الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني
مراعاة اختلاف الأحوال والأزمنة والأمكنة
إن الاجتهاد في تحقيق مناطات الأحكام يستلزم مراعاة اختلاف الأحوال التي تحيط بكلِّ واقعة، والأعراف التي تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة؛ لأن الحُكْم يدور مع مناطه وجوداً وعدماً، وقد يطرأ على الوقائع من اختلاف الأحوال وتغيُّر الأعراف بحسب الأزمنة والأمكنة ما يؤثر في اختلاف الأحكام، وهو ما يجب على المجتهد مراعاته في تحقيق المناط.
قال ابن عابدين (1): " كثيرٌ من الأحكام تختلف باختلاف الزمان، لتغيُّر عُرْفِ أهلِه، أو لحدوثِ ضرورة، أو لفسادِ أهلِ الزمان، بحيث لو بقي الحُكْم على ما كان عليه أوَّلاً للزم منه المشقة والضرر بالناس، ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف واليسر ودفع الظلم والفساد، لبقاء العالم على أتمِّ نظامٍ وأحسَن أحكام .. "(2).
وهذا الضابط مبنيٌّ على أنَّ اقتضاء الأدلة للأحكام الشرعيَّة بالنسبة إلى محالِّها على وجهين (3):
أحدهما: الاقتضاء الأصلي قبل طروء العوارض، وهو الواقع على المحلِّ مجرَّداً عن التوابع والإضافات، كالحُكْم بإباحة الصيد، والبيع، والإجارة، وسَنِّ النكاح، وندب الصدقات غير الزكاة، وما أشبه ذلك.
والثاني: الاقتضاء التبعي، وهو الواقع على المحلِّ مع اعتبار التوابع
(1) هو: محمد أمين بن عمر بن عبدالعزيز صالح الدين عابدين الدمشقي، فقيه الديار الشامية، وإمام الحنفية في عصره، من مؤلفاته: رد المحتار على الدر المختار (ط) يعرف بحاشية ابن عابدين، والرحيق المختوم في الفرائض، ومجموعة رسائل نفيسة (ط)، توفي بدمشق سنة (1252 هـ).
ينظر في ترجمته: حلية البشر للبيطار (3/ 1230)، روض البشر للشطي (220)، الأعلام للزركلي (6/ 42).
(2)
نشر العَرْف (2/ 125) ضمن رسائل ابن عابدين.
(3)
ينظر: الموافقات (3/ 292).
والإضافات، كالحُكْم بإباحة النكاح لمن لا أَرَبَ له في النساء، ووجوبه على من خشي العنت، وكراهية الصيد لمن غلب عليه اللهو.
فإنْ أَخَذَ المُسْتَدِلُ الدليلَ على الحُكْم مجرَّداً عن قيد الوقوع صح الاستدلال، وإن أخذه بقيد الوقوع - وهو التنزيل على مناطٍ معين- لم يصح استدلاله إلا بالنظر إلى توابعه والإضافات المقترنة به (1).
قال الشاطبي: " ومن اعتبر الأقضية والفتاوى الموجودة في القرآن والسُّنَّة وجدها على وفق هذا الأصل "(2).
وعلى هذا فالاجتهاد في إثبات مُتَعَلَّق حُكْمٍ شرعيٍّ في بعض أفراده يستلزم أخذ الدليل على وفق الواقع بالنسبة إلى ذلك المحل، وما يحيط به من أحوالٍ وملابسات (3).
قال الشاطبي: " وعند ذلك لا يصح للعالِم إذا سُئِل عن أمرٍ كيف يحصل في الواقع إلا أن يجيب بحسب الواقع، فإن أجاب على غير ذلك أخطأ في عدم اعتبار المناط المسؤول عن حكمه؛ لأنه سُئِل عن مناطٍ مُعَيَّنٍ فأجاب عن مناطٍ غير مُعَيَّن "(4).
ومن الأمثلة على ذلك: أن يُسأل المستفتي عن حُكْم بيع الدرهم من سِكَّة كذا بدرهمٍ في وزنه من سِكَّةٍ أخرى، أو المسكوك بغير المسكوك وهو في وزنه؟ فيجيبه المسؤول بأن الدرهم بالدرهم سواءً بسواء، فمن زاد أو ازداد فقد أربى، فإنه لا يحصل له جواب مسألته من ذلك الأصل؛ إذ له أن يقول: فهل ما سألتك عنه من قبيل الرِّبا أم لا؟
أما لو سأله: هل يجوز الدرهم بالدرهم وهو في وزنه وسِكَّتِه؟ فأجابه كذلك لحصل المقصود (5).
