الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع
مراعاة اختلاف مقاصد المكلَّفين
إنَّ الاجتهاد في تحقيق مناطات الأحكام على أقوال المكلَّفين وأفعالهم يستلزم من المجتهد مراعاةً اختلاف مقاصد المكلَّفين من تلك التصرفات؛ لأنَّ إجراء الأحكام على أفعال المكلَّفين وأقوالهم يختلف باختلاف قصد كلِّ مكلَّفٍ من إيقاع ذلك الفعل أو التلفُظ بذلك القول، وقد تتفق الأعمال في الصورة الظاهرة إلا أنها تتميَّز أحكامها بحسب مقاصد أصحابها.
قال ابن القيم: " وقد تظاهرت أدلة الشرع وقواعده على أن القصود في العقود معتبرة، وأنها تؤثر في صحة العقد وفساده، وفي حِلِّة وحرمته، بل أبلغ من ذلك، وهي أنها تؤثر في الفعل الذي ليس بعقدٍ تحليلاً وتحريماً، فيصير حلالاً تارةً وحراماً تارةً باختلاف النيَّة والقصد، كما يصير صحيحاً تارةً وفاسداً تارةً باختلافها .. "(1).
ثم أورد أمثلةً كثيرةً على اختلاف الأحكام باختلاف النيَّات والمقاصد رغم أن صورة الفعل واحدة، ومنها (2):
- الحيوان يَحِلُّ إذا ذُبِح لأجل الأكل، ويَحْرُم إذا ذُبِح لغير الله.
- غير المُحْرِم يصيد الصيد للمُحْرِم فيحْرُم عليه، ويصيده للحلال فلا يَحْرُم على المُحْرِم.
- عَصْرُ العنب بنيَّة أن يكون خمراً معصية، وعصره بنيَّة أن يكون خَلاًّ جائز.
(1) إعلام الموقعين: (4/ 52).
(2)
ينظر: إعلام الموقعين (4/ 520 - 521).
- قوله لزوجته: "أنت عندي مثل أُمِّي" ينوي الطلاق فيكون ما نواه، وينوي به الظِهار فتحرم عليه، وينوي بها أنها في المنزلة والكرامة كأُمِّه فلا تحرم عليه.
والأمثلة على تقرير هذا المعنى تفوق الحصر، وهي تشمل العبادات والمعاملات والعادات.
قال ابن القيم: "وقاعدة الشريعة التي لا يجوز هدمها أن المقاصد والاعتقادات مُعتَبرةٌ في التصرُّفات والعبارات كما هي مُعتَبرةٌ في التقرُّبات والعبادات، فالقصد والنيَّة والاعتقاد يجعل الشيء حلالاً أو حراماً، وصحيحاً أو فاسداً، وطاعةً أو معصية، كما أن القصد في العبادة يجعلها واجبةً أو مستحبةً أو محُرَّمَةً أو صحيحةً أو فاسدةً"(1).
وقد بنى الفقهاء على هذا الأصل القاعدة الشهيرة: "الأمور بمقاصدها"(2).
فمقاصد المكلَّفين تُمَيِّز بين ما هو عادةٌ وماهو عبادة، وفي العبادات تميِّز بين ما هو واجبٌ وغيرُ واجب، وفي العادات تميِّز بين الواجب والمندوب والمباح والمكروه والمحرَّم والصحيح والفاسد، والعمل الواحد يُقْصَد به أمرٌ فيكون عبادة، ويُقْصَد به شيءٌ آخر فلا يكون كذلك، بل يُقْصَد به شيءٌ فيكون إيماناً، ويُقْصَد به شيءٌ آخر فيكون كُفْراً، كالسجود لله أو للصنم (3).
كما أن من أجلِّ تطبيقات هذا الأصل قاعدة: "إبطال الحيل"(4)؛ لأن قصد المكلَّف من الفعل يجب أن يكون موافقاً لقصد الشارع، وكلُّ مَنْ قصد غيرَ ما وُضِعت له الأحكام في الشرع فعمله باطل.
(1) إعلام الموقعين: (4/ 499 - 500).
(2)
ينظر: المجموع المذهب للعلائي (1/ 35)، الأشباه والنظائر للسيوطي (1/ 49)، غمز عيون البصائر (1/ 177)، درر الحكام في شرح مجلة الأحكام (1/ 4).
(3)
ينظر: الموافقات (3/ 8 - 9).
(4)
ينظر: إبطال الحيل لابن بطة (112 - 125)، بيان الدليل على بطلان التحليل لابن تيمية (32 - 284)، إعلام الموقعين (5/ 66 - 112)، إغاثة اللهفان لابن القيم (1/ 356 - 392)، الموافقات (3/ 109 - 119).
