الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث
تعريف الاجتهاد في المناط وبيان أنواعه
سأتناول في هذا المبحث تعريف الاجتهاد في المناط، وبيان أنواعه، وذلك من خلال مطلبين:
المطلب الأول: تعريف الاجتهاد في المناط
.
" الاجتهاد في المناط " مصطلحٌ يُمْكِن أن يُعرَّف باعتبارين:
الأول: باعتباره مُركَّباً إضافياً يتكوَّن من كلمتين: " الاجتهاد " و " المناط"، وتعريفه بهذا الاعتبار يستلزم تعريف جزئيه، فيُعرَّف كلُّ لفظٍ - على حِدَة - لغةً واصطلاحاً، ثم يُبيّن وجه العلاقة بين التعريف اللغوي والاصطلاحي في كلٍّ منهما، وقد تقدَّم ذلك في المبحثين الأول (1) والثاني (2).
الثاني: باعتباره مُركَّباً وصفياً أو لقباً يُطلق على معنىً بخصوصه في علم أصول الفقه لا يُفْهَمُ عند الإطلاق غيره.
ومن خلال استقرائي لما كتبه الأصوليون بشأن "الاجتهاد في المناط" لم أجد - حسب اطلاعي - لأحدٍ من العلماء الأقدمين أو الباحثين المعاصرين تعريفاً لمصطلح " الاجتهاد في المناط " بهذا الاعتبار، وقد اقتصرت جهودهم على بيان أنواعه، وتعريفها، وضرب الأمثلة عليها، دون وضعٍ حدٍّ أو رسمٍ
(1) ينظر: (21 وما بعدها).
(2)
ينظر: (30 وما بعدها).
لمصطلح "الاجتهاد في المناط" كما هو شأنهم مع باقي الاصطلاحات الدائرة في هذا العلم.
وقد اسْتُعمِل هذا المصطلح في مؤلفات أصول الفقه منذ زمنٍ مُبَكِّر، وحسب استقرائي تبين لي أن أقدم كتابٍ مطبوعٍ في أصول الفقه وَرَدَ فيه ذكر أنواع الاجتهاد في المناط هو كتاب:"رسالة في أصول الفقه" لأبي علي الحسن بن شهاب العُكْبَري الحنبلي المتوفَّى سنة (428 هـ) أي في القرن الخامس الهجري، حيث عرَّف "الاجتهاد"، ثم ذكر أنه على ثلاثة أضرب: تحقيق المناط، وتنقيح المناط، وتخريج المناط، ثم عرَّف كلَّ نوع، وساق مثالاً عليه يوضح المقصود منه (1).
ثم جاء من بعده أبو حامد الغزالي المتوفَّى سنة (505 هـ) فوضع مقدمتين على كتاب القياس في "المستصفى"، عَنْوَنَ للمقدمة الثانية بقوله:" مقدمةٌ في حصر مجاري الاجتهاد في العِلَل "(2)، وذكر أن المقصود بالعِلَّة في الشرعيات: مناط الحُكْم.
ثم أوضح أنواع الاجتهاد في العِلَّة فقال " والاجتهاد في العِلَّة: إما أن يكون في تحقيق مناط الحكم، أو في تنقيح مناط الحُكْم، أو في تخريج مناط الحُكْم "(3)، ثم عرَّف الأنواع الثلاثة، وذكر أمثلةً عليها (4).
وبهذا يكون الغزالي حصر الأنواع الثلاثة تحت مُسمَّى" الاجتهاد في العِلَّة "، وليس كما صنع أبوعلي العُكْبَري حيث أطلق لفظ " الاجتهاد " ولم يقيده بالعِلَل، ثم ذكر تحته أنواع الاجتهاد في العِلَّة الشرعيَّة المتعلِّقة بالأقيسة، وربما أن العُكْبَري قد تسامح في إطلاق لفظ " الاجتهاد " على القياس كما يصنع بعض الفقهاء (5).
(1) ينظر: رسالة في أصول الفقه للعُكْبَري (79 - 87).
(2)
المستصفى: (1/ 485).
(3)
المرجع السابق: (1/ 485).
(4)
ينظر: المستصفى (1/ 485 - 492).
(5)
والأرجح أن الاجتهاد أعمُّ من القياس؛ لأنه كما يكون بالقياس قد يكون بالنظر في العمومات، ودقائق الألفاظ، والاستحسان، والاستصلاح، وسائر طرق الأدلة الشرعية المعتبرة.
ينظر: المستصفى (3/ 483 - 484)، روضة الناظر (3/ 798)، الإحكام للآمدي (4/ 36)، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 224)، البحر المحيط للزركشي (7/ 14).
