الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس
طرق تنقيح المناط
تقدَّم أن تنقيح المناط له صورتان (1):
الأولى: أن يدل نصٌّ ظاهرٌ على تعليل الحُكْم بوصفٍ، فَيُحْذَف خصوص ذلك الوصف عن الاعتبار، ويناط الحُكْم بالمعنى الأعمّ.
والثانية: أن يدل نصٌّ ظاهرٌ على تعليل الحُكْم بمجموع أوصافٍ، فَيُحْذَف بعضها عن الاعتبار، ويناط الحُكْم بالباقي من الأوصاف.
وفي كلتا الصورتين فإن وظيفة تنقيح المناط تتركَّز في تهذيب العِلَّة وتمييزها عن الأوصاف غير المؤثرة بعد إثباتها بمسلك النصِّ أو الإيماء والتنبيه، وذلك يقوم على ركنين (2):
الأول: إسقاط ما لا مدخل له من الأوصاف عن درجة الاعتبار.
والثاني: إظهار وتعيين ما له مدخلٌ من الأوصاف في الاعتبار.
وحاصله أنه اجتهادٌ في الحذف والتعيين كما تقدَّم (3)، وهو اجتهادٌ لا يقوم على التحُكُّم والتشهي، بل لابدَّ فيه من دليلٍ يُسْتَنَد إليه وطريقٍ شرعيٍّ يثبت به؛ لأن الشرع هو الذي اختصَّ باعتبار تلك الأوصاف مؤثرةً في الأحكام وعدم اعتبارها كذلك، ولا يُعْلَمُ ذلك إلا بدليلٍ من جهته.
قال الغزالي: " ومُدْرَكُه - أي: تنقيح المناط - شواهد الشرع، وإبقاء ما
(1) ينظر: (100 - 101).
(2)
ينظر: أساس القياس (51).
(3)
ينظر: (71).
يُقَدَّر له أثر، وإلغاء ما لا يُعْقَل له أثر " (1).
وقال البروي: " وصورته - أي: تنقيح المناط أن يَرِدَ ظاهرٌ في التعليل بأوصافٍ عِدَّة، فنحذف بعض تلك الأوصاف عن درجة الاعتبار بالدليل"(2).
وقال ابن النجَّار الفتوحي في تعريف تنقيح المناط: " أن يُبقِى من الأوصاف ما يصلح، ويُلغي بالدليل ما لا يصلح "(3).
والمناط كما يثبت تعلُّق الحُكْم به بتوقيفٍ من جهة الشرع، فكذلك تنقيح المناط وتمييزه عن غيره من الأوصاف غير المؤثِّرة لايثبت إلا بتوقيفٍ من الشرع.
قال الغزالي: " ولا نجعل الشيء مناطاً أو وصفاً من أوصاف المناط بالحُكْم والرأي بل بالتوقيف، ولا نسقطه أيضاً عن درجة الاعتبار بالرأي والقياس، بل بشواهد التوقيف "(4).
وقال - أيضاً-: " وبقي أن نبيِّن أن المناط كيف يتجرَّد ويتلخَّص متميزاً بحدِّه على كلِّ ما لا يُعْتَبر فيه، وجامعاً لجميع ما هو معتبَرٌ فيه؟ فنقول- أيضاً-: لا يكون إلا بالتوقيف والتعريف من جهة الشارع."(5).
والتوقيف من جهة الشارع لا يُقْتَصَرُ في معرفته على مجرَّد النصِّ، بل يشمل دلالات الألفاظ بأنواعها، والأفعال وما في حكمها، وقرائن الأحوال، وسياق الكلام، وتصرُّفات الشارع في الأحكام.
قال الغزالي: " تعريفات الشارع مختلفةٌ بالإضافة إلى ما به التعريف؛ فتارةً يُعْرَفُ بالقول، وتارةً بالفعل، ثم إذا عُرِفَ لا بالقول: تارةً يكون بإشارةٍ، وتارةً بسكوتٍ، وتارةً باستبشارٍ، وتارةً بإظهار آثار كراهيةٍ، وعلى الجملة: قرائن أحواله في تصريفاته وإشاراته وهيئة وجهه في الفرح والكراهية يجوز أن
(1) شفاء الغليل: (430).
(2)
المقترح في المصطلح: (215 - 216).
(3)
شرح الكوكب المنير: (4/ 203).
(4)
أساس القياس: (50).
(5)
المرجع السابق: (52).
تكون معرِّفاتٍ جاريةً في إفادة التعريف مجرى القول، فيكون ذلك توقيفاً .. " (1).
ثم عدَّد رحمه الله أنواعاً من التعريف بالقول فقال: "أما إذا عُرِف بالقول فتارةً يُعْرَف بلفظٍ صريح، وتارةً بظاهرٍ كاللفظ العام، وتارةً بلفظٍ خاصٍ كُنِّيَ به العام على سبيل التجوِّز في لسان العرب، وتارةً بإيماء القول وإشارته لا بصريح الملفوظ، وتارةً بتضمن القول واقتضائه. . . وتارةً بمفهوم القول وقصده إلى تخصيص بعض الأشياء بالذكر ليفهم نفي الحُكْم عما عداه، وتارةً بسياق الكلام الذي أُنْشِىَء الكلام له .. "(2).
وكما أن مدارك التوقيف من جهة الشارع لا تنحصر في مجرَّد النصِّ فكذلك لا تنحصر مداركه في الأقوال والأفعال، بل يثبت التوقيف أيضاً بتتبع عادة الشارع في الأحكام إثباتاً ونفياً، وهو من أغمض وأدقِّ جهات التوقيف.
قال الغزالي: "فهذه جهات تعريفه -أي: الشارع- وأغمضُها التعريفُ بالعادة، وإليها استناد القياس، ولأجل خفائه لم يدركه بعض الناس ولم يعرفه من جملة المدارك، فظنَّ أن مدارك التعريف محصورةً في الأقوال والأفعال .. "(3).
وإذا كان تنقيح المناط وتمييزه عن غيره من الأوصاف غير المؤثِّرة لا يثبت إلا بتوقيفٍ من الشرع فحينئذٍ لابد من دليلٍ يستند إليه، وطريقٍ شرعيٍّ يثبت به هذا النوع من الاجتهاد.
قال الآمدي: "وأما تنقيح المناط فهو: النظر والاجتهاد في تعيين ما دلَّ النصُّ على كونه عِلَّةً من غير تعيين بحذف ما لا مدخل له في الاعتبار مما اقترن به من الأوصاف، كلُّ واحدٍ بطريقه .. "(4).
ولما ساق قصة الأعرابي الذي واقع أهله في نهار رمضان قيَّد الاجتهاد
(1) المرجع السابق: (52).
(2)
المرجع السابق: (52 - 53).
(3)
المرجع السابق: (54).
(4)
الإحكام: (3/ 380).