الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث العاشر
إنشاء بنوك الحليب البشري والرضاع منها
بنوك الحليب هي: مؤسساتٌ متخصصةٌ تقوم بجمع اللبن الطبيعي من أمهاتٍ شتى يتبرَّعن بشيءٍ مما في أثدائهن من اللبن ، إما لكونه فائضاً عن حاجة أطفالهن، وإما لكون الطفل قد تُوفي وبقي اللبن في ثدي أمِّه، أو بأجرةٍ وقيمةٍ تُعطَى لهن مقابل اللبن المأخوذ منهن ، ومن ثم بيعه واستعماله في إرضاع الأطفال المحتاجين إلى اللبن الطبيعي بعد تعقيمه وحفظه بطريقةٍ معقَّمةٍ في قوارير خاصةٍ يتم تخزينها في ثلاجاتٍ خاصةٍ داخل تلك المؤسسات (1).
وقد بدأت فكره إنشاء بنوك الحليب خلال السبعينات من القرن العشرين في أوروبا والولايات المتحدة بعد أن انتشرت بنوك الدم وبنوك القرنية وبنوك المني وبنوك الأعضاء، ونحو ذلك (2).
ومن أهم الأسباب الداعية لهم إلى ذلك (3):
1 -
تخلِّي الأم عن طفلها بعد ولادتها له سفاحاً مع حاجته إلى الرضاعة الطبيعية لكونه خداجاً أو ناقص الوزن أو مصاباً بالتهاباتٍ حادَّةٍ مما يحتاج معه إلى الرضاعة الطبيعية.
2 -
وفاة الأم بعد ولادتها مع حاجة الطفل إلى الرضاعة الطبيعية لما تقدم.
(1) ينظر: الرضاع وبنوك اللبن ،محمد ابراهيم الحفناوي (349) ،مجلة مجمع الفقه الإسلامي (2/ 261).
(2)
ينظر: مجلة مجمع الفقه الإسلامي (2/ 261 - 263).
(3)
ينظر: المرجع السابق.
3 -
مرض الأم الذي يمنع من الرضاعة الطبيعية مع حاجة الطفل الشديدة إلى ذلك لما تقدم.
4 -
عدم وجود الحليب في ثدي الأم أو عدم كفايته لحاجة الطفل ولاسيما إذا كانت هناك حاجةٌ ماسَّةٌ إلى الرضاعة الطبيعية كما في الحالات التي تقدم ذكرها.
ونظراً لندرة وجود المرضِعة البديلة عن الأم إثر التفكك الاجتماعي في البلدان الغربية، مع الحاجة إلى تأمين الرضاعة الطبيعية للأطفال الخداج وناقصي الوزن والمصابين بالالتهابات الحادة، تم إنشاء بنوك الحليب التي تقوم بجمع اللبن الطبيعي من أمهاتٍ شتى إما تبرعاً أو بأجرةٍ ، ثم تعقيمه وحفظه في ثلاجاتٍ خاصَّةٍ بغرض بيعه واستعماله في إرضاع الأطفال المحتاجين إلى ذلك (1).
فإذا كان الأمر كما تقدم بيانه فما حُكْم إنشاء بنوك الحليب البشري والإرضاع منها؟
لقد بحث مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي هذا الموضوع ، وذلك في دورته الثانية بجدة من 10 - 16 ربيع الآخر 1406 هـ الموافق 22 - 28 كانون الأول (ديسمبر) 1985 م، وقرر المجلس ما يلي:
أولاً: منع إنشاء بنوك حليب الأمهات في العالم الإسلامي.
ثانياً: حُرْمَة الرضاع منها (2).
ويمكن إبراز أوجه تطبيق الاجتهاد في المناط على هذه المسألة فيما يأتي:
أولاً: من ضوابط الاجتهاد في تحقيق المناط التصوُّر التام لمحل
(1) ينظر: مجلة مجمع الفقه الإسلامي (2/ 261 - 263).
(2)
ينظر: قرارات مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الثانية بجدة من 10 - 16 ربيع الآخر 1406 هـ الموافق 22 - 28 كانون الأول (ديسمبر) 1985 م.
الحُكْم، ومعرفة حقيقته، وملابساته المحيطة به ، ومن أهم الوسائل الموصلة إلى ذلك الرجوع إلى أهل الخبرة والاختصاص كما تقدم (1).