قال الشاطبي: "قصد الشارع من المكلَّف أن يكون قصده في العمل موافقاً لقصد الله في التشريع، والدليل على ذلك ظاهرٌ من وضع الشريعة، إذ قد مرَّ أنها موضوعةٌ لمصالح العباد على الإطلاق والعموم، والمطلوب من المكلَّف أن يجري على ذلك في أفعاله، وأن لا يقصد خلاف ما قصد الشارع"(1).
و"كلُّ من ابتغى في تكاليف الشريعة غير ما شُرِعت له فقد ناقض الشريعة، وكلُّ من ناقضها فعملُه في المناقضة باطل، فمن ابتغى في التكاليف ما لم تُشْرَع له فعملُه باطل"(2)؛ وذلك لأنَّ "المشروعات إنما وُضِعَت لتحصيل المصالح ودرء المفاسد، فإذا خولِفت لم يكن في تلك الأفعال التي خولِفت بها جلب مصلحةٍ ولا درء مفسدة"(3).
والتحُّيل هو: تقديم عملٍ ظاهر الجواز لإبطال حُكْمٍ شرعيٍّ، وتحويله في الظاهر إلى حُكْمٍ آخر (4).
فالمتحِّيل في فعله يرتكب محظورين (5):
الأول: أنه يقلب أحكام الأفعال ظاهراً، فيجعل الفعل المحرَّم في ظاهر الأمر جائزاً.
والثاني: أنه يهدم مقاصد الشرع من وضع تلك الأحكام، وذلك بجعل الأفعال التي قصد بها الشرع تحقيقَ المصلحة ودرءَ المفسدة وسائلَ إلى قلب تلك الأحكام.
وقد استدلَّ ابن تيمية على إبطال الحيل من أربعة وعشرين وجهاً (6)، وأوصل ابن القيم أدلتها إلى تسعةٍ وتسعين دليلاً (7).
(1) الموافقات: (5/ 23 - 24).
(2)
المرجع السابق: (3/ 27 - 28).
(3)
المرجع السابق: (3/ 28).
(4)
المرجع السابق: (5/ 187).
(5)
المرجع السابق: (3/ 106).
(6)
ينظر: بيان الدليل على بطلان التحليل (34 - 283).
(7)
ينظر: إعلام الموقعين (5/ 66 - 112)، إغاثة اللهفان (1/ 355 - 366).
وأقوى الحجج وآكدها: إجماع الصحابة رضي الله عنهم على تحريم الحيل وإبطالها، وإجماعهم على ذلك حُجَّةٌ قاطعة (1).
ومن الأمثلة على ذلك:
- إبطال حيلة إسقاط الزكاة ببيع ما في اليد من النصاب قبل حلول الحول ثم استرداده بعد ذلك (2).
- تحريم بيع العينة، وهو أن يشتري سلعةً بثمنٍ مؤجَّلٍ ثم يبيعها إليه بثمن حالٍّ أقلَّ منه، فالبيع - هنا - صوري؛ إذا المقصود هو النقود وليس السلعة (3).
- إبطال نكاح المحلِّل؛ إذ مقصوده من إجراء عقد النكاح تحليل المرأة لزوجها الأول الذي طلَّقها طلاقاً بائناً، ولم يُقْصَد منه نكاح المرأة في الأصل لذاتها، وإنما اتخذ النكاح حيلةً ليطلقها بعد ذلك ثم ينكحها زوجها الأول (4).
ولا يفتأ أهل المكر والحيل المحُرَّمَة يُخْرِجون الباطل في القوالب المشروعة، ويأتون بصور العقود دون حقائقها ومقاصدها، ولاسيما في العصور المتأخرة التي تفشَّى فيها الغشُّ والخداع وضعفت فيها الديانة؛ لذا لابدَّ أن يكون المجتهد حَذِرَاً فَطِنَاً في تصرُّفات الناس، عالماً بأساليب خداعهم ومكرهم (5).
وحاصل القول أن الاجتهاد في تحقيق مناطات الأحكام على أفعال المكلَّفين وأقوالهم يستلزم النظر في مقاصدهم من تلك التصرفات؛ لأن الأحكام تختلف بحسب اختلاف نياتهم ومقاصدهم في الأقوال والأفعال الصادرة عنهم.
(1) ينظر: بيان الدليل على بطلان التحليل (240)، إعلام الموقعين (5/ 90)، الموافقات (3/ 119).
(2)
ينظر: إعلام الموقعين (5/ 195)، الموافقات (3/ 121 - 122).
(3)
ينظر: بيان الدليل على بطلان التحليل لابن تيمية (69 - 71)، إعلام الموقعين (5/ 79 - 86)، إغاثة اللهفان لابن القيم (1/ 367 - 368).
(4)
ينظر: بيان الدليل على بطلان التحليل (17 وما بعدها)، إغاثة اللهفان لابن القيم (1/ 365 - 366)، إعلام الموقعين (4/ 408 - 412)، الموافقات (3/ 125 - 127).
(5)
ينظر: إعلام الموقعين (6/ 153 - 158).