الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس
الإحرام بالحج أو العمرة للقادمين جواً بالطائرة
الإحرام لغةً هو: الدخول في الحرمة، يُقال: أحرَمَ الرجلُ إذا دخل في حُرْمَة عهدٍ أو ميثاق ، فيمتنِع عليه ما كان حلالاً له (1).
واصطلاحاً هو: نية الدخول في النُّسُك ، من حجٍّ أو عمرة، أو هما معاً (2).
وقد حدَّد الرسول صلى الله عليه وسلم مواقيت مكانيةٍ مخصوصةٍ لمن أراد أن يُحْرِم بالحج أو العمرة أو بهما معاً ، لايجوز لأحدٍ أن يتعدَّاها حتى يُحْرِم منها.
فعن ابن عباسٍ (3) رضي الله عنهما: «أن النبي صلى الله عليه وسلم وقَّت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل اليمن يلملم، ولأهل نجد قرناً، فهنَّ لهنَّ ولمن أتى عليهنّ، من غير أهلهنّ ممن كان يريد الحج والعمرة، فمن كان دونهنَّ فمن أهلِه ، حتى إن أهل مكة يُهِلُّون منها» (4).
وبناءً على هذا النصِّ الصريح فإنه يجب على كلِّ من أراد أن يُحْرِم بالحج أو العمرة أو بهما معاً أن يُحْرِم من هذه المواقيت المخصوصة إذا أتى عليها طريقُه ، أمإذا لم يكن طريقُه يمرُّ بأحد تلك المواقيت فإنه يُحْرِم بمحاذاة أقرب ميقاتٍ من طريقه الذي يسلكه إلى مكة. (5).
(1) ينظر: لسان العرب (12/ 119 - 120) ، تاج العروس (31/ 453 - 454) مادة"ح ر م".
(2)
ينظر: مواهب الجليل للحطاب (3/ 15) ، مغني المحتاج للشربيني (2/ 230) ، شرح منتهى الإرادات
…
للبهوتي (1/ 596).
(3)
هو: أبو العباس عبدالله بن عباس بن عبدالمطلب القرشي الهاشمي، حبر الأمة، وترجمان القرآن،
…
صحابيٌ جليل، لازم النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه أحاديث كثيرة، توفي بالطائف سنة (68 هـ).
ينظر في ترجمته: الاستيعاب (3/ 933)، الإصابة (6/ 130)، الأعلام للزركلي (4/ 95).
(4)
أخرجه البخاري في "صحيحه"،كتاب الحج ، باب مهل من كان دون المواقيت، رقم (1529) ،وأخرجه مسلم
…
في "صحيحه"،كتاب الحج، باب مواقيت الحج والعمرة ، رقم (1181).
(5)
ينظر: روضة الطالبين (3/ 39 - 40) ، تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق (2/ 7) ، مواهب الجليل (3/ 33 - 35) ،
شرح منتهى الإرادات (2/ 402).
وذلك لِما ثبت عن ابن عمر (1) رضي الله عنهما، حيث قال: لما فتح هذان المصران- أي: البصرة والكوفة- أتوا عمرَ، فقالوا: يا أمير المؤمنين، «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدَّ لأهل نجد قرناً» ، وهو جورٌ عن طريقنا، وإنَّا إن أردنا قرناً شقَّ علينا، قال: فانظروا حذوها من طريقكم، فحدَّ لهم ذات عِرق (2).
وإذا ثبت هذا الحُكْم في حقِّ من مرَّ على الميقات أو حاذاه عن طريق البَرِّ: فهل يشمل هذا الحُكْم القادمين جواً بالطائرة ممن أراد الحج أو العمرة؟ وإذا كان يشملهم: فكيف يمكن معرفة نقطة المحاذاة لأقرب ميقاتٍ أثناء سير الطائرة في الجو؟ وكيف يكون الإحرام في الطائرة مع شدة سرعتها أثناء مرورها بنقطة المحاذاة؟
لقد بحث مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي هذه المسألة في دورته الثالثة بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8 - 13 صفر 1407 هـ، الموافق 11 - 16 تشرين الأول (أكتوبر) 1986 م، وبعد اطلاعه على البحوث المقدمة بخصوص موضوع الإحرام للقادم للحج والعمرة بالطائرة والباخرة قرر ما يأتي:
"المواقيت المكانية التي حددتها السُّنَّة النبوية يجب الإحرام منها لمريد الحج أو العمرة للمارِّ عليها أو للمحاذي لها أرضاً أو جواً أو بحراً. . . ".
