الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث التاسع
تحديد النَّسْل
التحديد مصدر من (حدد)، والحدّ في اللغة يُطْلَق على عدة معانٍ منها (1):
- الحاجز بين الشيئين لئلا يختلط أحدهما بالآخر أو لئلا يتعدَّى أحدهما على الآخر.
- ومنتهى الشيء ، يقال: حدود الأراضين ، أي: منتهاها.
- والمنع، يقال: حدَدتُ الرجلَ إذا أقمت عليه الحدّ؛ لأنه يمنعه من المعاودة.
قال ابن فارس: "الحاء والدال أصلان: الأول: المنع، والثاني: طرفُ الشيء"(2).
أما النَّسْل فهو: الولد والذُّرِّيَّة (3).
والمراد بـ (تحديد النسل) في الاصطلاح هو: كلُّ ما يتَّبِعُه الزوجان من الوسائل والأسباب التي من شأنها أن تحول دون نشوء الحمل، إما بشكلٍ دائمٍ أو بشكلٍ مؤقت، وإما باختيارٍ منهما أو بإجبارٍ من الدولة (4).
(1) ينظر: الصحاح (2/ 462 - 463) ، معجم مقاييس اللغة (2/ 3 - 4) ،لسان العرب (3/ 140) مادة" ح د د".
(2)
معجم مقاييس اللغة (2/ 3) مادة" ح د د".
(3)
ينظر: الصحاح (5/ 1829) ،لسان العرب (11/ 660) ،تاج العروس (30/ 488) مادة" ن س ل".
(4)
ينظر: موقف الشريعة الإسلامية من تنظيم النسل ، الزين يعقوب الزبير (17) ، تنظيم النسل وموقف الشريعة الإسلامية منه، د. عبدالله الطريقي (17) ،مجلة مجمع الفقه الإسلامي الدولي ، ج 1 / ع 5.
وهذا التعريف يشمل مايمنع الإنجاب مطلقاً ، أو مؤقتاً ، أو يحدِّده بعددٍ معين ، ومن أهم الصور التطبيقية على ذلك مايأتي (1):
- سَنَّ الدولة لقانونٍ يحدِّد عدداً من الأولاد لكلِّ أسرة ، وإجبار الناس على التزام ذلك، وترتيب عقوباتٍ على المخالفين له.
- اتفاق الزوجين على تأجيل الحمل لفترةٍ محدَّدةٍ باستخدام الوسائل المباحة.
- اتفاق الزوجين على منع الحمل بشكلٍ دائمٍ باستخدام الوسائل المباحة.
- إجراء عمليات التعقيم التي تمنع الحمل بشكلٍ دائم.
- إجراء عمليات الإجهاض التي يُتَخلَّص فيها من الحمل.
فإذا كان تحديد النَّسْل كما تقدم بيانه فما حكمه في الشرع الحنيف؟
لقد بحث مجلس المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي هذا الموضوع في دورته الثالثة المنعقدة في مكة المكرمة في الفترة من 23 إلى 30 ربيع الآخر سنة 1400 هـ.
وبعد المناقشة وتبادل الآراء في ذلك قرر المجلس بالإجماع ما يلي:
" لا يجوز تحديد النَّسْل مطلقاً، ولا يجوز منع الحمل إذا كان القصد من ذلك خشية الإملاق. . . أو كان ذلك لأسبابٍ أخرى غير معتبرة شرعاً، أما تعاطي أسباب منع الحمل أو تأخيره في حالاتٍ فرديةٍ لضررٍ محقَّقٍ لكون المرأة لا تلد ولادةً عاديَّةً وتضطر معها إلى إجراء عمليةٍ جراحيةٍ لإخراج الجنين فإنه لا مانع من ذلك شرعاً، وهكذا إذا كان تأخيره لأسبابٍ أخرى شرعيَّة أو صحيةٍ يُقِرُّها طبيبٌ مسلمٌ ثقة، بل قد يتعين منع الحمل في حالة ثبوت الضرر المحقَّق على أُمِّه إذا كان يُخْشى على حياتها منه بتقريرِ مَنْ يُوثَق به من الأطباء المسلمين، أما الدعوة إلى تحديد النَّسْل أو منع الحمل بصفةٍ
(1) ينظر: سياسة ووسائل تحديد النسل ، د. محمد البار (193 - 294).