(1) ينظر: المرجع السابق (3/ 292 - 293).
(2)
المرجع السابق: (3/ 302).
(3)
المرجع السابق: (3/ 300).
(4)
المرجع السابق: (3/ 301).
(5)
ينظر: المرجع السابق (3/ 301 - 302).
وإذا كان الاجتهاد في إثبات متعلَّق حُكْمٍ شرعيٍّ في بعض أفراده يستلزم أخذَ الدليل على وفق الواقع بالنسبة إلى ذلك المحل، فهذا يعني لزوم مراعاة اختلاف الأحوال التي تحيط بكلِّ محلٍّ، فأحوال الضعف غير أحوال القوة، وأحوال الاضطرار وعموم البلوى غير أحوال السعة والاختيار.
ومما ذكره إمام الحرمين تخريجاً على هذا الأصل: " إن الحرام إذا طبق الزمان وأهله ولم يجدو إلى طلب الحلال سبيلاً، فلهم أن يأخذوا منه قدر الحاجة في حقِّ الناس كافَّة تُنَزَّل منزلة الضرورة في حقِّ الواحد المضطر، فإن الواحد المضطر لو صابر ضرورته ولم يتعاط المَيْتَة لهلك، ولو صابر الناس حاجاتهم وتعدوها إلى الضرورة لهلك الناس قاطبة."(1).
كما يستلزم أخذُ الدليل على وفق الواقع بالنسبة إلى كلِّ محلٍّ مراعاةَ اختلاف العوائد، فقد جرت سُنَّة الله تعالى على أن عوائد الناس تختلف باختلاف أزمنتهم وأمكنتهم.
قال ابن خلدون (2): " إن أحوال العالَم والأمم وعوائدهم ونِحَلَهُم لا تدوم على وتيرةٍ واحدةٍ ومنهاجٍ مستقر، إنما هو اختلافٌ على الأيام والأزمنة، وانتقالٌ من حالٍ إلى حال، وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول {سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} (3) [غافر: 85].
وبناءً على هذا المعنى قرَّر الفقهاء قاعدة: " لا ينكر تغيُّر الاجتهاد بتغيُّر الزمان والمكان والحال "(4).
وعقد ابن القيم رحمه الله فصلاً ماتعاً في كتابه " إعلام الموقعين "(5) بعنوان:
(1) غياث الأمم في التياث الظلم: (479).
(2)
هو: عبدالرحمن بن محمد بن محمد بن خلدون، ولي الدين، الإشبيلي، مولده ونشأته بتونس، ولي قضاء المالكية بالقاهرة، وكان عالماً بالتاريخ والعمران، من مؤلفاته: العبر وديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والعجم والبربر (ط)، ووضع عليه مقدمة اشتهرت بمقدمة ابن خلدون (ط)، ورسالة في المنطق، توفي بالقاهرة سنة (808 هـ).
ينظر في ترجمته: الضوء اللامع (4/ 145)، شذرات الذهب (9/ 114)، الأعلام للزركلي (3/ 330).
(3)
تاريخ ابن خلدون: (1/ 37 - 38).
(4)
ينظر: أنوار البروق في أنواء الفروق (1/ 45)، الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام (231)، الفتاوى الكبرى لابن تيمية (2/ 271)، نشر العَرْف (2/ 131) ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين، درر الحكام شرح مجلة الأحكام (1/ 47)، شرح القواعد الفقهية للزرقا (227).
(5)
ينظر: (4/ 337).
" فصلٌ في تغيُّر الفتوى واختلافها بحسب تغيُّر الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيَّات والعوائد ".
وقال في بيان أهميته: " هذا فصلٌ عظيم النفع جداً، وقد وقع بسبب الجهل به غلطٌ على الشريعة أوجبَ من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يُعْلم أن الشريعة الباهرة التي هي أعلى رتب المصالح لا تأتي به"(1).
ثم أقام الأدلة على صحة ذلك، وذكر عليه أمثلةً كثيرةً من أبواب فقهية متفرِّقة (2).
ومن الأمثلة التي ذكرها على تغيُّر الفتوى بتغيُّر العرف والعادة: الاجتهاد في موجبات الأيمان والإقرار والنُّذور، وألفاظ الطلاق والعتاق والأوقاف والوصايا، وغيرها مما يتعلق اللفظ فيها بعُرْف المتكلِّمين به (3).
