الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذا مبنيٌّ - أيضاً - على تعريفهم تنقيح المناط بأنه: الإلحاق بإلغاء الفارق، وذلك بأن يقال: هذا الحُكْم لابد له من مؤثِّر، وذلك المؤثِّر إما القدر المشترك بين الأصل والفرع، أو القدر الذي امتاز به الأصل عن الفرع، والثاني باطل؛ لأن الفارق ملغي، فثبت أن المشترك هو العِلَّة، فيلزم من حصوله في الفرع ثبوت الحُكْم (1).
قال الفخر الرازي: " فهذا طريقٌ جيد، إلا أنه استخراج العِلَّة بطريق السَّبْر؛ لأنَّا قلنا: حُكْم الأصل لابدَّ له من عِلَّة، وهي إما جهة الإشتراك أوجهة الامتياز، والثاني باطل، فتعيَّن الأول، وجهة الاشتراك حاصلةٌ في الفرع، فعِلَّة الحُكْم حاصلةٌ في الفرع، فيلزم تحقُّق الحُكْم في الفرع، فهذا هو طريقة السَّبْر والتقسيم من غير تفاوتٍ أصلاً "(2).
أما الشيخ الأمين الشنقيطي فقد اعتبر النوع الثاني فقط من تنقيح المناط هو بعينه طريق السَّبْر والتقسيم (3).
قال- رحمه الله: "النوع الثاني من تنقيح المناط هو بعينه السَّبْر والتقسيم"(4).
والنوع الثاني - كما تقدَّم (5) هو: " أن يقترن بالحُكْم أوصافٌ مذكورةٌ في النصِّ لا مدخل لها في العِلِّية، فتُحْذَف عن الاعتبار، ويُنَاطُ الحُكْم بالباقي ".
تحليل اتجاهات الأصوليين والترجيح بينها:
من خلال تأمل اتجاهات الأصوليين في بيان الفرق بين تنقيح المناط والسَّبْر والتقسيم والعلاقة بينهما تبيَّن لي الآتي:
أولاً: إن أصحاب الإتجاه الأول يعتبرون السَّبْر والتقسيم مسلكاً مستقلاً في إثبات العِلِّية، ويفرِّقون بينه وبين تنقيح المناط بأن السَّبْر والتقسيم يختصُّ
(1) ينظر: (65 - 67).
(2)
المحصول: (5/ 123 - 231).
(3)
ينظر: نثر الورود (2/ 524)، مذكرة أصول الفقه (390).
(4)
نثر الورود: (2/ 524).
(5)
ينظر: (64 - 65).
بالأوصاف المستنبَطة، حيث لا يوجد نصٌّ صريحٌ أو مومئٌ يدل على مناط الحُكْم، أما تنقيح المناط فيختصُّ بالأوصاف التي دلَّ عليها ظاهر النصِّ.
واعتبار السَّبْر والتقسيم مسلكاً مستقلاً في إثبات العِلِّية يختصُّ بالأوصاف المستنبطة فيه نظر؛ لأن السَّبْر والتقسيم ليس دليلاً مستقلاً على العِلِّية يختصُّ بالأوصاف المستنبَطة، بل يصلح الاستدلال به في أكثر طرق إثبات العِلَّة بوجهٍ أو بآخر، ومن ذلك مسلك النصِّ ومسلك الإيماء والتنبيه اللَّذَان تعلَّق بهما الاجتهاد في تنقيح المناط.
قال الأبياري: " السَّبْر يرجع إلى اختبارٍ في أوصاف المحلِّ وضبطها، والتقسيم يرجع إلى إبطال ما يظهر إبطاله فيها، فإذاً لا يكون من الأدلة بحال، وإنما تسامح الأصوليون بذلك؛ لأن المراد بالدليل هو الذي دلَّ على أن العِلَّة في جملة الأوصاف، والدليل الثاني دلَّ على التعيين، وإلا فالسَّبْر والتقسيم ليس هو دليلاً "(1).
وقال البروي: " واعلم أن دلالة السَّبْر تدخل في كثيرٍ من الأدلة، مثل تخريج المناط على شيوعه في المناظرات لا يتم إلا بدلالة السَّبْر، فإن من علَّل بمناسبٍ مقرونٍ بالحُكْم لا يستقل ما ذكره عِلَّةً إلا بتقدير انتفاء مناسبٍ آخر، ولا يُعْتَمد في نفيه إلا السَّبْر .. "(2).
