الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول
علاقة الاجتهاد في المناط بالاستصحاب
سأتناول في هذا المبحث بيان علاقة الاجتهاد في المناط بالاستصحاب ، وذلك من خلال ثلاثة مطالب ، وهي على النحو الآتي:
المطلب الأول: تعريف الاستصحاب لغةً واصطلاحاً
.
الاستصحاب لغةً: طلب الصحبة ، أو المصاحبة.
يقال: استصحب الكتاب وغيره ، أي: حمله ،ولازمه، ولم يفارقه، وكلُّ شيئٍ لازَمَ شيئاً فقد استصحبه (1).
قال ابن فارس: " الصَّاد والحاء والباء أصلٌ واحدٌ يدلُّ على مقارنة شيءٍ ومقاربته "(2).
والاستصحاب اصطلاحاً هو: ثبوت أمرٍ في الزمن الثاني لثبوته في الأول؛ لانتفاء ما يصلح أن يتغيَّر به الحُكْم من الأول إلى الثاني بعد البحث التام (3).
(1) ينظر: الصحاح (1/ 161 - 162) ، لسان العرب (1/ 519 - 520) ، تاج العروس (3/ 185 - 186)
" مادة: ص ح ب".
(2)
معجم مقاييس اللغة: (3/ 335)" مادة: ص ح ب".
(3)
ينظر: جمع الجوامع لابن السبكي (108) ، الإبهاج (3/ 173) ، رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب (4/ 504) ، شرح المحلي على جمع الجوامع مع حاشية البناني (2/ 350) ، حاشية العطار على شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 391).
وعرَّفه ابن القيم بأنه: " إستدامة إثبات ما كان ثابتاً أو نفي ما كان منفياً"(1).
وله تعريفاتٌ أخرى متقارِبةٌ في ألفاظها ومعانيها (2).
وينقسم الاستصحاب إلى خمسة أقسام ، وهي:
الأول: استصحاب البراءة الأصلية.
وقد يُطْلَق عليه مُسمَّى: "استصحاب العدم الأصلي"،أو " استصحاب براءة الذمة"(3)، وهو: ما دلَّ العقل على نفيه ولم يثبته الشرع بالدليل السمعي، مثل نفي وجوب صوم رجب ، ونفي العقل له - هنا - مأخوذٌ من بقائه على عدمه الأصلي إلى أن يَرِدَ الدليل السمعي الناقل عنه ، وليس المقصود أن يحكم فيه العقل بالنفي استقلالاً (4).
الثاني: استصحاب الوصف المُثْبِت للحُكْم الشرعي حتى يثبت خلافه.
وقد يُطْلَق عليه أيضاً: " استصحاب الحُكْم الماضي لوجود سببه" ، أو
…
" استصحاب حُكْمٍ دلَّ الشرع على ثبوته ودوامه" ، فكلُّ حُكْم شرعيٍّ ترتَّب على سببه الذي ربطه الشارع به ، فالأصل استمراره وعدم انتفائه، إلا إذا انتفى السبب الذي ترتَّب عليه ذلك الحكم (5).
(1) إعلام الموقعين: (3/ 100).
(2)
ينظر: المستصفى (2/ 410 - 411) ، شرح تنقيح الفصول للقرافي (351) ، نهاية السول (4/ 358) ، شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 284) ، البحر المحيط للزركشي (6/ 17) ، شرح الكوكب المنير (4/ 403) ، تيسير التحرير (4/ 176) إرشاد الفحول (2/ 974).
(3)
ينظر: العدة (4/ 1262) ، الإبهاج (3/ 168) ، نهاية الوصول (8/ 3955) ، البحر المحيط للزركشي (6/ 20) ، شرح المحلي على جمع الجوامع مع حاشية البناني (2/ 348) ، شرح الكوكب المنير (4/ 404).
(4)
ينظر: شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 348) ، شرح الكوكب المنير (4/ 404 - 405) ، حاشية العطار على شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 388).
(5)
ينظر: المستصفى (2/ 409) ، الإبهاج (3/ 169) ، نهاية الوصول لصفي الدين الهندي (8/ 3955) ، البحر المحيط للزركشي (6/ 20) ، شرح المحلي على جمع الجوامع مع حاشية البناني (2/ 348 - 349) ، شرح الكوكب المنير (4/ 405) ، إرشاد الفحول (2/ 976).
ومثاله: استصحاب دوام النكاح بين زوجين بسبب عقدٍ صحيحٍ بينهما، فيُحْكَم حينئذٍ باستمراره حتى يثبت خلاف ذلك (1).
الثالث: استصحاب العموم حتى يَرِدَ المُخصِّص ، واستصحاب النصِّ حتى يَرِدَ الناسخ.
فإذا ورد نصٌّ عامٌّ فإنه يشمل جميع الأفراد الداخلة تحته ، وإذا وقع النزاع في بعض أفراده هل يدخل تحت العموم أو هو مخصوص؟ وبحث المجتهد فلم يجد المُخصِّص ، فإن الأصل استصحاب حُكْم العام في المُتنازَع فيه حتى يثبت بالدليل تخصيصه (2).