وقال رحمه الله: " لا يجوز له أن يفتي في الإقرار والأيمان والوصايا وغيرها مما يتعلق اللفظ بما اعتاده هو من فَهِمَ تلك الألفاظ دون أن يعرف عُرْف أهلها والمتكلِّمين بها فيحملها على ما اعتادوه وعرفوه، وإلا كان مخالفاً لحقائقها الأصلية، فمتى لم يفعل ذلك ضلَّ وأضلّ "(4).
ومما يتخرَّج - أيضاً - على هذا الأصل: تغيُّر بعض الأحكام المتعلِّقة بالنقود في المعاملات، والعيوب في البيوعات، وذلك بحسب تغيُّر العوائد في تلك الأحكام.
قال القرافي: " الأحكام المترتِّبة على العوائد تدور معها كيفما دارت، فتبطل معها إذا بطلت، كالنقود في المعاملات، والعيوب في الأعراض في البياعات ونحو ذلك، فلو تغيَّرت العادة في النقد، والسِّكَّة إلى سِكَّةٍ أخرى لحُمِل الثمنَ في البيع عند الإطلاق على السِّكَّة التي تجدَّدت العادة بها دون ما قبلها، وكذلك إذا كان الشيء عَيْبَاً في الثياب في عادةٍ رددنا به المبيع، فإذا
(1) المرجع السابق.
(2)
ينظر: المرجع السابق (4/ 337 - 552).
(3)
ينظر: المرجع السابق (4/ 426 - 470).
(4)
المرجع السابق: (6/ 151).
تغيَّرت العادة، وصار ذلك محبوباً موجباً لزيادة الثمن لم تُرَدَّ به، وبهذا القانون تُعتَبر جميع الأحكام المترتِّبة على العوائد، وهو تحقيقٌ مُجْمَعٌ عليه بين العلماء، لا خلاف فيه " (1).
وهذه القاعدة ليست على إطلاقها، إنما تختصُّ بالأحكام الاجتهادية التي تُبْنَى على المصلحة المرسلة أو العوائد المُعْتَبرة؛ لأن وجوه المصالح والعوائد تتغيَّر بتغيُّر الأزمنة والأمكنة، أما الأحكام الثابتة بالنصِّ أو الإجماع كأصول الدين، وأركان الإسلام، وما عُلِمَ من الدِّين بالضرورة، والحدود، والمقدَّرات الشرعيَّة، ونحو ذلك، فإنها لا تتغيَّر بتغيُّر الأزمنة والأمكنة، وإلا أدَّى ذلك إلى إبطال الشرع بتحريم ما أحلَّ الله، أو تحليل ما حرَّم الله، تحت دعوى تغيُّر الأحكام بتغيُّر الأزمنة والأمكنة (2).
وقد ذكر الشاطبي أن العادات على ضربين (3):
أحدهما: العوائد الشرعيَّة التي أقرَّها الدليل الشرعي أو نفاها، ومعنى ذلك أن يكون الشرع أَمَرَ بها إيجاباً أو ندباً، أو نهى عنها كراهةً أو تحريماً، أو أَذِنَ فيها فعلاً أو تركاً.
والثاني: العوائد الجارية بين الخلق بما ليس في نفيه ولا اتباعه دليلٌ شرعي.
فأمَّا الأول فثابتٌ أبداً كسائر الأمور الشرعيَّة، كالأمر بإزالة النجاسات، وستر العورات، فهذه العادات لا تبديل لها.
وأما الضرب الثاني فمنها: ما يكون مُتَبَدِّلاً في العادة من حُسْن إلى قُبْحٍ والعكس، مثل كشف الرأس، فإنه يختلف بحسب البقاع في الواقع، فهو لذوي المروءات قبيحٌ في البلاد المشرقية، وغير قبيحٍ في البلاد المغربية،
(1) أنوار البروق في أنواء الفروق: (1/ 176).
(2)
ينظر: إغاثة اللهفان لابن القيم (1/ 330)، المدخل إلى مذهب الإمام أحمد لابن بدران (1/ 243)، نشر العُرْف (2/ 125) ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين، درر الحكام شرح مجلة الأحكام (1/ 43)، المدخل الفقهي العام للزرقا (2/ 941).
(3)
ينظر: الموافقات (2/ 488 - 491).
فالحُكْم الشرعي يختلف باختلاف ذلك، فيكون عند أهل المشرق قادحاً في العدالة، وعند أهل المغرب غير قادح؛ لأن ما يختلف بحسب العادات يتنزَّل الحُكْم عليه بحسب
…
ذلك (1).