كما بحث -أيضاً- مجلسُ المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي موضوعَ الإحرام من جدة ، وما يعترض الحجاج القادمين عن طريق البحر والجو بخصوص الإحرام من المواقيت المخصوصة ، وذلك في دورته الخامسة المنعقدة (من 8 - 16/ 4/ 1402 هـ الموافق 4/ 2/ 1982 م)،وبعد التدارس واستعراض النصوص الشرعيَّة الواردة في ذلك أصدر المجلس قراراً فقهياً وَرَدَ فيه ما نصُّه:
(1) هو: أبو عبدالرحمن عبدالله بن عمر بن الخطاب العدوي، صحابي جليل، شهد فتح مكة، وكان يفتي
…
الناس ستين سنة، توفي بمكة سنة (73 هـ).
ينظر في ترجمته: الاستيعاب (3/ 950)، الإصابة (6/ 167)، الأعلام للزركلي (4/ 108).
(2)
أخرجه البخاري في "صحيحه" ،كتاب الحج ، باب: ذات عرق لأهل العراق، رقم (1531).
" إن المواقيت التي وقَّتها النبيُّ صلى الله عليه وسلم ، وأوجبَ الإحرامَ منها على أهلها ، وعلى من مَرَّ عليها من غيرهم ممن يريد الحج والعمرة ، وهي:
…
ذو الحليفة لأهل المدينة ،ومن مَرَّ عليها من غيرهم ، وتُسَمَّى حالياً (أبيار علي) ، والجحفة وهي لأهل الشام ومصر والمغرب ،ومن مَرَّ عليها من غيرهم، وتُسَمَّى حالياً (رابغ) ، وقرن المنازل وهي لأهل نجد ، ومن مَرَّ عليها من غيرهم ، وتُسَمَّى حالياً (وادي مَحرَم) ، وتُسَمَّى أيضاً (السيل) ، وذات عِرق لأهل العراق وخراسان ، ومن مَرَّ عليها من غيرهم، وتُسَمَّى (الضريبة) ، ويلملم لأهل اليمن ، ومن مَرَّ عليها من غيرهم.
وقرر أن الواجب عليهم أن يُحرِموا إذا حاذوا أقربَ ميقاتٍ إليهم من هذه المواقيت الخمسة جواً أو بحراً، فإن اشتبه عليهم ذلك ولم يجدوا معهم من يرشدهم إلى المحاذاة وجب عليهم أن يحتاطوا، وأن يحرموا قبل ذلك بوقتٍ يعتقدون أو يغلب على ظنهم أنهم أحرموا قبل المحاذاة. . . " (1).
كما إن اللجنة الدائمة للإفتاء قد أصدرت فتوى فيمن أراد أن يُحْرِم بالحج أو العمرة وهو في الطائرة، ولا يعرف الميقات أثناء سير الطائرة ، وقد جاء في الفتوى مانصُّه:"إذا أراد الحج والعمرة وهو في الطائرة فله أن يغتسل في بيته، ويلبس الإزار والرداء إن شاء، وإذا بقي على الميقات شيءٌ قليلٌ أحرم بما يريد من حجٍّ أو عمرة، وليس في ذلك مشقة، وإذا كان لايعرف الميقات فإنه يسأل قائد الطائرة، أو أحد المساعدين له، أو أحد المضيفين، أو الركاب ممن يثق به من أهل الخبرة بذلك "(2).
ويمكن إبراز أوجه تطبيق الاجتهاد في المناط على هذه المسألة فيما يأتي:
أولاً: ثبت بالنصِّ كما تقدَّم أن مناط وجوب الإحرام من المواقيت
(1) قرارات المجمع الفقهي الإسلامي: (89 - 90)
(2)
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: (11/ 153).
