى العُرْف لو لم يردُّه إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف وهو الذي ردَّ ذلك إلى العُرْف، وأرشد أُمَّتَه إليه؟ "(3).
وهذا الحديث فيه تصريحٌ ودلالةٌ على اعتبار العُرف فيما جاء من الأحكام الشرعيَّة مطلقاً ولم يحُدَدَّ مقداره أو نوعه.
وقد ذكر النووي من فوائد هذا الحديث: "اعتماد العُرف في الأمور التي ليس فيها تحديدٌ شرعي"(4).
وقال ابن حجر: " وفيه اعتماد العُرف في الأمور التي لا تحديد فيها من قِبَل الشرع"(5).
(1) المغني: (11/ 348).
(2)
مجموع الفتاوى: (34/ 83).
(3)
زاد المعاد: (5/ 439).
(4)
شرح صحيح مسلم: (12/ 8).
(5)
فتح الباري: (9/ 510).