عامّةٍ فلا تجوز شرعاً، وأشدُّ من ذلك في الإثم والمنع إلزام الشعوب بذلك وفرضه عليها
…
" (1).
كما بحث هذا الموضوع -أيضاً- مجلس مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي ، وذلك في دورته الخامسة بالكويت من 1 - 6 جمادى الأولى 1409 الموافق 10 - 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988 م.
وبعد اطلاعه على البحوث المقدمة في الموضوع، واستماعه للمناقشات التي دارت حوله ، قرَّر ما يلي:
"أولاً: لا يجوز إصدار قانونٍ عامٍّ يَحُدُّ من حرية الزوجين في الإنجاب.
ثانياً: يحرم استئصال القدرة على الإنجاب في الرجل أو المرأة، وهو ما يُعرَف بالإعقام أو التعقيم، ما لم تدع إلى ذلك الضرورة بمعاييرها الشرعية.
ثالثاً: يجوز التحكُّم المؤقت في الإنجاب بقصد المباعدة بين فترات الحمل، أو إيقافه لمدةٍ معينةٍ من الزمان، إذا دعت إليه حاجةٌ معتبَرةٌ شرعاً، بحسب تقدير الزوجين عن تشاورٍ بينهما وتراض، بشرط أن لا يترتَّب على ذلك ضرر، وأن تكون الوسيلة مشروعة، وأن لا يكون فيها عدوانٌ على حملٍ قائم" (2).
ويمكن إبراز أوجه تطبيق الاجتهاد في المناط على هذه المسألة فيما يأتي:
أولاً: من ضوابط الاجتهاد في تحقيق المناط التصوُّر التام لمحل الحُكْم ،وحقيقته ، وعدم الاغترار بالمسمَّيات الخادعة كما تقدَّم (3).
وقد راعى مجلس المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي هذا الضابط في تحقيق مناط تحديد النَّسْل ، وذلك ببيان حقيقته ،
(1) قرارات المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة: (59 - 60).
(2)
قرارات مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الخامسة بالكويت من 1 - 6 جمادى الأولى 1409 الموافق 10 - 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988 م.
(3)
ينظر: (223 - 228).
ومقاصد الدعوة إليه ، وأن باعثها الكيد للمسلمين لتقليل أعدادهم ، ونهب ثرواتهم ، مع تضليل الناس وخداعهم بتسميته "تنظيم النَّسْل".
حيث ورد في قرار المجمع الفقهي الإسلامي ما نصُّه: "فقد نظر مجلس المجمع الفقهي الإسلامي في موضوع تحديد النَّسْل أو ما يُسمَّى تضليلاً بـ (تنظيم النَّسْل)."(1).
وورد في نصِّ القرار أيضاً: "ونظراً إلى أن دعاة القول بتحديد النَّسْل أو منع الحمل فئةٌ تهدف بدعوتها إلى الكيد للمسلمين لتقليل عددهم بصفةٍ عامة، وللأمة العربية المسلمة والشعوب المُستضْعَفَة بصفةٍ خاصة، حتى تكون لهم القدرة على استعمار البلاد واستعباد أهلها والتمتع بثروات البلاد الإسلامية"(2).
كما إن الاستماع إلى آراء الخبراء ومناقشاتهم يكشف عن حقيقة الموضوع، وأصل نشأته، وآثاره المباشرة وغير المباشرة ، وهو مايُعطي تصوُّراً دقيقاً عن محل الحُكْم.
وقد ورد في قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي مايشير إلى الاعتماد على رأي الخبراء في بيان حقيقة الدعوة إلى تحديد النَّسْل وتنظيمه ، والصور الداخلة تحته ، وآثارها على استمرار النوع البشري.
حيث جاء في القرار مانصُّه: " بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع تنظيم النَّسْل، واستماعه للمناقشات التي دارت حوله .. "(3).
ثانياً: من ضوابط الاجتهاد في تحقيق المناط اعتبار مقاصد المكلَّفين كما تقدَّم (4).
(1) قرارات المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة: (59 - 60).
(2)
المرجع السابق.
(3)
قرارات مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الخامسة بالكويت من 1 - 6 جمادى الأولى 1409 الموافق 10 - 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988 م.
(4)
ينظر: (241 - 244).
وقد راعى المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي هذا الضابط أثناء تحقيق مناط التحريم في إحدى صور تحديد النَّسْل ، وهي الصورة التي يُقصَد فيها تحديد النَّسْل خشية الإنفاق.
