الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأحكام فيما لا يدرك ثبوت مُتَعَلَّق الحُكْم فيه إلا بالنظر أو السمع أو الشَّمِّ أو اللمّس أو الذوق.
المسلك الرابع: قول أهل الخبرة
.
والمراد: أن يدلَّ قول أهل الخبرة على ثبوت مناط الحُكْم في بعض أفراده.
والخبرة تعني: " المعرفة ببواطن الأمور "(1).
فالذي يعرف بواطن الأمور المتعلِّقة بعلمٍ من العلوم كالطبِّ أو الهندسة أو الفلك أو الاقتصاد أو السياسة ونحو ذلك فإنه يُطْلق عليه وصف: " الخبير" في ذلك الاختصاص.
ويُعْتَبر الاعتماد على قول أهل الخبرة من أهمِّ المسالك في تحقيق مناطات الأحكام في الوقائع والجزئيات التي لا يُدْرِكُ ثبوت مُتَعَلَّقِ الحُكْم فيها إلا من كان بصيراً بها (2).
قال السرخسي (3): " وإنما يُرْجَعُ إلى معرفة كلِّ شيءٍ إلى من له بَصَرٌ في ذلك الباب "(4).
ومثاله: الرجوع إلى قول أهل الخبرة من التُّجَّار وأرباب الصنائع في معرفة العيب الذي يُرَدُّ به المبيع مما يخفى على أكثر الناس أو يدَّعي البائع أنه ليس بعيب، فمناط ردِّ المبيع أو إنقاص الثمن هو: العيب، وتحقيق مناط العيب الذي يخفى على عامة الناس في سلعةٍ ما لايتمُّ إلا بالرجوع إلى قول أهل الخبرة من التُّجَّار وأرباب الصنائع في ذلك (5)، ولهذا ومثلِه اُعتبِر قول أهل الخبرة من مسالك تحقيق المناط.
(1) التعريفات للجرجاني (97)، التوقيف على مهمات التعاريف (306).
(2)
كتقويم المتلفات، وتقدير أروش الجنايات، وخرص الثمار في الزكاة، وكون المبيع معلوماً أو غير معلوم ونحو ذلك.
ينظر: المستصفى (3/ 485 - 486)، مجموع الفتاوى لابن تيمية (29/ 492 - 493)، الموافقات
…
(5/ 14 - 16).
(3)
هو: أبو بكر محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي، شمس الدين، عالِمٌ أصولي، من فقهاء الحنفية وأئمتهم، من مؤلفاته: المبسوط (ط)، وأصول الفقه (ط) يُعرف بأصول السرخسي، توفي في فرغانة سنة (483 هـ).
ينظر في ترجمته: الجواهر المضيئة (3/ 78)، الفوائد البهية (158)، الأعلام للزركلي (5/ 315).
(4)
المبسوط: (13/ 110).
(5)
ينظر: المغني لابن قدامة (6/ 235)، المجموع للنووي (11/ 547 - 548)، الذخيرة (5/ 82)، شرح فتح القدير لابن الهمام (6/ 354).
والأصل في اعتبار قول أهل الخبرة فيما يخفى على غيرهم حديثُ عائشة رضي الله عنها في شأن زيد بن حارثة وابنه أسامة (1) رضي الله عنهما، قالت: دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مسرورٌ تبرق أسارير وجهه، فقال: أي عائشة، ألم تري أن مجززاً المدلجي دخل فرأى أسامة وزيداً وعليهم قطيفة، وقد غطيا رؤوسهما، وبدت أقدامهما، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض" (2).
فالحديث يدلُّ على اعتبار رسول الله صلى الله عليه وسلم قولَ القائف، وبناء الأحكام عليه في المسائل التي تدخل فيها القيافة؛ لسروره صلى الله عليه وسلم بما قاله القائف، وإقراره على ذلك، وهو اعتبارٌ لقول أهل الخبرة فيما يختصُّون بمعرفته، ويتوقف بيان حكمه الشرعي على العلم به من جهتهم (3).
وقد اعتنى الفقهاء بتقرير هذا الأصل، واعتمدوا عليه في مسائل لا تُعَدُّ كثرةً، وهي منتشرةٌ في كافَّة أبواب الفقه، بل اعتبروا الخبرة شرطاً في الحُكْم على تلك الوقائع والجزئيات.
قال ابن قدامة: " الخبرة بما يُحُكْم به شرطٌ في سائر الأحكام "(4).