ونقل الزركشي عن أبي العباس القرطبي (3) أنه قال: " أكثر النُظَّار عدَّوا هذا المسلك أي: السَّبْر والتقسيم - دليلاً على التعليل، وفيه نظر؛ وذلك أن ما ينفيه السَّبْر لابدَّ وأن يكون ظاهر المناسبة وهو قياس العِلَّة، أو صالحاً لها وهو الشبه، فالتحقيق أن يقال على التعليل هنا هو المناسبة غير أن السَّبْر عيَّنَ دليلَ الوصف، فالسَّبْر إذاً شرطٌ لا دليل، وكذلك في سائر المسالك النظرية، فليس مسلكاً بنفسه، بل هو شرط المسالك النظرية"(4).
(1) البحر المحيط للزركشي: (7/ 288).
(2)
المقترح في المصطلح: (230).
(3)
هو: أبو العباس أحمد بن عمر بن إبراهيم الأنصاري القرطبي، فقيهٌ مالكي، من رجال الحديث، من مؤلفاته: المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم (ط)، ومختصر الصحيحين، وغيرهما، توفي بالإسكندرية سنة (656 هـ).
ينظر ترجمته في: الوافي بالوفيات (7/ 295)، تذكرة الحفاظ (4/ 1438)، الأعلام للزركلي (1/ 186).
(4)
البحر المحيط: (7/ 287).
ولهذا المعنى ردَّ الحنفية التقسيم الحاصر وتنقيح المناط إلى النصِّ، أو الإجماع، أو المناسبة.
قال صدر الشريعة: " وعلماؤنا رحمهم الله لم يتعرَّضوا لهذين - أي: التقسيم الحاصر وتنقيح المناط - فإنه على تقدير قبولهما يكون مرجعهما إلى النصِّ أو الإجماع أو المناسبة "(1).
وإذا تبيَّن أن السَّبْر والتقسيم قد يدخل في أكثر الطرق الاجتهادية للنظر في العِلَّة، ولا يُعْتَبر دليلاً مستقلاً في إثبات العِلِّية، فإنه قد يكون طريقاً من طرق تنقيح المناط خادماً للاجتهاد في تهذيب العِلَّة وتعيينها بعد إثباتها بمسلك الإيماء والتنبيه، وعلى هذا يكون السَّبْر والتقسيم من طرق تنقيح المناط الذي تعلَّق الاجتهاد فيه بمسلكي النصِّ والإيماء والتنبيه؛ وذلك لأنه يَعُمُّ مسالك العِلَّة المنصوصة والمستنبَطة، ويصلح الاستدلال به لإثبات العِلَّة بوجهٍ أو بآخر إذا انضمَّ إلى أحد مسالكها المُعْتَبرة.
ولهذا لمّا ذكر الطُّوفي قصة الأعرابي الذي واقع أهله في نهار رمضان (2)، واعتبره مثالاً على تنقيح المناط قال:" فالنبيُّ أَمَرَه بالكفارة في جواب قوله: " واقعت أهلي في رمضان " مع مجيئه على الصفات المذكورة، فربما خُيِّل للسامع أن مجموع الصفات المذكورة مع الوقاع في رمضان هي مناط وجوب الكفارة وعِلُّته، لكن من جملتها ما ليس بمناسبٍ لكونه عِلَّةً ولا جزء عِلَّة، فاحتيج إلى إلغائه وتنقيح العِلَّة وتخليصها بالسَّبْر والتقسيم."(3).
بل إن دليل السَّبْر والتقسيم دليلٌ عامٌّ لا يقتصر الاستدلال به على إثبات العِلَل؛ لأن المُسْتَدِل يذكر الاحتمالات التي لا يخرج عنها موضع النزاع، ثم يبيَّن بطلانها كلها إلا واحداً.
وقد أَكْثَرَ الشيخ الأمين الشنقيطي رحمه الله من ذكر أمثلة هذا الدليل كما ورد
(1) التنقيح في أصول الفقه مع شرحه التوضيح (2/ 174).
(2)
سبق تخريجه: (48).
(3)
شرح مختصر الروضة: (3/ 238).
في القرآن الكريم وغيره، وذَكَرَ بعض آثاره العقائدية والتاريخية في كتابه:" أضواء البيان"(1) عند كلامه في سورة مريم على قوله تعالى: {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78)} [مريم: 78]، وهو من الشواهد الظاهرة على اعتبار دليل السَّبْر والتقسيم دليلاً عاماً لا يقتصر الاستدلال به على إثبات العِلَل.