حيث ورد في القرار ما نصُّه: "ولا يجوز منع الحمل إذا كان القصد من ذلك خشية الإملاق؛ لأن الله تعالى هو الرَّزَّاق ذو القوة المتين، وما من دابةٍ في الأرض إلا على الله رزقها"(1).
كما اعتبر مجلس مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي من الصور التي يجوز فيها منع الحمل مؤقتاً إذا ما كان ذلك بقصد المباعدة بين فترات الحمل ، لاخشيةَ الإنفاق.
حيث ورد في القرار ما نصُّه: " يجوز التحكُّم المؤقَّت في الإنجاب بقصد المباعدة بين فترات الحمل .. "(2).
وقد بُنيَ التفريق بين الحالتين في تحقيق مناط التحريم أو الجواز على قصد المكلَّف الباطن ، فيحرم منع الحمل إذا كان القصد منه تقليل النفقات واتقاء الفقر ، ويجوز منع الحمل مؤقَّتاً إذا كان القصد منه إيجاد فترةٍ محدودةٍ تفصل بين الحملين تَسْتَرِد فيها الحامل صحتها ، وتستكمل الرضاعة فيها لمولودها.
ثالثاً: من ضوابط الاجتهاد في تحقيق المناط الموازنة بين المصالح والمفاسد كما تقدَّم (3).
وقد راعى المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي هذا الضابط أثناء تحقيق مناط المشروعية في بعض صور تحديد النَّسْل التي يجوز أو يجب فيها استخدام وسائل منع الحمل ،أو تأخيره ، لضررٍ محقَّقٍ ، أو راجح ، كأن تكون المرأة لاتلِدُ إلا بعمليةٍ جراحية ، أو كان يغلب على الظنّ
(1) قرارات المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة: (59 - 60).
(2)
قرارات مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الخامسة بالكويت من 1 - 6 جمادى الأولى 1409 الموافق 10 - 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988 م.
(3)
ينظر: (245 - 256).
فوات حياتها إن قُدِّر لها الحمل ، وفي ذلك موازنةٌ وترجيحٌ بين المصالح والمفاسد ، فحفظ حياة الأم يترجّح على طلب الحمل وتكثير النَّسْل في مثل هذه الحالات.
حيث ورد في القرار ما نصُّه: "أما تعاطي أسباب منع الحمل أو تأخيره في حالاتٍ فرديةٍ لضررٍ محقَّقٍ لكون المرأة لا تلِدُ ولادةً عاديةً ، وتضطر معها إلى إجراء عمليةٍ جراحيةٍ لإخراج الجنين ، فإنه لا مانع من ذلك شرعاً، وهكذا إذا كان تأخيره لأسبابٍ أخرى شرعيَّة أو صحيةٍ يُقِرُّها طبيبٌ مسلمٌ ثقة، بل قد يتعين منع الحمل في حالة ثبوت الضرر المحقَّق على أُمِّه إذا كان يُخشَى على حياتها منه (1).
كما اعتبر مجلس مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي حالات الضرورة سبباً من أسباب جواز مايسمَّى ب"التعقيم".
حيث ورد في القرار ما نصُّه: " يحرم استئصال القدرة على الإنجاب في الرجل أو المرأة، وهو ما يعرف بالإعقام أو التعقيم، ما لم تدع إلى ذلك الضرورة بمعاييرها الشرعية"(2).
رابعاً: من وسائل الاجتهاد في تحقيق المناط الاعتماد على قول أهل الخبرة كما تقدَّم (3).
وقد راعى المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي هذا الضابط أثناء تحقيق مناط المشروعية في صور تحديد النَّسْل التي يجوز أو يجب فيها استخدام وسائل منع الحمل أو تأخيره لضررٍ محقَّقٍ أو راجح ، ففي هذه الحالات وغيرها يتحقَّق مناط الجواز أو الوجوب اعتماداً على قول أهل الخبرة ، وهم -هنا- الأطباء المختصّون من المسلمين الثقات.
حيث ورد في القرار ما نصُّه: "وهكذا إذا كان تأخيره لأسبابٍ أخرى
(1) قرارات المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة: (59 - 60).
(2)
قرارات مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الخامسة بالكويت من 1 - 6 جمادى الأولى 1409 الموافق 10 - 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988 م.
