الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث عشر
رفع أجهزة الإنعاش عن المتوفَّى دماغياً
المراد بالإنعاش الطبي: المعالجة المكثفة التي يقوم بها طبيبٌ أو مجموعةٌ من المختصين لإعادة الوظائف الحيوية في الجسم إلى مباشرة عملها من جديد بعد أن توقفت أو كانت على وشك التوقف (1).
وأهم أجهزة الإنعاش المستخدمة في ذلك: (2)
- المِنْفَسَة ، وهو: جهازٌ يقوم بإدخال الهواء إلى الرئتين وإخراجه منهما مع إمكانية التحكم بنسبة الأكسجين في الهواء الداخل، إضافةً لأشياء أخرى عديدةٍ تساعد في إيصال هذا الغاز للدم، وسحب غاز ثاني أكسيد الفحم منه، فعندما يرى الطبيب مثلاً أن التنفس قد توقف أو أوشك على التوقف فإنه يقوم بإدخال أنبوبةٍ إلى القصبة الهوائية ويوصل ذلك الأنبوب بالمِنْفَسَة.
- أجهزة إنعاش القلب، وهي: مانع الذبذبات، وهذا الجهاز يعطي صدمات كهربائيةٍ لقلبٍ اضطرب نبضه اضطراباً شديداً، وتحول إلى ذبذباتٍ بطينيةٍ لا تدفع الدم من البطين إلى الأورطي (الأبهر) ، وإذا لم تُنْقَذ هذه الحالة فإن القلب يتوقف تمامًا عن العمل، وذلك يعنى توقف تغذية الدماغ، وإذا توقفت تغذية الدماغ وخاصةً جذع الدماغ لمدة دقيقتين فذلك يعني موت الدماغ الذي لا رجعة فيه.
(1) ينظر: الإنعاش الصناعي من الناحية الطبية والإنسانية، أحمد جلال الجوهري، مجلة الحقوق والشريعة، العدد 2 ، السنة 5 ،ص 122،الإنعاش، محمد المختار السلامي، مجلة مجمع الفقه الإسلامي، ع 2، 1/ 481.
(2)
ينظر: أجهزة الإنعاش للدكتور محمد علي البار، مجلة مجمع الفقه الإسلامي، (ع 2/ج 1/ 436 - 438)، الحياة الإنسانية بداياتها ونهاياتها (36).
- جهاز منظِّم ضربات القلب ، وهو: جهازٌ يُصْدِر موجاتٍ كهربائيةٍ تعمل على تنشيط القلب ، ويُسْتخدَم عندما تكون ضربات القلب بطيئةً جداً بحيث إن الدم لا يصل إلى الدماغ بكميةٍ كافية، أو ينقطع لفترة ثوانٍ أو لدقيقةٍ ثم يعود، وذلك يسبب الغشى (الإغماء) وفقدان الوعي المتكرر، أو أن ضربات القلب مضطربةٌ جداً كذلك بحيث إنَّ ضخ الدم من القلب منخفضٌ بدرجةٍ خطيرةٍ تؤدي إلى اضطرابات في الوعي، أو في درجة نشاط ذلك الشخص المُصاب.
وهناك أيضاً مجموعةٌ من العقاقير التي يستخدمها الطبيب لإنعاش التنفس أو القلب أو تنظيم ضرباته تُستخدَم في إنعاش المرضى.
فإذا أصيب شخصٌ بتوقف القلب أو التنفس نتيجةً لإصابة الدماغ بصدمة مثلاً، أو إصابته بأي عرضٍ آخر كغرق ، أو خنق، أو موادٍ سامّة، أو جلطةٍ للقلب، أو اضطرابٍ في النبض .. فإنه يترقب الأمل بإنعاش ما توقف من دقات قلبه أو تنفسه باستخدام الوسائل الحديثة في ذلك.
وتنحصر حينئذٍ أحوال المريض في غرفة الإنعاش في صور ثلاث: (1)
الصورة الأولى: عودة أجهزة المريض لمباشرة وظائفها الحيوية من التنفس، وانتظام ضربات القلب، وحينئذٍ يقرر الطبيب: رفع الجهاز؛ لتحقق السلامة وزوال الخطر.
