الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فالمِثْلُ وَرَدَ في الشرع مطلقاً، والمطلوب من المجتهد تعيين أنواعه، فإذا قيل: الكبش مثلاً للضبع، والعنز مثلاً للغزال، والعَنَاق (1) مثلاً للأرنب، فهذا من تحقيق المناط في الأنواع، حيث اعتبر مناط المثلية جنساً، ثم أُثْبِتَ هذا المناط في بعض أنواعه الداخلة تحته دون النظر إلى أشخاصٍ معينة (2).
فهذا القسم يتعلق النظر فيه بالاجتهاد في إرجاع كلِّ نوعٍ إلى جنسه ليشمله حكمه، حتى لا يبقى نوعٌ من الأنواع إلا ويتحقق مناطه بإدراجه تحت جنسٍ معين، ولا يتعلق النظر فيه بالاجتهاد في أشخاصٍ معينة.
القسم الثاني: تحقيق المناط في الأشخاص أو الأعيان
.
ومن خلال تأمل الأمثلة التي أوردها الشاطبي (3) يمكن بيان أن المراد به: إثبات مُتَعَلَّق الحُكْم - أي: مناطه - في أشخاصٍ معينة.
وهو نوعان:
النوع الأول: تحقيقٌ عام، وهو: إثبات مُتَعَلَّق الحُكْم من حيث هو في مكلَّفٍ ما من غير التفاتٍ إلى شيءٍ غير القبول المشروع بالتهيئة الظاهرة (4).
وقد أوضح الشاطبي هذا المعنى بقوله: " وذلك أن الأول - أي: تحقيق المناط العام - نظرٌ في تعيين المناط من حيث هو لمكلَّفٍ ما؛ فإذا نظر المجتهد في العدالة مثلاً، ووجد هذا الشخص متصفاً بها على حسب ما ظهر له، أوقع عليه ما يقتضيه النصُّ من التكاليف المنوطة بالعدول من الشهادات، والانتصاب للولايات العامة أو الخاصة "(5).
وهذا المعنى مبنيٌّ على أن الأصل في الأحكام أن تُنَزَّل على أفعال
(1) العَنَاق: الأنثى من أولاد المعز.
ينظر: لسان العرب (10/ 274)، تاج العروس (26/ 216) مادة:" ع ن ق ".
(2)
ينظر: الموافقات (5/ 17).
(3)
ينظر: الموافقات (5/ 23).
(4)
ينظر: المرجع السابق (5/ 23).
(5)
المرجع السابق: (5/ 23).
المكلَّفين باعتبارها مطلقةً من كلِّ قيدٍ، فإذا تحقق المجتهد من وجود مناط الحُكْم في المكلَّفين والمُخَاطَبين على الجملة أوقع عليهم أحكامَ تلك النصوص من غير التفاتٍ إلى شيءٍ غير القبول المشروط بالتهيئة الظاهرة، فالمكلَّفون كلهم في أحكام النصوص على سواءٍ في هذا النظر (1).
النوع الثاني: تحقيقٌ خاص، وهو: إثبات مُتَعَلَّق الحُكْم في مكلَّفٍ ما بالنظر إلى ما وقع عليه من الدلائل التكليفية، أو بالنظر إلى ما يصلحه في نفسه بحسب وقتٍ دون وقت، وحالٍ دون حالٍ، وشخصٍ دون شخص (2).
وكما يتضح من التعريف أن هذا النوع له صورتان:
الصورة الأولى: إثبات مُتَعَلَّق الحُكْم في مكلفٍ ما بالنظر إلى ما وقع عليه من الدلائل التكليفية، بحيث يُتَعَرَّف منه مداخل الشيطان، ومداخل الهوى، والحظوظ العاجلة، حتى يلقيها المجتهد على ذلك المكلَّف مقيَّدةً بقيود التحرُّز من تلك المداخل (3).
وهذه الصورة تشمل مُطْلَق التكليفات الشرعيَّة، وهو ما عبَّر عنه الشاطبي بقوله:" هذا بالنسبة إلى التكليف المنحتم وغيره "(4).
ويعني بذلك: أن هذه الصورة من تحقيق المناط الخاص تشمل ما طلب الشارع فعله أو تركه طلباً جازماً أو غير جازم، فكلُّ المطلوبات الشرعيَّة اللازمة وغيرها يدخله العُجْبُ به، والرياء، والسمعة، والاعتماد على العمل، وهكذا من تحميل النفس فيهما ما لا قدرة لها عليه، فيدخل بذلك في الضرر أو الحرج، فهذه القيود تخلِّص له العمل من تلك الشوائب (5).
الصورة الثانية: إثبات مُتَعَلَّق الحُكْم في مكلَّفٍ ما بالنظر إلى ما يصلحه
(1) المرجع السابق: (5/ 23).