(3)
ينظر: (269 - 272).
شرعيَّةٍ أو صحيةٍ يُقِرُّها طبيبٌ مسلمٌ ثقة، بل قد يتعين منع الحمل في حالة ثبوت الضرر المحقَّق على أُمِّه إذا كان يُخشَى على حياتها منه بتقريرِ من يُوثَق به من الأطباء المسلمين" (1).
خامساً: ثبت باستقراء نصوص الشرع أن من أعظم مقاصد النكاح بقاء النوع الإنساني ، والحث على تكثيره.
ومن ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: "تزوجوا الودود الولود؛ فإني مكاثرٌ بكم الأمم"(2).
و" فيه فضيلة كثرة الأولاد؛ لأن بها يحصل ما قصده النبي صلى الله عليه وسلم من المباهاة"(3).
كما أنه " لا ينتظم أمر المعاش حتى يبقى بدنه سالماً ونسله دائماً، ولا يتم كلاهما إلا بأسباب الحفظ لوجودهما وذلك ببقاء النَّسْل."(4).
ومن ذلك أيضاً: نهيُّ الشرع المطهَّر عن التبتُّل والاختصاء، فعن سعد بن أبي وقاص (5) رضي الله عنه قال:"ردَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون (6) التبتَّل ، ولو أذِنَ له لاختصينا"(7).
قال ابن حجر: "والحكمة في منعهم من الاختصاء إرادة تكثير النَّسْل ليستمر جهاد الكفار، وإلا لو أذِنَ في ذلك لأوشك تواردهم عليه فينقطع النَّسْل، فيقل المسلمون بانقطاعه، ويكثر الكفار، فهو خلاف المقصود من البعثة المحمدية"(8).
(1) قرارات المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة: (59 - 60).
(2)
أخرجه أبو داود في "سننه"،كتاب النكاح ، باب في تزويج الولود، رقم (2050)، والنسائي في "سننه"،كتاب النكاح ، باب كراهية تزويج العقيم ،رقم (3227)، وصححه الألباني في إرواء الغليل برقم (1784).
(3)
شرح الطيبي على المشكاة: (6/ 226).
(4)
فيض القدير شرح الجامع الكبير: (3/ 242).
(5)
هو: سعد بن مالك بن أهيب القرشي الزهري، صاحبيٌ جليل، أحد العشرة المبشرين بالجنة، ولي الكوفة
…
في عهد عمر رضي الله عنه، وروى كثيراً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، توفي سنة (56 هـ).
ينظر في ترجمته: الاستيعاب (2/ 18)، أسد الغابة (2/ 290)، الأعلام للزركلي (3/ 87).
(6)
هو: عثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب الجمحي، أبو السائب، صحابي جليل، كان من حكماء العرب في الجاهلية، اسلم بعد ثلاثة عشر رجلاً، وشهد بدراً، وهو أول من مات بالمدينة من المهاجرين، وأول من دفن بالبقيع منهم، توفي سنة (2 هـ).
ينظر في ترجمته: أسد الغابة (3/ 589)، الإصابة (4/ 381)، الأعلام للزركلي (4/ 214).
(7)
أخرجه البخاري في "صحيحه" ، كتاب النكاح، باب مايكره من التبتل والاختصاء، برقم (5073) ومسلم في "صحيحه"،كتاب النكاح ، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤونة واشتغال من عجز عن المؤن بالصوم ،رقم (1402).
(8)
فتح الباري: (9/ 118).
وبناءً على ذلك فقد نصَّ الفقهاء على تحريم استعمال ما يقطع الماء أو يقطع الحَبَل؛ لأن ذلك يقطع النَّسْل من أصله ، وهو مايتعارض مع مقصود الشارع من استمرار النَّسْل وتكثيره (1).
وقد اجتهد مجلس المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في تحقيق هذا المناط الكلي في مسألة تحديد النَّسْل ، ومنع الحمل مطلقاً ، أو فرض ذلك على الشعوب وإلزامهم به.