قال الزركشي: " فهذا أمرُه معمولٌ به بالإجماع"(3).
ومثاله: وجوب قطع يد الزوج إذا سرق مال زوجته؛ استصحاباً للعموم الوارد في قوله تعالى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] فالعموم يقتضي وجوب القطع في كلِّ ما يُسمَّى آخذه سارقاً (4).
وكذا كلُّ حُكْم ثبت بدليله الشرعي ، فإنه يدلُّ على دوام ذلك الحُكْم واستمراره ، مالم يَرِد دليلٌ آخر يُثْبِتُ نسخَه.
قال السمرقندي: " استصحاب الحُكْم الثابت بظاهر العموم واجبٌ مع احتمال الخصوص ، وكذا استصحاب الحُكْم الثابت بمُطْلَق النصِّ الخاصِّ واجبٌ مع احتمال المجاز والنسخ؛ وذلك لما قلنا من أن الحُكْم متى ثبت شرعاً فالظاهر بقاؤه "(5).
وهذا القسم اعتبره جمهور الأصوليين من "الاستصحاب"(6).
(1) ينظر: إعلام الموقعين (3/ 100 - 101) ، البحر المحيط للزركشي (6/ 20).
(2)
ينظر: المستصفى (2/ 409) ، الإبهاج (3/ 169) ، نهاية الوصول لصفي الدين الهندي (8/ 3955) ، البحر المحيط للزركشي (6/ 21) ، شرح المحلي على جمع الجوامع مع حاشية البناني (2/ 348) ، شرح الكوكب المنير (4/ 404) ، إرشاد الفحول (2/ 977).
(3)
البحر المحيط للزركشي: (6/ 21).
(4)
ينظر: تخريج الفروع على الأصول للزنجاني (349 - 350)
(5)
ميزان الأصول: (661).
(6)
ينظر: البحر المحيط (6/ 21) ، إرشاد الفحول (2/ 977).
وذهب الجويني (1) ، وابن السمعاني (2) ، إلى عدم اعتباره من" الاستصحاب"؛ لأن الحُكْم ثبت فيه من جهة اللفظ في العموم ، أو من جهة النصِّ في المُحْكَم ، لا من جهة الاستصحاب (3).
قال ابن السمعاني: "ولا يجوز أن يُسمَّى هذا استصحاب الحال؛ لأنَّ لفظ العموم دلَّ على استغراقه جميعَ ما يتناوله اللفظ في أصل الوضع في الأعيان وفى الأزمان، فأيُّ عينٍ وُجِدت ثَبَتَ الحُكْم فيها، وأيُّ زمانٍ وُجِد ثَبَتَ الحُكْم فيه، بكون اللفظ دالَّاً عليه، ويتناوله بعمومه، فيكون ثبوت الحُكْم في هذه الصورة من ناحية العموم ،لا من ناحية استصحاب الحال"(4).
والذي يظهر أن المسألة لفظيَّةٌ اصطلاحيَّةٌ لا يترتَّب عليها حُكْمٌ كما أشار إلى ذلك الجويني بقوله: " فهذه مناقشةٌ لفظيَّةٌ؛ فإنه ثبت بالدليل القاطع قيام الدليل إلى يوم نسخه ، فإن سَمَّى مسمٍّ هذا استصحاباً لم يُناقَش في لفظ ، وليس مقصود الفصل منه بسبيل "(5).
الرابع: استصحاب حُكْم الإجماع في محلِّ النزاع.
وهو: أن يُتَّفَق على حُكْم شرعيٍّ في حاله، ثم تتغير صفة المُجْمَع عليه، فيختلفون فيه، فيستدلُّ من لم يتغيَّر عنده الحُكْم باستصحاب الحال (6).
ومثاله: إذا استدلَّ من يقول إن المتيمم إذا رأى الماء في أثناء صلاته لا تبطل صلاته؛ لأن الإجماع منعقدٌ على صحتها قبل ذلك، فاستصحب إلى أن يدلَّ دليلٌ على أن رؤية الماء مُبْطِلة (7).
(1) البرهان: (2/ 1135 - 1136).
(2)
قواطع الأدلة: (3/ 366 - 367).
(3)
ينظر: البحر المحيط (6/ 21) ، إرشاد الفحول (2/ 977).
(4)
قواطع الأدلة: (3/ 366 - 367).
(5)
البرهان: (2/ 1136).
(6)
ينظر: العدة (4/ 1265) ، الإبهاج (3/ 169) ، البحر المحيط للزركشي (6/ 21) ،إرشاد الفحول (2/ 977 - 978).
(7)
ينظر: العدة (4/ 1265 - 1266) ،إعلام الموقعين (3/ 104) ، البحر المحيط للزركشي (6/ 21 - 22) ، إرشاد الفحول (2/ 978).