ومنها: ما يختلف في الأفعال في المعاملات ونحوها، كما إذا كانت العادة في النكاح قبض الصداق قبل الدخول، أو في البيع الفلاني أن يكون بالنقد لا بالنسيئة، أو بالعكس، أو إلى أجلِ كذا دون غيره، فالحُكْم أيضاً جارٍ على ذلك بحسب تلك العوائد (2).
وتغيُّر الاجتهاد أو الفتوى ليس راجعاً إلى خطاب الشارع في ذاته؛ لأن الحُكْم الشرعي لا يتغيَّر متى كان المناط واحداً في كلِّ صورة، وإنَّما يرجع التغيُّر هنا إلى اختلاف مناط الحُكْم، إما لاختلاف صورة المحكوم عليه، أو بسبب العوارض الطارئة عليه، فيكون داخلاً تحت أصلٍ شرعيٍّ آخر.
قال الشاطبي: " فاعلم أن ما جرى ذكره هنا من اختلاف الأحكام عند اختلاف العوائد فليس في الحقيقة باختلافٍ في أصل الخطاب؛ لأن الشرع موضوعٌ على أنه دائمٌ أبديٌّ، لو فرض بقاء الدنيا من غير نهاية والتكليف كذلك لم يحتج في الشرع على مزيد، وإنما معنى الاختلاف أن العوائد إذا اختلفت رجعت كلُّ عادةٍ إلى أصلٍ شرعيٍّ يُحُكْم به عليها "(3).
ولما كانت الأحكام المترتِّبة على العوائد تدور معها كيفما دارت، وهي تختلف بحسب الأزمنة والأمكنة، اشْتُرط في المجتهد أن يكون عارفاً بعادات الناس وأحوالهم، وإلا عاد اجتهاده على مقاصد الشريعة بالإبطال.
قال ابن القيم: " فهذا - أي: معرفة الناس - أصلٌ عظيمٌ يحتاج إليه المفتي والحاكم، فإن لم يكن فقيهاً فيه فقيهاً في الأمر والنهي، ثم يُطَبِّق أحدهما على الآخر، وإلا كان ما يُفْسِد أكثر مما يُصْلِح .. "(4).
(1) ينظر: المرجع السابق (2/ 489).
(2)
ينظر: المرجع السابق (2/ 490).
(3)
الموافقات: (2/ 491).
(4)
إعلام الموقعين: (6/ 113).
وإذا وَرَدَت على المفتي مسألةٌ يبنى فيها الحُكْم على عرف بلد المستفتي وجب على المفتي أن يفتيه بحسب عرف ذلك السائل إن كان يعلمه، أو يستفصل عن ذلك العرف إن كان يجهله.
قال ابن القيم: " مهما تجدَّد في العرف فاعتبره، ومهما سقط فألغه، ولا تجمد على المنقول في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجلٌ من غير إقليمك يستفتيك فلا تُجْرِهِ على عرف بلدك، وسَلْهُ عن عرف بلده فأَجْرِهِ عليه، وأَفْتِهِ دون عرف بلدك والمذكور في كتبك "(1).
بل اعتبر القرافي عدم مراعاة اختلاف العوائد في الاجتهاد خلاف الإجماع، ومن الجهالة في الدِّين حيث قال:" إن إجراء الأحكام التي مدركها العوائد مع تغيُّر تلك العوائد خلاف الإجماع، وجهالةٌ في الدين، بل كلُّ ما هو في الشريعة يتبع العوائد يتغيُّر الحُكْم فيه عند تغيُّر العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجدِّدة .. "(2).
وبناء على ذلك فقد قرر مجمع الفقه الإسلامي في دورته السابعة عشر أن من شروط الإفتاء: " المعرفة بأحوال الناس وأعرافهم وأوضاع العصر ومستجداته، ومراعاة تغيُّرها فيما بُنِيَ على العرف المعتبر الذي لا يصادم النصّ "(3).
والمقصود مما تقدم بيانه أن الاجتهاد في تحقيق مناطات الأحكام الشرعيَّة يستلزم مراعاة اختلاف الأحوال التي تحيط بكلِّ واقعة، والعوائد التي تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة؛ لأن الحُكْم يدور مع مناطه وجوداً وعدماً، وقد يطرأ على الوقائع من اختلاف الأحوال وتغيُّر العوائد ما يقتضي اختلاف أحكامها.
(1) إعلام الموقعين: (4/ 470).
(2)
الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام: (218).
(3)
قرار مجمع الفقه الإسلامي رقم (153) في دروته (17).