حيث ورد في القرار ما نصُّه: "نظراً إلى أن الشريعة الإسلامية تحضُّ على تكثير نسل المسلمين وانتشاره، وتعتبر النَّسْل نعمةً كبرى ومِنَّةً عظيمة منَّ الله بها على عباده، وقد تضافرت بذلك النصوص الشرعيَّة من كتاب الله- عز وجل وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، ودلَّت على أن القول بتحديد النَّسْل أو منع الحمل مصادمٌ للفطرة الإنسانية التي فطر اللهُ الناسَ عليها وللشريعة الإسلامية التي ارتضاها الله تعالى للعباده، ونظراً إلى أن دعاة القول بتحديد النَّسْل أو منع الحمل فئةٌ تهدف بدعوتها إلى الكيد للمسلمين لتقليل عددهم بصفةٍ عامة، وللأمة العربية المسلمة والشعوب المستضعَفَة بصفةٍ خاصة، حتى تكون لهم القدرة على استعمار البلاد واستعباد أهلها والتمتع بثروات البلاد الإسلامية، وحيث إن في الأخذ بذلك ضرباً من أعمال الجاهلية وسوء ظنًّ بالله- تعالى- وإضعافاً للكيان الإسلامي المتكوِّن من كثرة اللَّبِنات البشرية وترابطها، لذلك كلِّه فإن المجمع الفقهي الإسلامي يقرر بالإجماع أنه لا يجوز تحديد النَّسْل مطلقاً .. "(2).
كما أوضح القرار أن إلزام الشعوب بذلك يُعْتَبر أشد إثماً ، حيث ورد في القرار ما نصّه:"أما الدعوة إلى تحديد النَّسْل أو منع الحمل بصفةٍ عامةٍ فلا تجوز شرعاً للأسباب المتقدم ذكرها، وأشدُّ من ذلك في الإثم والمنع إلزامُ الشعوب بذلك وفرضه عليها "(3).
(1) ينظر: تحفة المحتاج لابن حجر الهيثمي (8/ 241) ،مواهب الجليل للحطاب (3/ 477) ، منح الجليل شرح مختصر خليل (3/ 361) ،كشاف القناع (1/ 218).
(2)
قرارات المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة: (59 - 60).
(3)
المرجع السابق: (60).
كما إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي ، اجتهد في تحقيق مناط التحريم في صور تحديد النَّسْل التي تتنافى مع مقصود بقاء النوع الإنساني والحث على تكِثير ذلك كإصدار قانونٍ عامًّ يَحُدُّ من حرية الزوجين في الإنجاب، واستئصال القدرة على الإنجاب في الرجل أو المرأة.
حيث ورد في القرار ما نصُّه: " وبناءً على أن من مقاصد الزواج في الشريعة الإسلامية الإنجاب والحفاظ على النوع الإنساني، وأنه لا يجوز إهدار هذا المقصد؛ لأن إهداره يتنافى مع نصوص الشريعة وتوجيهاتها الداعية إلى تكثير النسل والحفاظ عليه والعناية به، باعتبار حفظ النسل أحد الكليات الخمس التي جاءت الشرائع برعايتها .. قرر ما يلي:
أولاً: لا يجوز إصدار قانونٍ عامًّ يَحُدُّ من حرية الزوجين في الإنجاب.
ثانياً: يحرم استئصال القدرة على الإنجاب في الرجل أو المرأة. . ." (1).
سادساً: ثبت في السُّنَّة الصحيحة جواز العَزْل (2) عن المرأة إذا تعلَّق بذلك سببٌ مشروع ،كخشية أن يصير الولد رقيقاً إذا كانت الموطوءة أمَةً ، أو خشية دخول الضرر على الولد المرضَع إذا كانت الموطوءة ترضِعُه (3)، فعن جابرٍ رضي الله عنه قال:"كنا نَعْزِل على عهد النبي صلى لله عليه وسلم والقرآن يَنْزِل"(4).
(1) قرارات مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الخامسة بالكويت من 1 - 6 جمادى الأولى 1409 الموافق 10 - 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988 م.
(2)
العزل: أن يجامِع فإذا قارب الإنزال نزع وأنزل خارج الفرج. ينظر: شرح صحيح مسلم للنووي (10/ 10) ، فتح الباري لابن حجر (9/ 305).