ثم جاء ابن قدامة المقدسي المتوفى سنة (620 هـ) وعقد فصلاً في أول باب القياس من كتابه "روضة الناظر" استفتحه بقوله: " ونعني بالعِلَّة: مناط الحُكْم"(1)، ثم قال:"والاجتهاد في العِلَّة على ثلاثة أضرب: تحقيق المناط للحُكْم، وتنقيحه، وتخريجه"(2)، وقد سلك بهذا مسلك الغزالي في حصر الأنواع الثلاثة تحت مُسمَّى "الاجتهاد في العِلَّة".
ثم أعقبه أبو الحسن الآمدي المتوفى سنة (631 هـ) وذيَّل الباب الثاني في مسالك العِلَّة من كتابه "الإحكام" بخاتمةٍ عَنْوَنَ لها بقوله: "خاتمةٌ في أنواع النظر والاجتهاد في مناط الحُكْم، وهو العِلَّة"(3).
كما أوضح أنواع الاجتهاد في المناط فقال: "ولما كانت العِلَّة مُتَعَلَّقُ الحُكْم ومناطه فالنظر والاجتهاد فيه: إما في تحقيق المناط، أو تنقيحه، أو تخريجه"(4)، ثم عرَّف كلَّ نوعٍ، وضرب عليه من الأمثلة ما يوضِّح المراد منه (5).
وبهذا يتبيَّن أن الآمدي استعمل مصطلح "الاجتهاد في مناط الحُكْم " بدلاً عن مصطلح "الاجتهاد في العِلَّة" الذي استعمله الغزالي وابن قدامة، وذلك باعتبار أن "العِلَّة" و "المناط" لفظان مترادفان كلٌّ منهما يُطْلَقُ إزاء الآخر.
ثم جاء الطُّوفي المتوفَّى سنة (716 هـ) وعدَّد أنواع الاجتهاد في العِلَّة عند ذكرها ضمن أركان القياس في كتابه "شرح مختصر الروضة"، وعرَّف كلَّ نوعٍ، وضرب عليه أمثلةً توضِّح المراد منه (6)، ثم قال: "هذا إشارةٌ إلى أنواع
(1) روضة الناظر: (3/ 800).
(2)
المرجع السابق: (3/ 801).
(3)
الإحكام: (3/ 379).
(4)
المرجع السابق: (3/ 379).
(5)
ينظر: المرجع السابق (3/ 379 - 381).
(6)
ينظر: شرح مختصر الروضة (3/ 232 - 241).
الاجتهاد في العِلَّة الشرعيَّة المتعلَّقة بالأقيسة، وهو إما بتحقيق المناط، أو تنقيحه، أو تخريجه، والمناط: ما نيط به الحُكْم، أي: عُلِّق به، وهو: العِلَّة التي رُتِّبَ عليها الحُكْم في الأصل " (1)، وقد سلك بهذا مسلك الغزالي وابن قدامة في حصر الأنواع الثلاثة تحت مُسمَّى " الاجتهاد في العِلَّة ".
ثم جاء من بعد الطوفي أبو إسحاق الشاطبي المتوفَّى سنة (790 هـ) وذكر في المسألة الأولى من كتاب الاجتهاد في كتابه " الموافقات " أن الاجتهاد على ضربين (2):
أحدهما: اجتهادٌ لا يمكن أن ينقطع حتى ينقطع أصل التكليف وذلك عند قيام الساعة، وهو الاجتهاد المتعلِّق بتحقيق المناط العام.
والثاني: اجتهادٌ يمكن أن ينقطع قبل فناء الدنيا، وهو ثلاثة أنواع: تنقيح المناط، وتخريج المناط، وتحقيق المناط الخاص.
وبهذا يتضح أن الشاطبي أدخل الأنواع الثلاثة تحت مُسمَّى " الاجتهاد "، ولكن باعتبار انقطاعه وعدمه.
ثم تلا الشاطبي أبو الحسن المرداوي الحنبلي المتوفَّى سنة (885 هـ)(3) وذيَّل مسالك العِلَّة بفوائد، ذكر منها أنواع الاجتهاد في العِلَّة الشرعيَّة المتعلِّقة بالأقيسة، وهي: تحقيق المناط، وتنقيحه، وتخريجه (4)، وسلك في ذلك مسلك الغزالي وابن قدامة والطُّوفي في حصر الأنواع الثلاثة تحت مُسمَّى" الاجتهاد في العِلَّة ".