(2)
ينظر: المرجع السابق (5/ 24 - 25).
(3)
ينظر: المرجع السابق (5/ 24 - 25).
(4)
المرجع السابق: (5/ 25).
(5)
ينظر: تعليقات دراز على الموافقات (5/ 25).
في نفسه بحسب وقتٍ دون وقت، وحالٍ دون حال، وشخصٍ دون شخص (1).
وذلك لأن النفوس ليست في قبول الأعمال الخاصة على وزانٍ واحد، كما أنها في العلوم والصنائع كذلك، فَرُبَّ عملٍ صالحٍ - غير لازم - يدخل بسببه على شخصٍ ضررٌ أو فترة، ولا يكون كذلك بالنسبة إلى آخر، وَرُبَّ عملٍ يكون حظُّ النفس والشيطان فيه بالنسبة إلى العامل أقوى منه في عملٍ آخر، ويكون بريئاً من ذلك في بعض الأعمال دون بعض (2).
ولما كانت النفوس تختلف مقاصدها، وتتفاوت مداركها، وتتباين قوة تحملها للتكاليف، وصبرها على حمل أعبائها أو ضعفها، كان اللائق بالمقصود الشرعي في تلقي التكاليف أن يحمل على كلِّ نفسٍ من أحكام الشرع ما يليق بها ويصلحها (3).
وهذه الصورة من تحقيق المناط الخاص تقتصر على التكاليف الشرعيَّة غير اللازمة، ولهذا صرَّح الشاطبي بأن هذا النوع من النظر يختصُّ بغير المنحتم من التكاليف (4)، وذلك باعتبار أن التكاليف اللازمة إذا وُجِدَ شرطها وانتقى مانعها فإنها لا تختلف باختلاف الأزمنة والأحوال والأشخاص، فالمكلَّفون فيها سواءٌ كما تقدَّم (5).
ومن الأمثلة على ذلك: إذا تحقَّق المجتهد من عدالة مكلَّفٍ ما، فإن هذا لا يكفي في توليته المناصب الشرعيَّة كالقضاء والإمامة والجهاد؛ لأن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص في استعداداتهم العلمية والنفسية والجسدية، وإلا لم يحصل المقصود من تلك الولايات، فلابد أن يتعرف منه على ما يحقق مصالحها على أتمِّ وجه، كما أنه لابدَّ من أن يتعرف على مداخل الشيطان
(1) ينظر: الموافقات (5/ 25).
(2)
ينظر: المرجع السابق (5/ 25).
(3)
ينظر: المرجع السابق (5/ 25).
(4)
ينظر: المرجع السابق (5/ 25).
(5)
ينظر: (204).
والهوى والحظوظ العاجلة، وإلا عادت عليه تلك الولاية بفساد آخرته (1).
ولما كان هذا النوع من تحقيق المناط يتعلق بالنظر إلى كلِّ واقعةٍ بعينها، وكلِّ مكلَّفٍ بخصوصه في حالٍ دون حالٍ ووقتٍ دون وقتٍ، اعتُبِر من أدقِّ أنواع الاجتهاد في الشريعة، وهو ناشئٌ بعد تحصيل شرائطه عن نتيجة التقوى المذكورة في قوله تعالى:{إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29] ومن رُزِق هذا النظر فقد أوتي الحكمة، {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] كما أشار إلى ذلك الشاطبي رحمه الله (2).
وهذا النوع من تحقيق المناط بُنِيَ الاجتهاد فيه على النظر في الأدلة الدالة على الأحكام مع اعتبار التوابع والإضافات الطارئة عليها، حيث إن اقتضاء الأدلة للأحكام بالنسبة إلى محالِّها ينقسم إلى قسمين (3):
القسم الأول: الاقتضاء الأصلي قبل أن تطرأ العوارض، وهو الواقع على المحلِّ مجرَّداً عن التوابع والإضافات، كالحُكْم بإباحة الصيد، والبيع، وسُنَّية النكاح.
والقسم الثاني: الاقتضاء التبعي، وهو الواقع على المحلِّ مع اعتبار التوابع والإضافات، كالحُكْم بإباحة النكاح لمن لا أَرَبَ له في النساء، ووجوبه على مَنْ خشي العَنَت.
فالنظر في تحقيق مناط الأشخاص يتعلق بالنظر إلى مكلَّفٍ بعينه وما يصلحه في نفسه، بحسبٍ وقتٍ دون وقتٍ، وحالٍ دون حال، وهذا مبنيٌّ على النظر إلى الأدلة الدالة على الأحكام مع اعتبار التوابع والإضافات التي طرأت عليها.
(1) ينظر: الموافقات (5/ 25).
(2)
ينظر: الموافقات (5/ 23 - 24).
(3)
ينظر: المرجع السابق (3/ 292).