ثانياً: إن أصحاب الاتجاه الثاني يعتبرون تنقيح المناط هو الإلحاق بإلغاء الفارق، ولذلك يفرِّقون بينه وبين السَّبْر والتقسيم بأن تنقيح المناط لا يجب فيه تعيين العِلَّة، ولا يُحْتَاج فيه إلى التعرُّض للعِلَّة الجامعة، بل يُتعرَّض فيه للفارق، ويُعْلَم أنه لا فارق إلا كذا، ولا مدخل له في التأثير، أما السَّبْر والتقسيم فلابدَّ فيه من تعيين الجامع والاستدلال على العِلِّية.
وقد تَقَدَّمت مناقشة ذلك وبيان الفرق بين تنقيح المناط وإلغاء الفارق، وأن تنقيح المناط هو تهذيب العِلَّة وتمييزها، فلابدَّ فيه من تعيين العِلَّة، وإلا لم تصدق تسمية ذلك بـ" تنقيح المناط "، أما في إلغاء الفارق فيُكْتَفى بإبطال الوصف الفارق بين الأصل والفرع، وبيان أن لا مدخل له في التأثير (2).
ثالثاً: إن أصحاب الاتجاه الثالث يعتبرون أن تنقيح المناط هو نفسه استخراج العِلَّة بطريق السَّبْر والتقسيم؛ لأنه يقال في طريقة إيراد تنقيح المناط - بناءً على تعريفهم تنقيح المناط بأنه: إلغاء الفارق -: حُكْم الأصل لابدَّ له من عِلَّة، وهي إما جهة الاشتراك أوجهة الامتياز، والثاني باطل، فيتعين الأول، وجهة الاشتراك حاصلةٌ في الفرع، فعِلَّةُ الحُكْم حاصلةٌ في الفرع، فيلزم تحقيق الحُكْم في الفرع.
وهذه الطريقة يعتبرها أصحاب الاتجاه الثالث هي طريقة السَّبْر والتقسيم من غير تفاوت.
وقولهم هذا غير مسلَّم؛ لأمورٍ ثلاثة:
(1) ينظر: (4/ 365 - 384).
(2)
ينظر: (97 - 101).
الأول: أن تنقيح المناط هو تهذيب العِلَّة وتعيينها، لا استخراجها، كما تقدَّم بيانه (1).
الثاني: أن هناك فرقاً بين تنقيح المناط وإلغاء الفارق، فتنقيح المناط لابدَّ فيه من تعيين العِلَّة، أما إلغاء الفارق فيُكْتَفَى فيه بإبطال الوصف الفارق بين الأصل والفرع وبيان أن لا مدخل له في التأثير، فبناء الفرق بين تنقيح المناط والسَّبْر والتقسيم على أن تنقيح المناط هو إلغاء الفارق دون تعيينٍ للعِلَّة لا يصح؛ لأن وظيفة المجتهد في تنقيح المناط هي تهذيب العِلَّة وتمييزها كما تقدَّم (2).
الثالث: أن تنقيح المناط له صورتان (3):
الصورة الأولى: أن يدل نصٌّ ظاهرٌ على التعليل بوصفٍ فَيُحْذَف خصوصه عن الاعتبار، ويُنَاطُ الحُكْم بالمعنى الأعِّم.
فهذه الصورة ليس فيها سَبْرٌ ولا تقسيم، وإنما يُكتفى فيها بحذف خصوص الوصف عن الاعتبار، وإناطة الحُكْم بالمعنى الأعمِّ.
الصورة الثانية: أن يقترن بالحُكْم أوصافٌ مذكورةٌ في النصِّ لا مدخل لها في العِلَّية فَتُحْذَف عن الاعتبار، ويُنَاطُ الحُكْم بالباقي.
فهذه الصورة وإن احِتيج فيها إلى السَّبْر والتقسيم إلا أنه غير منظورٍ إليه بالقصد الأصلي؛ لأن النظر متوجِّهٌ إلى تهذيب العِلَّة، وتعيينها من بين الأوصاف التي دلَّ عليها ظاهر النصِّ.
ولهذا قال ابن العطَّار: " -والفرق بين المسلك بهذا المعنى - أي: النوع الثاني من تنقيح المناط - ومسلك السَّبْر أن السَّبْر يجب فيه حصر الأوصاف الصالحة للعِلِّية، ثم إلغاؤها ما عدا ما ادُّعِيَّ عِلَّته، وتنقيح المناط بالمعنى المذكور إنما يُلاحَظ فيه الأوصاف التي دلَّ عليها ظاهر النصِّ، وإن كان
(1) ينظر: (67).
(2)
ينظر: (100 - 101).
(3)
ينظر: (71).