الصورة الثانية: التوقف التام للقلب والتنفس، وعدم القابلية لوسائل الإنعاش الطبية، وحينئذٍ يقرر الطبيب: موت المريض تمامًا بموت أجهزته من الدماغ والقلب، ومفارقة الحياة لهما، وتُرْفَع أجهزة الإنعاش لتحقق الوفاة.
الصورة الثالثة: قيام علامات موت جذع الدماغ من: الإغماء، وعدم الحركة، وعدم وجود أي نشاطٍ كهربائيٍّ في رسم المخ، لكن بواسطة العناية المركزة واستخدام أجهزة الإنعاش كجهاز التنفس، وجهاز ذبذبات القلب، لا يزال القلب ينبض، والنفس مستمر، وفي حال رفع أجهزة الإنعاش
(1) ينظر: أجهزة الإنعاش وحقيقة الوفاة بين الفقهاء والأطباء للدكتور بكر أبوزيد (1/ 229 - 230) ضمن أبحاث فقه النوازل ، الإنعاش للدكتور محمد المختار السلامي، مجلة مجمع الفقه الإسلامي، ع 2، 1/ 482.
عن المريض يتوقف القلب عن النبض ويتوقف النفس ، وحينئذٍ يقرر الطبيب موت المريض دماغياً.
فإذا قرر الأطباء المختصون في هذه الحالة موت جذع الدماغ الذي هو مركز إمداد القلب: فهل يجوز رفع أجهزة الإنعاش عن ذلك المريض المتوفىَّ دماغياً؟
لقد بحث مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي هذه النازلة في دورته الثالثة بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8 - 13 صفر 1407 هـ.
وبعد الاستماع إلى الأبحاث المقدمة حول الموضوع، والمناقشات التي دارت حوله، قرر مايلي:
"يعتبر شرعاً أن الشخص قد مات وتترتب جميع الأحكام المقررة شرعاً للوفاة عند ذلك إذا تبينت فيه إحدى العلامتين التاليتين:
1 -
إذا توقف قلبه وتنفسه توقفاً تاماً، وحكم الأطباء بأن هذا التوقف لا رجعة فيه.
2 -
إذا تعطلت جميع وظائف دماغه تعطلاً نهائياً، وحكم الأطباء الاختصاصيون الخبراء بأن هذا التعطل لا رجعة فيه، وأخذ دماغه في التحلل.
وفي هذه الحالة يسوغ رفع أجهزة الإنعاش المركبة على الشخص وإن كان بعض الأعضاء، - كالقلب مثلا-، لا يزال يعمل آلياً بفعل الأجهزة المركبة" (1).
كما بحث هذه المسألة - أيضاً- مجلس المجمع الفقهي الإسلامي في دورته العاشرة، المنعقدة بمكة المكرمة في الفترة من يوم السبت 42 صفر 1408 هـ إلى يوم الأربعاء الموافق 28 صفر 1408 هـ.
وبعد المداولة في هذا الموضوع، من جميع جوانبه وملابساته، انتهى المجلس إلى القرار الآتي: "المريض الذي رُكِّبَت على جسمه أجهزة الإنعاش،
(1) مجلة المجمع الفقهي: (العدد الثالث، ج 2 ص 523).
يجوز رفعها، إذا تعطلت جميع وظائف دماغه تعطُّلاً نهائيًّا، وقررت لجنة من ثلاثة أطباء اختصاصيين خبراء، أن التعطل لا رجعة فيه، وإن كان القلب والتنفس لا يزالان يعملان آليًّا، بفعل الأجهزة المركبة، لكن لا يحكم بموته شرعًا إلا إذا توقف التنفس والقلب توقُّفًا تامًّا بعد رفع هذه الأجهزة " (1).
ويمكن إبراز أوجه تطبيق الاجتهاد في المناط على هذه المسألة فيما يأتي:
أولاً: من ضوابط الاجتهاد في تحقيق المناط التصوُّر التام لمحلِّ الحكم، ومعرفة حقيقته، وملابساته المحيطة به ، ومن أهم الوسائل الموصلة إلى ذلك الرجوع إلى أهل الخبرة والاختصاص كما تقدم (2).