المخصوصة شرعاً هو المرور بها أو بمحاذاتها مع قصد الحج أو العمرة (1).
وقد اجتهد مجمع الفقه الإسلامي، والمجمع الفقهي الإسلامي ، واللجنة الدائمة للإفتاء، في تحقيق مناط وجوب الإحرام من المواقيت المخصوصة في حالة المرور الجوي بتلك المواقيت أو بمحاذاتها مع قصد الحج أو العمرة؛ وذلك باعتبار أن من مَرَّ على سماء القرية أو المدينة فقد أتى عليها ، فيكون من مَرَّ بسماء الميقات أو بمحاذاته فقد أتى على الميقات أو حاذاه (2).
كما إن قوله صلى الله عليه وسلم: " .. فهُنَّ لهنَّ ولمن أتى عليهنّ، من غير أهلهنّ ممن كان يريد الحج والعمرة .. "(3) لفظٌ عام يشمل المرورَ الأرضي بالميقات، والمرورَ الجوي بسماء الميقات ، ولافرق بين سماء الميقات وأرضه في الحكم، ومَن ادعى الفرق فعليه أن يأتي بالدليل، ولا دليل (4).
وقد نصَّ مجمع الفقه الإسلامي في قراره على دخول هذه الصورة الحادثة في عموم الأحاديث الواردة في المسألة حيث جاء في القرار ما نصُّه: " المواقيت المكانية التي حددتها السُّنَّة النبوية يجب الإحرام منها لمريد الحج أو العمرة للمارِّ عليها أو للمحاذي لها أرضاً أو جواً أو بحراً؛ لعموم الأمر بالإحرام منها في الأحاديث النبوية الشريفة".
ثانياً: من ضوابط الاجتهاد في تحقيق المناط مراعاة اختلاف أحوال المكلَّفين كما تقدَّم (5) ، ومن صور ذلك مراعاة المشقة التي قد تلحقهم في تلك الأحوال ، ومراعاة اختلاف أحوالهم في مايمكن التحقُّق منه، ومالايمكن ،وما يُشتَبَهُ فيه.
وقد راعى مجلس المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي هذا
(1) ينظر: روضة الطالبين (3/ 39 - 40) ، تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق (2/ 7) ، مواهب الجليل (3/ 33 - 35) ،
شرح منتهى الإرادات (2/ 402).
(2)
ينظر: مجلة المجمع الفقهي: الدورة 3، ع 3، ج 3، س 1408 هـ، ص 1637، 1638.
(3)
تقدم تخريجه: (450).
(4)
ينظر: المرجع السابق.
(5)
ينظر: (229 - 235).
الضابط في تحقيق مناط وجوب الإحرام من المواقيت المخصوصة أثناء المرور الجوي بتلك المواقيت أو بمحاذاتها مع قصد الحج أو العمرة، وذلك في حالة من اشتبه عليه العلم بموضع المحاذاة أثناء سير الطائرة في الجو ، ولم يجد من يرشده إلى ذلك ، ومراعاة حالة سرعة الطائرة أثناء مرورها بالميقات أو بمحاذاته ، وعدم التمكُّن من إيقاع الإحرام في لحظة المرور الجوي بالميقات أو بمحاذاته؛ لسرعتها الشديدة.
حيث جاء في القرار ما نصُّه: ". . . الواجب عليهم أن يُحْرِموا إذا حاذوا أقربَ ميقاتٍ إليهم من هذه المواقيت الخمسة جواً أو بحراً، فإن اشتبه عليهم ذلك ولم يجدوا معهم من يرشدهم إلى المحاذاة وجب عليهم أن يحتاطوا وأن يُحْرِموا قبل ذلك بوقتٍ يعتقدون أو يغلب على ظنهم أنهم أحرموا قبل المحاذاة؛ لأن الإحرام قبل الميقات جائزٌ مع الكراهة، ومنعقد، ومع التحري والاحتياط، خوفاً من تجاوز الميقات بغير إحرامٍ فتزول الكراهة؛ لأنه لا كراهة في أداء الواجب
…
ولأن الله سبحانه أوجب على عباده أن يتقوه ما استطاعوا، وهذا هو المستطاع في حقِّ من لم يَمُرّ على نفس الميقات .. " (1).