(3)
قال الحافظ ابن حجر: "الفرار من حصول الولد يكون لأسباب، منها: خشية علوق الزوجة الأمَة لئلا يصير الولد رقيقاً ، أو خشية دخول الضرر على الولد المرضَع إذا كانت الموطوءة ترضِعُه ، أو فراراً من كثرة العيال إذا كان الرجل مُقِلَّاً فيرغب عن قلة الولد لئلا يتضرر بتحصيل الكسب ، وكل ذلك لا يغني شيئاً
…
وليس في جميع الصور التي يقع العَزْل بسببها ما يكون العَزْل فيه راجحاً سوى الصورة المتقدمة من عند مسلم في طريق عبد الرحمن بن بشر عن أبي سعيد وهي خشية أن يضر الحمل بالولد المرضَع؛ لأنه مما جُرِّب فضرَّ غالباً".فتح الباري (9/ 307 - 308).
(4)
أخرجه البخاري في "صحيحه" ،كتاب النكاح، باب العزل، رقم (5208) ، ومسلم في "صحيحه"، كتاب النكاح، باب حكم العزل، رقم (1440).
ومناط جواز العَزْل عن الموطوءة هو: استعمال ما يمنع مؤقتاً-لابالكليِّة- من وصول ماء الرجل إلى رحم المرأة دون إلحاق الضرر بهما أو بأحدهما (1).
وقد ذهب إلى جواز العَزْل عن الزوجة بشرط إذنها: جمهور الفقهاء من الحنفية (2)، والمالكية (3)، والشافعية (4)، والحنابلة (5).
واستندوا في ذلك على ما ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُعْزَل عن الحرَّة إلا بإذنها (6).
وذلك لأن الوطء عن إنزالٍ سببٌ لحصول الولد، ولها في الولد حقّ، وبالعزل يفوت الولد، فكأنه سببٌ لفوات حقِّها، فلم يجز إلا بإذنها (7).
وقد اجتهد مجلس المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي في تحقيق مناط جواز العَزْل في الحالات التي يُتعاطَى فيها وسائل تمنع الحمل مؤقتاً ، وذلك باعتبار أنها لاتقطع الحمل بالكليِّة ، فيجوز استعمالها عند الحاجة ، وبتشاورٍ من الزوجين.
حيث ورد في القرار -أثناء ذكر الحالات التي يجوز فيها تعاطي أسباب منع الحمل مؤقتاً - ما نصّه: " .. وهكذا إذا كان تأخيره لأسبابٍ أخرى شرعيَّةٍ أو صحيِّةٍ يُقِرُّها طبيبٌ مسلمٌ ثقة "(8).
(1) ينظر: تحفة المحتاج لابن حجر الهيثمي مع حاشية الشرواني (8/ 241) ،مواهب الجليل للحطاب (3/ 477) ،
منح الجليل شرح مختصر خليل (3/ 361) ،كشاف القناع (1/ 218) ، حاشية ابن عابدين (3/ 176).
(2)
ينظر: بدائع الصنائع للكاساني (2/ 334) ، البحر الرائق شرح كنز الدقائق (3/ 214).
(3)
ينظر: مواهب الجليل للحطاب (3/ 476) ، الشرح الكبير على مختصر خليل للدردير (2/ 266).
(4)
ينظر: روضة الطالبين (7/ 205) ،المهذب للشيرازي (2/ 482).
(5)
ينظر: المغني (10/ 228) ،شرح منتهى الإرادات (5/ 309).
(6)
أخرجه ابن ماجه في "سننه"،كتاب النكاح، باب العزل، رقم (1928) ، وأحمد في "مسنده"(1/ 31) والبيهقي في السنن الكبرى (7/ 231).
(7)
ينظر: المغني (10/ 230) ، بدائع الصنائع للكاساني (2/ 334).
(8)
قرارات المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة: (60).
وذلك بناءً على أنها وسائل تؤخِّر الحمل إلى فترةٍ مؤقتةٍ لحاجة ، وليس من وظيفتها قطع الحمل بالكليِّة.
كما ورد في قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي ما نصّه: " يجوز التحكُّم المؤقت في الإنجاب بقصد المباعدة بين فترات الحمل، أو إيقافه لمدةٍ معينةٍ من الزمان، إذا دعت إليه حاجةٌ معتبَرةٌ شرعاً، بحسب تقدير الزوجين عن تشاورٍ بينهما وتراض، بشرط أن لا يترتَّب على ذلك ضرر، وأن تكون الوسيلة مشروعة، وأن لا يكون فيها عدوانٌ على حملٍ قائم"(1).
(1) قرارات مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الخامسة بالكويت من 1 - 6 جمادى الأولى 1409 الموافق 10 - 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988 م.