ثم جاء ابن بدران الدمشقي (5) المتوفَّى سنة (1346 هـ) وذكر أركان القياس في كتابه "المدخل إلى مذهب الإمام أحمد"، وبعد أن ذكر العِلَّة عَدَّدَ أنواع الاجتهاد فيها، وهي: تحقيق المناط، وتنقيحه، وتخريجه (6)، وسلك في ذلك مسلك الغزالي وابن قدامة والطُّوفي والمرداوي في حصر الأنواع الثلاثة تحت مُسمَّى" الاجتهاد في العِلَّة".
(1) المرجع السابق: (3/ 332).
(2)
ينظر: الموافقات (5/ 11/23).
(3)
هو: علي بن سليمان بن أحمد المرداوي الدمشقي، من كبار فقهاء الحنابلة، ومحققي المذهب، من مؤلفاته: الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف (ط)، وتحرير المنقول (ط) مع شرحه التحبير في أصول الفقه، والتنقيح المشبع في تحرير أحكام المقنع (ط) في الفقه، انتقل إلى دمشق وتوفي بها سنة (885 هـ)
ينظر ترجمته في: الضوء اللامع (5/ 225)، البدر الطالع (1/ 446)، الأعلام للزركلي (4/ 292).
(4)
ينظر: التحبير شرح التحرير (7/ 3451).
(5)
هو: عبدالقادر بن أحمد بن مصطفى بن محمد بدران، فقيهٌ أصولي، حنبلي، كان سلفي العقيدة، حسن المحاضرة، ولي إفتاء الحنابلة في الشام، من مؤلفاته: المدخل إلى مذهب الإمام أحمد (ط)، ونزهة الخاطر العاطر وشرح روضة الناظر لابن قدامة (ط)، توفي بدمشق سنة (1346 هـ)
ينظر ترجمته في: أعيان دمشق لمحمد جميل الشطي (345)، الأعلام للزركلي (4/ 37 - 38).
(6)
ينظر: المدخل إلى مذهب الإمام أحمد (306 - 310).
هذا ما وقفت عليه من المصنفات الأصولية التي اكتفى أصحابها بذكر الأنواع الثلاثة للاجتهاد في المناط، ولم يَعْمِدْ أحدٌ منهم إلى وضع حدٍّ أو رسمٍ لمصطلح " الاجتهاد في المناط ".
أما سائر المصنفات الأصولية فقد تداولت المصطلحات الثلاثة: تحقيق المناط، وتنقيح المناط، وتخريج المناط، ولكن دون أن تقرن بينها تحت مُسَمَّى "الاجتهاد في المناط" أو "الاجتهاد في مناط الحُكْم" أو "الاجتهاد في العِلَّة"، وإنما ذُكِرَتْ تلك المصطلحات في مواضِعَ متفرِّقةٍ من كتاب القياس عند البحث في مسالك العِلَّة.
وهذه المواضِع على النحو الآتي:
الموضع الأول: في مسلك الإيماء والتنبيه، وذلك عند الكلام عن أنواعه، وأن من أنواعه ما يُسَمَّى عند بعضهم بـ "تنقيح المناط"(1).
الموضع الثاني: في مسلك المناسبة والإخالة، وذلك عند الإشارة إلى تسمية بعض العلماء هذا المسلك بـ"تخريج المناط"(2).
الموضع الثالث: في مسلك تنقيح المناط، وهل يُعْتَبر دليلاً تثبت به العِلَّة؟ (3).
الموضع الرابع: في مسلك تنقيح المناط، وذلك عند بيان الفرق بينه وبين تحقيق المناط وتخريجه، إذ يُعْتَبر ذكر مصطلح "تنقيح المناط" في هذا الموضع مناسباً لذكر المصطلحين الآخرين "تحقيق المناط" و "تخريجه"، وتعريفها، وضرب الأمثلة التي توضح المراد منهما، ليبيِّن الفرق بين
(1) ينظر: البحر المحيط للزركشي (7/ 253)، شرح الكوكب المنير (4/ 131)، مسلم الثبوت مع فواتح الرحموت (2/ 360).
(2)
ينظر: بيان المختصر للأصفهاني (3/ 111)، شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 239)، البحر المحيط للزركشي (7/ 262)، شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 273)، شرح الكوكب المنير (4/ 152)، إرشاد الفحول (2/ 625).
(3)
ينظر: المحصول (5/ 229)، شرح تنقيح الفصول (398)، نهاية السول (4/ 141)، البحر المحيط للزركشي (7/ 322) شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 292)، إرشاد الفحول (2/ 640).
المصطلحات الثلاثة وتتمايز عن بعضها (1).
الموضع الخامس: في مسلك تحقيق المناط، ولم أجد - حسب اطلاعي- أحداً من الأصوليين ذكر " تحقيق المناط " باعتباره مسلكاً من مسالك العِلَّة سوى الشوكاني في " إرشاد الفحول "، حيث ذكره في المسلك الحادي عشر (2).