وقد راعى مجلس مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي هذا الضابط بالرجوع إلى الدراسات الطبية المتخصصة في ذلك ، حيث ورد في القرار ما نصُّه: " بعد أن عُرِض على المجمع دراسةٌ فقهية، ودراسةٌ طبيَّةٌ حول بنوك الحليب، وبعد التأمل فيما جاء في الدراستين ، ومناقشة كلٍّ منهما مناقشةً مستفيضةً شملت مختلف جوانب الموضوع ، وتبيَّن منها:
أولاً: أن بنوك الحليب تجربةٌ قامت بها الأمم الغربية، ثم ظهرت مع التجربة بعض السلبيات الفنية والعلمية فيها ، فانكمشت وقلَّ الاهتمام بها.
ثانياً: أن الإسلام يَعْتَبِر الرضاعَ لُحْمَةً كلُحْمِة النَّسب يحْرُم به ما يحْرُم من النَّسب بإجماع المسلمين، ومن مقاصد الشريعة الكليَّة المحافظة على النَّسب، وبنوك الحليب مؤديةٌ إلى الاختلاط أو الريبة.
ثالثاً: أن العلاقات الاجتماعية في العالم الإسلامي توفِّر للمولود الخِداج أو ناقص الوزن أو المحتاج إلى اللبن البشري في الحالات الخاصة ما يحتاج إليه من الاسترضاع الطبيعي، الأمر الذي يغني عن بنوك الحليب .. " (2).
ثانياً: من ضوابط الاجتهاد في تحقيق المناط اعتبار مآلات الأفعال كما تقدم (3).
وقد راعى مجلس مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي هذا الضابط أثناء تحقيق مناط تحريم إنشاء بنوك الحليب ، وذلك باعتبار أنها تؤدي إلى اختلاط الأنساب والريبة فيها ، حيث يمكن أن يؤدي ذلك إلى أن يتزوج الرجل امرأةً يكون قد رضع منها أو من لبن ابنتها أو من لبن أمِّها،
(1) ينظر: (223 - 228).
(2)
ينظر: قرارات مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الثانية بجدة من 10 - 16 ربيع الآخر 1406 هـ الموافق 22 - 28 كانون الأول (ديسمبر) 1985 م.
(3)
ينظر: (223 - 240).
وذلك لأن اللبن المرتضَع لايُعْرَف هو لبن أي امرأة ، فلم ينظر -هنا- إلى مجرد تجميع لبن الأمهات فحسب، بل نظر إلى هذا الفعل من حيث ما يؤدي إليه ، ومالا يتم ترك الحرام إلا به فتركه واجبٌ وفعله محرَّم، ولذلك اشتمل القرار على تحريم إنشاء مثل هذه البنوك وتحريم الإرضاع منها باعتبار أنها وسيلةٌ للمُحرَّم (1).
ثالثاً: من ضوابط الاجتهاد في تحقيق المناط الموازنة بين المصالح والمفاسد ، ومن ذلك درء المفاسد الراجحة وإن تعلَّقت بها مصالح مرجوحة.
وقد راعى مجلس مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي هذا الضابط أثناء تحقيق مناط تحريم إنشاء بنوك الحليب ، وذلك باعتبار أنها تؤدي إلى مفسدة اختلاط الأنساب والريبة فيها ، فقد يتزوج الرجل امرأةً يحْرُم عليه الزواجُ منها لرضاعٍ محرِّم ، وهذه المفسدة معتبَرةٌ في مقابل مصلحة تأمين الحليب الطبيعي من تلك البنوك الذي يمكن الحصول عليه مباشرةً عن طريق المرضِعات المتبرِّعات أو المستأجَرات ،وهنَّ موجوداتٌ بحمد الله في المجتمعات الإسلامية ، كما يمكن الاستفادة من أنواع الحليب المصنَّعة التي تؤدي الغرض المطلوب دون ارتكاب مايؤدي إلى المفسدة الأعظم وهي اختلاط الأنساب والارتياب فيها.
رابعاً: ثبت باستقراء نصوص الشرع أن المحافظة على النَّسب ، ومنع كلِّ مايؤدي إلى اختلاطه أو الريبة فيه من أعظم مقاصد الشريعة الكليَّة، ولأجل تحقيق هذا المقصد العظيم فقد حرَّم الشارع الزِّنا ، ورتَّب عليه الحدّ ، وتوعَّد مرتكبه بأشنع العقوبات ، كما حرّم التَّبَنِّي، وشرَّع أحكاماً خاصةً بالعِدَّةِ وبراءة الأرحام، وأحكاما أخرى تتعلق بإثبات النسب وجحده كما في اللعان، وحرَّم الجَنَّة على من انتسب إلى غير أبيه ، وغيرِ ذلك من الأحكام التي تؤكد اعتناء الشارع الحكيم بضبط الأنساب وصيانتها من كلِّ مايؤدي إلى الريبة أو
(1) ينظر: قرارات مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الثانية بجدة من 10 - 16 ربيع الآخر 1406 هـ الموافق 22 - 28 كانون الأول (ديسمبر) 1985 م.
