الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس
الموازنة بين المصالح والمفاسد المتعارضة
تقدَّم أن مقصود الشارع من وضع الأحكام هو جلب المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها (1)، وهذا المقصد لابدَّ من اعتباره أثناء الاجتهاد في تعيين المصالح في الأحوال والأشخاص؛ وإلا عادت الأحكام على مقاصد الشرع بالنقض والإبطال (2).
وكلُّ ما يتضمن المحافظة على مقصود الشرع فهو مصلحةٌ لابدَّ من تحصليها، كما أنَّ كلَّ ما يتضمن تفويت مقاصد الشرع فهو مفسدةٌ لابدَّ من دفعها.
قال الغزالي: " نعني بالمصلحة: المحافظة على مقصود الشرع، ومقصود الشرع من الخلق خمسة، وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكلُّ ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكلُّ ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة، ودفعها مصلحة "(3).
والمصالح والمفاسد تتفاوت - غالباً- في درجاتها، وهي ليست على رتبةٍ واحدة، فبعض المصالح أعظم من بعض، كما إنَّ بعض المفاسد أخطر من بعض، وعلى هذا التفاوت تترتَّب الفضائل والعقوبات (4).
(1) ينظر: (236).
(2)
ينظر: الإبهاج (1/ 8 - 9)، إعلام الموقعين (4/ 337 - 338)، الموافقات (5/ 41 - 43)، مقاصد الشريعة لابن عاشور (183 - 188).
(3)
المستصفى: (2/ 482).
(4)
ينظر: قواعد الأحكام لابن عبدالسلام (1/ 41 - 42)، مقاصد الشريعة لابن عاشور (299).
وقد يحدث بينها من الاجتماع والتعارض ما يقتضي الاجتهاد في الترجيح بينها، ولاسيما في الأزمنة المتأخرة التي اختلط فيها كثيرٌ من المفاسد بالمصالح، فلا يسع المكلَّفَ في كثيرٍ من الأحيان تحقيقُ مصلحةٍ مشروعةٍ إلا مع التلبُّس بمفسدةٍ عارضة.
قال ابن تيمية: " وتمام الورع أن يعلم الإنسانُ خيرَ الخيرين وشرَّ الشرَّين، ويعلم أنَّ الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإلا فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعيَّة والمفسدة الشرعيَّة فقد يَدَعُ واجباتٍ ويفعل محرَّماتٍ، ويرى ذلك من الورع، كَمَنْ يَدَعُ الجهادَ مع الأمراء الظلمة ويرى ذلك من الورع .. "(1).
والمراد بهذا الضابط: المقابلة بين المصالح والمفاسد المتعارضة في محلٍّ واحد، والترجيح بينها أثناء الاجتهاد في تعيين مصالح الأحكام في الأحوال والأشخاص المختلفة.
وهو فقهٌ دقيقٌ يحتاج إلى مزيد اعتناءٍ من المجتهد في تحقيق مناطات الأحكام، وإلا أفسد المجتهدُ باجتهاده أكثر مما يصلح.
قال ابن تيمية: " والمؤمن ينبغي له أن يعرف الشرور الواقعة، ومراتبها في الكتاب والسُّنَّة، كما يعرف الخيرات الواقعة، ومراتبها في الكتاب والسُّنَّة، فيفرِّق بين أحكام الأمور الواقعة الكائنة والتي يراد إيقاعها في الكتاب والسُّنَّة، ليقدِّم ما هو أكثرُ خيراً، وأقلُّ شرَّاً على ما هو غيره، ويدفع أعظم الشرَّين باحتمال أدناهما، ويجتلب أعظم الخيرين بفوات أدناهما، فإن لم يعرف الواقع في الخلق والواجب في الدِّين لم يعرف أحكام الله في عباده، وإذا لم يعرف ذلك كان قوله وعمله بجهل، ومن عَبَدَ الله بغير عِلْمٍ كان ما يفسد أكثر مما يصلح "(2).
والأدلة على اعتبار الشارع الترجيح بين المصالح والمفاسد المتعارضة كثيرةٌ، منها:
(1) مجموع الفتاوى: (10/ 512 - 513).
(2)
المرجع السابق: (20/ 305).
1 -
قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219].
فالآية تبيِّن أن المضارَّ والمفاسد الناتجة عن اقتراف الخمر والميسر من ذهاب العقل والمال وإثارة العداوة والبغضاء والصَّدِّ عن ذكر الله وعن الصلاة وما يترتب على ذلك من الإثم أخطر من تحقيق بعض المنافع منهما، كتحقيق اللذة والربح العاجلين؛ لأن هذه المنافع لا توازي المضارَّ والمفاسد المترتبة على ذلك (1).
قال ابن كثير (2): " ولكن هذه المصالح لا توازي مضرَّته ومفسدته الراجحة؛ لتعلُّقها بالعقل والدِّين، ولهذا قال تعالى: {وإثمهما أكبر من نفعهما} "(3).
2 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام أعرابيٌّ فبال في المسجد، فتناوله الناس، فقال لهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم:" دعوه، وهريقوا على بوله سَجْلاً من ماء، أو ذنوباً من ماء؛ فإنما بعثتم ميسِّرين ولم تبعثوا معسِّرين "(4).
فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة بالكفِّ عنه رغم حصول المفسدة منه، وهي تنجيس بعض المسجد بالبول؛ وذلك لأن تلك المفسدةَ مرجوحةٌ في مقابل مفسدةٍ أعظم منها فيما لو قُطِعَ عليه بوله، وهي إيقاع الضرر به في صحته، وانتشار البول على ثيابه وبدنه ومواضع كثيرةٍ من المسجد، مع ما في ذلك من تنفيره عن ما جاء به الإسلام من الأحكام والآداب المرعية.
قال النووي: " وفيه دفع أعظم الضررين باحتمال أخفِّهما؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: " دعوه "، قال العلماء: كان قوله صلى الله عليه وسلم: " دعوه " لمصلحتين، إحداهما: أنه لو قطع عليه بوله تضرر، وأصل التنجيس قد حصل، فكان احتمال زيادته أولى من إيقاع الضرر به، والثانية: أن التنجيس قد حصل في جزءٍ يسيرٍ من المسجد، فلو أقاموه
(1) ينظر: قواعد الأحكام لابن عبدالسلام (1/ 136)، مقاصد الشريعة لابن عاشور (290).
(2)
هو: عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر البصري ثم الدمشقي، صاحب التفسير المشهور والمعروف بتفسير ابن كثير، اخذ عن الآمدي وابن تيمية، ونشأ في بيت علمٍ وأدب، كان إماماً محققاً في التفسير والحديث والتاريخ، من مؤلفاته: البداية والنهاية (ط)، وتفسير القرآن العظيم (ط)، وغيرهما، توفي بدمشق سنة (774 هـ).
ينظر في ترجمته: الدرر الكامنة (1/ 399)، شذرات الذهب (6/ 131)، الأعلام للزركلي (1/ 320).
(3)
تفسير القرآن العظيم: (2/ 292).
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الوضوء، باب صب الماء على البول في المسجد، رقم (220).
في أثناء بوله لتنجَّست ثيابه وبدنه ومواضع كثيرة من المسجد " (1).
3 -
عن عائشة رضي الله عنها قالت: سألتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن الجَدْرِ: أمِنَ البيت هو؟ قال: نعم، قلت: فلِمَ لمْ يدخلوه في البيت؟ قال: إنَّ قومك قصرت بهم النفقة، قلت: فما شأنهُ بابه مرتفعاً، قال: فعل ذلك قومك ليُدْخِلوا من شاءوا ويمنعوا من شاؤوا، ولولا أن قومك حديثٌ عهدُهم في الجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبُهم لنظرتُ أن أُدْخِلَ الجَدْرَ في البيت وأن أُلْزِق بابه الأرض" (2).
قال النووي (3):
" في هذا الحديث دليلٌ لقواعد من الأحكام منها: إذا تعارضت المصالح أو تعارضت مصلحةٌ ومفسدةٌ وتعذَّر الجمع بين فعل المصلحة وترك المفسدة بُدِئَ بالأهمّ؛ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أخبر أن نقض الكعبة وردَّها إلى ما كانت عليه من قواعد إبراهيم عليه السلام مصلحة، ولكن تعارضه مفسدةٌ أعظم منه، وهي خوف فتنة بعض من أسلم قريباً؛ وذلك لِما كانوا يعتقدونه مَنْ فضل الكعبة فيرون تغييرها عظيماً فتركها صلى الله عليه وسلم "(4).
4 -
إن تقديم أرجح المصالح ودرء أعظم المفاسد من الأمور الجِبِليَّة التي طبع الله عليها نفوس الخلق، فلا يخفى على عقل عاقلٍ أنَّ تقديم أرجح المصالح فأرجحها محمودٌ حسَن، وأن درء أفسد المفاسد فأفسدها محمودٌ حسَن، وأن تقديم المصالح الراجحة على المفاسد المرجوحة محمودٌ حسَن (5).
فالأطباء يدفعون أعظم المرضين بالتزام بقاء أدناهما، ويجلبون أعلى السلامتين والصحتين بفوات أدناهما (6).
ولو خُيِّر الصبيُّ بين اللذيذ والألذِّ لاختار الألذ، ولو خُيِّر بين الحسَن والأحسَن لاختار الأحسَن، ولا يقدِّم الصالحَ على الأصلح إلا الجاهلُ بفضل
(1) شرح صحيح مسلم للنووي: (2/ 194).
(2)
سبق تخريجه: (238).
(3)
هو: أبو زكريا يحيى بن شرف الحوراني النووي، محي الدين، فقيهٌ شافعي، كان عالماً بالحديث، من مؤلفاته: شرح صحيح مسلم (ط)، ومنهاج الطالبين (ط) في فقه الشافعية، والمجموع شرح المهذب للشيرازي (ط) لم يكمله، توفي في نوا من قرى حوران بالشام سنة (676 هـ).
ينظر في ترجمته: طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي (5/ 165)، طبقات الشافعية للإسنوي (2/ 266)، الأعلام للزركلي (8/ 149).
(4)
شرح صحيح مسلم: (5/ 421).
(5)
ينظر: قواعد الأحكام لابن عبدالسلام (1/ 7 - 8).
(6)
ينظر: المرجع السابق.