وكلُّ ما انفرد أهل الخبرة فيه بالعلم به وجب على الفقهاء الرجوع إليهم فيه والاعتبار بقولهم، ثم ترتيب الحُكْم الشرعي على ما تقرَّر عندهم فيه؛ ولا يؤخذ العلم بحقيقة الشيء من غير أهل الخبرة فيه، وإن كان من أعلم الناس بالحلال والحرام.
قال ابن تيمية: " .. وكون المبيع معلوماً أو غير معلومٍ لا يؤخذ عن الفقهاء بخصوصهم، بل يؤخذ عن أهل الخبرة بذلك الشيء، وإنَّما المأخوذ عنهم ما انفردوا به من معرفة الأحكام بأدلتها .... فإذا قال أهل الخبرة: إنهم
(1) هو: أسامة بن زيد بن حارثة الكناني، صحابي جليل، نشأ على الإسلام، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه حباً جماً، أمَّره النبي صلى الله عليه وسلم على الجيش قبل أن يبلغ العشرين من عمره، توفى بالجرف في آخر خلافة معاوية رضي الله عنه سنة (54 هـ).
ينظر في ترجمته: طبقات ابن سعد (4/ 61)، الإصابة (1/ 202)، الأعلام للزركلي (1/ 291)
(2)
أخرجه البخاري في " صحيحه "، كتاب الفرائض، باب القائف، برقم (6771)، وأخرجه مسلم في "صحيحه"، كتاب الرضاع، باب العمل بإلحاق القائف الولد، رقم (1459).
(3)
ينظر: الذخيرة للقرافي (10/ 241 - 245)، المغني لابن قدامة (8/ 371 - 374)، مغني المحتاج للشربيني (4/ 646 - 647) فتح الباري لابن حجر (12 - 56 - 57)، شرح صحيح مسلم للنووي (10/ 41).
(4)
المغني: (5/ 405).
يعلمون ذلك كان المرجع إليهم في ذلك، دون من لم يشاركهم في ذلك، وإن كان أعلم بالدِّين منهم .. ، ثم يترتَّب الحُكْم الشرعي على ما تَعْلَمُه أهلُ الخبرة .. " (1).
وقال ابن القيم: " وقول القائل: هذا غررٌ، ومجهولٌ، فهذا ليس حظُّ الفقيه ولا هو من شأنه، وإنما هذا من شأن أهل الخبرة بذلك، فإن عَدُّوه قِماراً أو غرراً فهم أعلم بذلك، وإنَّما حظُّ الفقيه: يَحِلُّ كذا؛ لأن الله أباحه، ويحرم كذا؛ لأن الله حرَّمه، وقال الله، وقال رسوله، وقال الصحابة، وأما أن يرى هذا خطراً وقِماراً، أو غرراً، فليس من شأنه، بل أربابه أخبر بهذا منه، والمرجع إليهم فيه، كما يُرْجَعُ إليهم في كون هذا الوصف عيباً أم لا، وكون هذا البيع مُرْبِحَاً أم لا، وكون هذه السلعة نافقةً في وقت كذا وبلد كذا، ونحو ذلك من الأوصاف الحِسِّية والأمور العرضية، فالفقهاء بالنسبة إليهم فيها مثلهم بالنسبة إلى ما في الأحكام الشرعيَّة "(2).
واعتداد الفقهاء بقول أهل الخبرة في تحقيق مناط حُكْمٍ ما فيما انفرد أهل الخبرة بالعلم به يُعْتَبر من صور التقليد الذي يُرخَّص للمجتهد فيه استثناءاً؛ لعدم قدرة المجتهد على الإحاطة بكلِّ العلوم والمعارف، وقد جرى بذلك عمل الفقهاء والقضاة في كلِّ زمانٍ ومكانٍ بلا نكير (3).
قال الشاطبي: " العلماء لم يزالوا يقلِّدون في هذه الأمور من ليس من الفقهاء، وإنما اعتبروا أهل المعرفة بما قلَّدوا فيه خاصة، وهو التقليد في تحقيق المناط "(4).
ومن ذلك: تقليد الصانع في عيوب الصناعات، والطبيب في العلم بالأدواء والعيوب، وعرفاء الأسواق في معرفة قِيَم السلع ومداخل العيوب
(1) مجموع الفتاوى: (29/ 492 - 493).
(2)
إعلام الموقعين: (4/ 4 - 5).
(3)
ينظر: شرح تنقيح الفصول للقرافي (339 - 340)، الموافقات (5/ 46 - 47).
(4)
الموافقات: (5/ 130).