وقد راعى مجلس مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي هذا الضابط بالرجوع إلى الأطباء المختصين في التعرُّف على حقيقة موت الدماغ، وأجهزة الإنعاش، ووظيفتها، ووسائلها وما يترتب على استخدامها أو رفعها عن المريض المتوفى دماغياً ، حيث ورد في مستهل القرار ما نصُّه: " إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8 - 13 صفر 1407 هـ، الموافق 11 - 16 تشرين الأول
…
(أكتوبر) 1986 م، بعد تداوله في سائر النواحي التي أثيرت حول موضوع أجهزة الإنعاش واستماعه إلى شرحٍ مستفيضٍ من الأطباء المختصين قرر مايلي".
كما راعى -أيضاً- المجمع الفقهي الإسلامي هذا الضابط ،واستوفى كل مايمكن الاطلاع عليه للتعرف على حقيقة ذلك ، حيث ورد في مستهل القرار ما نصُّه: " فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي، في دورته العاشرة، المنعقدة بمكة المكرمة في الفترة من يوم السبت 42 صفر 1408 هـ الموافق 17 أكتوبر 1987 م إلى يوم الأربعاء الموافق 28 صفر 1408 هـ الموافق 21
(1) قرارات المجمع الفقهي الإسلامي: (214).
(2)
ينظر: (223 - 228).
أكتوبر 1987 م قد نظر في موضوع تقرير حصول الوفاة، بالعلامات الطبية القاطعة، وفي جواز رفع أجهزة الإنعاش عن المريض الموضوعة عليه، في حالة العناية المركزة، واستعرض المجلس الآراء، والبيانات الطبية المقدمة شفهيًّا وخطيًّا، من وزارة الصحة في المملكة العربية السعودية، ومن الأطباء الاختصاصيين، واطلع المجلس كذلك على قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، المنعقد في مدينة عمان العاصمة الأردنية رقم (5) 3/ 7/1986 م. وبعد المداولة في هذا الموضوع، من جميع جوانبه وملابساته، انتهى المجلس إلى القرار التالي
…
".
ثانياً: من مسالك الاجتهاد في تحقيق المناط الاعتماد على قول أهل الخبرة فيما يختصون بمعرفته ، كما تقدم في مسالك تحقيق المناط (1).
وقد أناط مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي حكم جواز رفع أجهزة الإنعاش عن المريض بما إذا قرر الأطباء المختصون أن جميع وظائف دماغه تعطلت تعطلاً نهائياً، وأن هذا التعطل لا رجعة فيه.
وكذلك المجمع الفقهي الإسلامي فإنه أناط حكم جواز رفع أجهزة الإنعاش عن المريض بما إذا قررت لجنةٌ من ثلاثة أطباءٍ مختصين أن جميع وظائف دماغه تعطلت تعطلاً نهائياً، وأن هذا التعطل لا رجعة فيه.
ويُعَدُّ هذا التصرف من صور الاجتهاد في تحقيق مناطات الأحكام بالاعتماد على قول أهل الخبرة فيما يختصون بمعرفته.
ثالثاً: ثبت عند الفقهاء أن مناط الأحكام الشرعية المترتبة على الموت هو مفارقة الروح للجسد مفارقةً تامةً تستحيل عودة الحياة بعدها (2).
ومعنى مفارقتها للجسد: انقطاع تصرفها عنه بخروج الجسد عن طاعتها، فإن الأعضاء آلاتٌ للروح تستعملها (3).
(1) ينظر: (269 - 272).
(2)
ينظر: المجموع شرح المهذب للنووي (5/ 105) ،مغني المحتاج للشربيني (1/ 32).
(3)
ينظر: إحياء علوم الدين للغزالي (4/ 493).
قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم في شأن قبض روح المؤمن: " فتخرُج تسيل كما تسيل القطرة من فِيّ السّقاء، فيأخذها مَلَكُ الموت."(1)
وعلى هذا فإن الصلاة على الميت وتغسيله وتكفينه ودفنة واعتداد زوجته عليه وتقسيم إرثه ونحو ذلك من الأحكام تدور وجوداً وعدماً مع مناطها وهو "مفارقة الروح للجسد مفارقةً تامةً تستحيل عودة الحياة بعدها".
ويُستَدل على ذلك بعلاماتٍ منها: (2)
1 -
انقطاع النفس.
2 -
استرخاء القدمين مع عدم انتصابهما.
3 -
انفصال الكفين.
4 -
ميل الأنف.
5 -
امتداد جلدة الوجه.
6 -
انخساف الصدغين.
7 -
تقلص خصيتيه إلى فوق مع تدلي الجلدة.