الاختلاط ، وآصرة الرضاع كآصرة النسب (1).
وقد اجتهد مجلس مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في تحقيق هذا المناط الكلِّي في تحريم إنشاء بنوك الحليب والإرضاع منها ، وذلك باعتبار أنها تتنافى مع المقصود الكلِّي من المحافظة على الأنساب ، وتؤدي إلى الاختلاط والريبة فيه.
خامساً: ثبت بالسُّنَّة الصحيحة أن مناط انتشار التحريم في الرضاع هو: " حصول الغذاء بلبن آدميةٍ يُنْبِت اللحم ويَشُدُّ العظم".
عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا رضاع إلا ما شدَّ العظمَ وأنْبَتَ اللحم"(2).
وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه أنه قال: " .. فإنما الرضاعة من المجاعة"(3).
أي: إنما الرضاعة التي تثبُت بها الحُرْمَة وتَحِلُّ بها الخلوة هي حيث يكون الرضيع طفلاً لسدِّ اللبن جوعته؛ لأن معدته ضعيفةٌ يكفيها اللبن ، وينْبُت بذلك لحمه ، فيصير كجزءٍ من المرضِعة ، فيشترك في الحُرْمَة مع أولادها، فكأنه قال لا رضاعة معتبَرةٌ إلا المُغْنية عن المجاعة أو المُطْعِمة من المجاعة (4).
وبناءً على ذلك فإنه لايُشترَط في انتشار التحريم في الرضاع المصُّ من الثدي مباشرة ، بل يحصل التحريم أيضاً بصبِّ اللبن في حَلْق الطفل أو في فَمِه من غير التقام الثدي وهو ما يسمى ب"الوَجُور"(5) ،كما ذهب إلى ذلك
(1) ينظر: مقاصد الشريعة لابن عاشور: (441 - 444).
(2)
أخرجه أبو داود في "سننه" ، برقم (2060) ،وصححه الألباني موقوفاً على ابن مسعود كما في صحيح سنن أبي داود ، رقم (1814)، وضعفه مرفوعا كما في إرواء الغليل، 7/ 223 رقم (2153).
(3)
أخرجه البخاري في "صحيحه"،كتاب الشهادات ، باب الشهادة على الأنساب ، رقم (2647) ،وأخرجه مسلم في "صحيحه"، كتاب الرضاع، باب إنما الرضاعة من المجاعة، (1455).
(4)
ينظر: شرح صحيح البخاري لابن بطال (7/ 197 - 198) ، فتح الباري لابن حجر (9/ 148) ، عمدة القاري
…
شرح صحيح البخاري للعيني (20/ 97).
(5)
الوَجور هو: الدواء ونحوه يُصَبُّ في حَلْق الطفل أو في وسط فَمِه. ينظر: الصحاح (2/ 844) ، لسان العرب (5/ 279) ، تاج العروس (14/ 349)
جمهور الفقهاء من الحنفية (1) ، والمالكية (2) ، والشافعية (3) ، والحنابلة (4).
وقد اجتهد مجلس مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في تحقيق مناط انتشار التحريم في الرضاع في اللبن المرتضَع من بنوك الحليب الذي يُسقَى به الطفل، وذلك باعتبار أنه لبن آدميةٍ يحصل به الغذاء فيشُدُّ العظمَ ويُنْبِت اللحم ، فلا فرق في ذلك بين مصِّ اللبن من الثدي مباشرةً وتناوله من القوارير التي يحفظ بها ، فكلاهما يسُدُّ الجوعَ ويحصل به الغذاء للطفل، ولما كان الخلط بين لبن الأمهات في تلك القوارير يؤدي إلى اختلاط الأنساب والريبة فيها صدر القرار في ذلك بتحريم إنشاء بنوك الحليب والرضاع منها (5).
(1) ينظر: تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق (2/ 185) ،رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين (3/ 209).
(2)
ينظر: الذخيرة للقرافي (4/ 274) ،الشرح الكبير على مختصر خليل للدردير (2/ 503).
(3)
ينظر: روضة الطالبين للنووي (9/ 6) ،مغني المحتاج (5/ 131).
(4)
ينظر: المغني (11/ 313) ،شرح منتهى الإرادات (5/ 632 - 633).
(5)
ينظر: قرارات مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الثانية بجدة من 10 - 16 ربيع الآخر 1406 هـ الموافق 22 - 28 كانون الأول (ديسمبر) 1985 م.