فمن اشتبه عليه موضع المحاذاة ممن يقصد الحج أو العمرة أثناء سير الطائرة جواً ، ولم يحصل تنبيهٌ من قيادة الطائرة بالاقتراب من موضع المحاذاة ، ولم يجد من يرشده إلى معرفة ذلك، فإنه يجتهد بحسب وسعه في تقدير المحاذاة ، ويحتاط بأن يُحْرِم في موضعٍ يعتقد أو يغلب على ظنِّه أنه عَقَدَ إحرامَه فيه قبل المحاذاة.
أما من تبين له موضع محاذاة الميقات بتنبيهٍ من قيادة الطائرة ، أو بمعرفة أهل الخبرة ، فإنه يلزمه أن يُحرِم قبل الوصول إليه بزمنٍ يسير ، مع تقدير سرعة الطائرة؛ حتى لايقع إحرامه بعد تجاوز الميقات.
حيث جاء في فتوى اللجنة الدائمة بشأن هذه المسألة ما نصُّه: "إذا أراد الحج والعمرة وهو في الطائرة فله أن يغتسل في بيته، ويلبس الإزار والرداء إن شاء، وإذا بقي على الميقات شيءٌ قليل أحْرَمَ بما يريد من حجٍّ أو عمرة، وليس في
(1) قرارات المجمع الفقهي الإسلامي: (89 - 90).
ذلك مشقة، وإذا كان لا يعرف الميقات فإنه يسأل قائد الطائرة، أو أحد المساعدين له، أو أحد المضيفين، أو الركاب ممن يثق به من أهل الخبرة بذلك " (1).
وهذا كلُّه من صور مراعاة اختلاف أحوال المكلَّفين أثناء تحقق مناطات الأحكام على تلك الأحوال المختلفة.
ثالثاً: من مسالك تحقيق المناط الرجوعُ إلى أهل الخبرة فيما تَعتمِد معرفتُه على معرفتهم به كما تقدَّم (2).
وقد نصَّت اللجنة الدائمة للإفتاء على إرجاع العلم بموضع المحاذاة للميقات أثناء سير الطائرة جواً لأهل الخبرة والاختصاص كقائد الطائرة ومساعديه ومن لديه معرفةٌ بذلك ، فإذا بيَّنوا ذلك لزم العمل بقولهم في تحقيق مناط وجوب الإحرام قبل الوصول إلى ذلك الموضع بزمنٍ يسير.
حيث جاء في فتوى اللجنة الدائمة ما نصُّه: " .. وإذا كان لا يعرف الميقات فإنه يسأل قائد الطائرة، أو أحد المساعدين له، أو أحد المضيفين، أو الركاب ممن يثق به من أهل الخبرة بذلك "(3).
كما أصدر المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي قراراً ينصُّ على تكليف الأمانة العامة للرابطة " بالكتابة إلى شركات الطيران والبواخر بتنبيه الركاب قبل القرب من الميقات بأنهم سيمرُّون على الميقات قبل مسافةٍ ممكنة"(4).
وذلك باعتبار أن قائد الطائرة ومساعديه هم الذين يستطيعون معرفة ذلك بدقةٍ عالية ،فهم أهل الخبرة الذين يُعتَمَد على قولهم في ذلك.
فإذا تم تنبيه الركاب في الطائرة قبل القرب من الميقات أو موضعِ محاذاته بمسافةٍ يسيرة تُمَكِّنُهم من الإحرام قبل تجاوز الميقات فإنه حينئذٍ يلزم العمل بمقتضى ذلك التنبيه؛ لأنه صادرٌ عن أهل الخبرة به ، وهو من الاجتهاد في تحقيق المناط استناداً على قول أهل الخبرة فيما يتوقف تقديره أو معرفته عليهم.
(1) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: (11/ 153).
(2)
ينظر: (269 - 272).
(3)
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: (11/ 153).
(4)
قرارات المجمع الفقهي الإسلامي: (91).