8 -
برودة البدن.
وبناءً على ذلك فقد أناط مجلس المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي الحكم شرعاً بالموت على المتوفَّى دماغياً الذي رُفِعت عنه أجهزة الإنعاش إذا توقف عنده التنفس والقلب توقفاً تاماً لا رجعة بعده ، مما يؤدي إلى انقطاع وصول الدم المحمل بالغذاء والأكسجين إلى أعضاء الجسم المختلفة، فينتج عن ذلك موت خلايا تلك الأعضاء بشكل تدريجي واحداً تلو الآخر (3).
وذلك لأن الأصل حياة المريض، فنبقى على هذا الأصل حتى نجزم بزواله.
(1) أخرجه أحمد في " مسنده "، رقم (17803)، وصححه الألباني في أحكام الجنائز (156).
(2)
ينظر: روضة الطالبين (2/ 98)، ، منتهى الإرادات (1/ 323) ،حاشية ابن عابدين (1/ 189)، الحياة الإنسانية بداياتها ونهاياتها (475).
(3)
ينظر: أجهزة الإنعاش للدكتور البار، مجلة مجمع الفقه الإسلامي ، (ع 2/ ج 1/ 454 - 455).
رابعاً: من ضوابط الاجتهاد في تحقيق المناط الموازنة بين المصالح والمفاسد كما تقدم (1).
وقد راعى المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي هذا الضابط في الحالة التي يجوز فيها رفع أجهزة الإنعاش عن المتوفَّى دماغياً بعد أن ثبت طبياً بأن وظائف الدماغ تعطلت تعطلاً تاماً لا رجعة بعده.
ووجه ذلك أن بقاء أجهزة الإنعاش متصلةً بالمتوفَّى دماغياً يترتب عليه عدة أضرارٍ منها: (2)
- أن في ذلك بذل جهدٍ كبيرٍ فيما لاجدوى منه، بل يقرب من كونه نوعاً من العبث، حيث أثبتت الدراسات العملية أن من توفرت فيه كل شروط تشخيص موت الدماغ فقد وصل إلى نقطةٍ يستحيل عودته للحياة بعدها؛ لأن جذع الدماغ هو المتحكِّم في جهازي التنفس والقلب والدورة الدموية ، وتوقف جذع الدماغ وموته يؤدي لا محالة إلى توقف القلب والدورة الدموية والتنفس ولو بعد حين.
- إنَّ غرف العناية المكثفة في المستشفيات محدودةٌ ومخصَّصةٌ لإعطاء عنايةٍ متواصلةٍ في كلِّ ثانيةٍ حتى تستقر حالة المريض الصحية، لمن يحتاج إلى ذلك، فإذا وُجِد مريضٌ بحاجةٍ ماسَّةٍ إلى أجهزة الإنعاش ويمكن إنقاذ حياته بإذن الله فإنه أولى بتلك الأجهزة من مريضٍ قرر الأطباء تعطل دماغه تعطلاً نهائياً لارجعة بعده.
- ازدياد آلام أقارب المريض وذويه، ومعاناتهم بتكرار رؤيتهم له على حالٍ أقرب مايكون فيه إلى الموت ، وكلما طالت الفترة وهو على ذلك الحال زادت معاناتهم أكثر.
- إن تكاليف وسائل الإنعاش باهظة جداً ، وصرف ملايين الريالات
(1) ينظر: (245 - 256).
(2)
ينظر: موت الدماغ الموقف القانوني والشرعي للدكتور البار، مجلة مجمع الفقه الإسلامي، (2/ 303).
لإبقاء الميت دماغياً يتنفس أمرٌ قليل الجدوى أو عديمها ، والأولى من ذلك صرفها على المرضى الآخرين الذين يمكن إنقاذ حياتهم.
وبناءً على ما تقدم فإنه يترجح حينئذٍ جواز رفع أجهزة الإنعاش عن المتوفَّى دماغياً؛ لأن بقاءها لا جدوى منه ، ويترتب على ذلك عدة أضرار ، كما أن في رفعها عن المتوفَّى دماغياً تتحقق مصالحٌ أخرى تتعلق بمرضى آخرين هي أولى من مصلحة إبقاء ذلك المتوفَّى دماغياً يتنفس رغم تعطل الدماغ تعطلاً نهائياً لا رجعة بعده.