الموضع السادس: عقب الفراغ من بحث مسالك العِلَّة، وذلك أثناء الإشارة إلى بعض الألفاظ التي اصطلح عليها أهل الأصول والجدل ومنها: تنقيح المناط، وتخريج المناط، وتحقيق المناط (3).
ومن خلا ل ما تقدَّم ذكره يتضح لي أن الأصوليين لم يُعْنَوا بتعريف مصطلح " الاجتهاد في المناط " كما عُنُوا بذكر أنواعه، وتعريفها، وضرب الأمثلة عليها، لتوضيح المراد منها، ولا ريب أن المقصود إذا حصل بأيسر عبارةٍ فهو المُبتغَى، ولكن جرت العادة في صناعة البحوث العلمية على تحديد مدلولات عنوان البحث تحديداً دقيقاً، ومن أنفع الطرق الموصلة إلى ذلك الاعتناء بتعريف المصطلحات المستعمَلة في هذا البحث.
لذا فقد أرتأيت أن أضع حدَّاً لمصطلح "الاجتهاد في المناط" يُقَرُّبُ المراد به، ويُدْخِلُ تحته ما هو منه، ويُخْرِجُ ما ليس منه، فأقول وبالله التوفيق:
إذا تقرر ما سبق فيمكن تعريف " الاجتهاد في المناط " باعتباره لقباً يُطْلَق على معنىً بخصوصه في علم أصول الفقه كما يأتي:
" الاجتهاد في المناط هو: استفراغ الوُسْعَ في تنقيح عِلَّةٍ منصوصة، أو استخراجِ عِلَّةٍ غيرِ منصوصة، أو إثباتِ متعلَّق حُكْمٍ شرعيٌّ في بعض أفراده ".
وهذا التعريف -كما هو ظاهرٌ- يشمل الأنواع الثلاثة للاجتهاد في
(1) ينظر: الكاشف عن المحصول للأصفهاني (6/ 435)، تقريب الوصول لابن جزي (370)، نهاية السول (4/ 142)، البحر المحيط للزركشي (7/ 322)، شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 293)، نشر البنود (2/ 202).
(2)
ينظر: إرشاد الفحول (2/ 641 - 642).
(3)
ينظر: شرح الكوكب المنير (4/ 199).
العِلَّة، وهي: تنقيح المناط، وتخريجه، وتحقيقه، كما يشمل - أيضاً - المعنى الأعمّ لـ "تحقيق المناط" الذي يدخل تحته ثلاث صور (1):
الأولى: إثبات عِلَّة حكم الأصل في الفرع.
والثانية: إثبات مقتضى قاعدةٍ كليةٍ تعلَّق بها حكمٌ شرعيُّ في بعض جزئياتها.
والثالثة: إثبات معنى لفظ عامٍّ أو مطلَّقٍ تعلق به حكمٌ شرعيٍّ في بعض أفراده.
وعند المقارنة بين مُسَمَّى "الاجتهاد في المناط" حسب إطلاق الآمدي، ومُسَمَّى "الاجتهاد في العِلَّة" حسب إطلاق الغزالي ومن تبعه، فإني أجد مُسَمَّى "الاجتهاد في المناط" أكثر دِقَّةً وشمولاً للتعبير عن جميع الأفراد الداخلة تحته، ويرجع ذلك إلى أمرين:
أولهما: أن عادة الأصوليين جرت على إضافة الأنواع الثلاثة إلى أحد ألقاب العِلَّة وهو (المناط)، فاشتمال المُسَمَّى على نفس اللفظ وهو "المناط" أولى من اشتماله على لفظ " العِلَّة ".
ثانيهما: أن مُسمَّى "الاجتهاد في المناط" يصلح لِأَنْ يشمل "تحقيق المناط" بمعناه الأعمّ الذي هو إثبات معنىً تعلَّق به حُكْم شرعيٌّ في بعض أفراده، وبمعناه الأخصّ الذي هو إثبات عِلَّةِ حكم الأصل في الفرع.
أما مُسَمَّى "الاجتهاد في العِلَّة" فهو يُشْعِرُ بحصر النظر في العِلَّة فلا يدخل فيه "تحقيق المناط" بمعناه الأعمَّ إلا تَجَوُّزَاً.
ولهذا فقد اخترت مُسَمَّى "الاجتهاد في المناط" ليكون عنواناً لبحثي يعبِّر عن مضمونه كما يتداوله أهل هذا الشأن، وإذا ضُبِطَتْ المدلولات وتحرَّرَت المعاني فلا مُشَاحةَ في الاصطلاح.
(1) ينظر: (194).