الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث
اعتبار مآلات الأفعال والأقوال الصادرة عن المكلَّفين
باستقراء مصادر الشريعة ومواردها ثبت أن الأحكام التكليفية إنما وُضِعَت لتحقيق مصالح العباد وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها (1).
قال ابن تيمية: " إن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها "(2).
وعلى هذا فإن الاجتهاد في إثبات مُتَعَلَّق حُكْمٍ شرعيٍّ في بعض أفراده يستلزم اعتبار مقصود الشرع من وضع الأحكام والتكليف بها (3).
ومن أهم الأصول التي يلزم المجتهد مراعاتها للمحافظة على مقصود الشرع: اعتبار مآلات الأفعال والأقوال الصادرة عن المكلَّفين.
بل من خصائص المجتهد الرَّباني الراسخ في العلم: " أنه ناظرٌ في المآلات قبل الجواب عن السؤالات "(4).
قال الشاطبي: " النظر في مآلات الأفعال مُعْتَبرٌ مقصودٌ شرعاً، كانت الأفعال موافقةً أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعلٍ من الأفعال الصادرة عن المكلَّفين بالإقدام أو الإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل"(5).
(1) ينظر: قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/ 9)، الموافقات (2/ 12 - 13)، إعلام الموقعين (4/ 337 - 338)، مفتاح دار السعادة لابن القيم (2/ 22 - 23).
(2)
مجموع الفتاوى: (30/ 193).
(3)
ينظر: الموافقات (5/ 24 - 25).
(4)
المرجع السابق: (5/ 233).
(5)
المرجع السابق: (5/ 177).
وإنَّ عدم اعتبار نتائج الأفعال وعواقبها وآثارها المترتبة عليها قد يفضي إلى نقيض مقصود الشرع من وضع الأحكام؛ لأن " الأعمال الشرعيَّة ليست مقصودةً لأنفسها، وإنما قُصِد بها أمورٌ أُخَر هي معانيها، وهي المصالح التي شُرِعت لأجلها، فالذي عُمِل من ذلك على غير هذا الوضع فليس على وضع المشروعات "(1).
والمراد بهذا الضابط: أن ينظر المجتهد إلى مآل الحُكْم عند تحقيق مناطه في بعض أفراده، فإن كان المآل غالباً يؤدي إلى مصلحةٍ راجحةٍ أَثْبَتَ الحُكْم، وإن كان يؤدي غالباً إلى مفسدةٍ راجحةٍ مَنَعَ الحُكْم.
وذلك لأن الفعل قد يكون مشروعاً لمصلحةٍ فيه تُسْتَجْلَب أو لمفسدةٍ تُدْرأ، ولكن له مآلٌ على خلاف ذلك، فإذا أُطلق القول في الأول بالمشروعية فربَّما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدةٍ راجحة، فيكون هذا مانعاً من إطلاق القول بالمشروعية، وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية فربَّما أدَّى استدفاع المفسدة إلى مفسدةٍ راجحةٍ، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية (2).
والأدلة على صحة اعتبار مآلات الأفعال في الاجتهاد كثيرةٌ، منها:
أوّلاً: إن التكاليف مشروعةٌ لمصالح العباد، ومصالح العباد إما دنيويةٌ أو أخروية، أما الأخروية فراجعةٌ إلى مآل المكلَّف في الآخرة ليكون من أهل النعيم لا من أهل الجحيم، وأما الدنيوية فإن الأعمال مقدِّماتٌ لنتائج المصالح، فإنها أسبابٌ لمسبَّباتٍ هي مقصودةٌ للشارع، والمُسَبَّبَات هي مآلات الأسباب، فاعتبارها في جريان الأسباب مطلوب، وهو معنى النظر في المآلات (3).
ثانياً: إن مآلات الأعمال إما أن تكون مُعتَبرةٌ شرعاً أو غير مُعتَبرة، فإن
(1) المرجع السابق: (3/ 120 - 121).
(2)
ينظر: الموافقات (5/ 177 - 178).
(3)
ينظر: الموافقات (5/ 178).
اُعتبِرت فهو المطلوب، وإن لم تُعْتَبر أمكن أن يكون للأعمال مآلاتٌ مضادَّةٌ لمقصود تلك الأعمال، وذلك غير صحيح؛ لأن التكاليف مشروعةٌ لمصالح العباد، ولا مصلحةَ تُعْتَبر مطلقاً مع إمكان وقوع مفسدةٍ راجحة (1).
ثالثاً: باستقراء أدلة الشرع ثبت أن المآلات مُعتبَرةٌ في أصل المشروعية، ومن ذلك:
1 -
قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108].
فسبُّ الأوثان سببٌ في تخذيل المشركين، وتوهين أمر الشِرْك، وإذلال أهله، ولكن لمَّا وجِد له مآلٌ آخر تُعْتَبر مراعاته أرجح - وهو سبُّهم اللهَ تعالى - نُهِىَ عن هذا العمل المؤدِّي إليه مع كونه سبباً في مصلحةٍ ومأذوناً فيه لولا هذا المآل (2).
2 -
لمَّا أشير على النبي صلى الله عليه وسلم بقتل المنافقين قال عليه الصلاة والسلام: " أخاف أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه "(3).
فموجِب القتل حاصل، وهو الكفر بعد النطق بالشهادتين، والسعي في إفساد حال المسلمين كافّة بما كان يصنعه المنافقون، بل كانوا أضرَّ على الإسلام من المشركين، فقتلهم فيه درءٌ لمفسدةٍ متحقِّقِة، ولكن وُجِدَ له مآلٌ آخر تُعْتَبر مراعاته أرجح، وهو التهمة التي تبعد الطمأنينة عمن أراد الدخول في الإسلام، وهي أشدُّ ضرراً على الإسلام من بقائهم (4).
3 -
قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: " لولا أن قومك حديثٌ عهدُهم بالجاهلية، فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أُدْخِل الجدر في البيت، وأن أُلْصِق بابه
(1) ينظر: المرجع السابق (5/ 179).
(2)
ينظر: تعليقات دراز على الموافقات (5/ 180).
(3)
أخرجه البخاري في " صحيحه "، كتاب المناقب، باب ما ينهي من دعوى الجاهلية، رقم (3518)، من حديث جابر رضي الله عنه.
(4)
ينظر: تعليقات دراز على الموافقات (5/ 180 - 181).
بالأرض" (1)، وفي رواية: "لَنَقَضْتُ البيت ثم بنيتُه على أساس إبراهيم عليه السلام" (2).
فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم ترك ذلك الفعل لما قد يؤول إليه الأمر من حصول مفسدةٍ راجحةٍ، وهي أن تنكر العرب عليه ذلك ظنَّاً منهم أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يقصد هدم البيت وتغيير معالمه (3).
فهذه الأدلة وغيرها تثبت أن المآلات مُعْتَبرةٌ في الحُكْم على تصرفات المكلَّفين، وذلك بالنظر إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل من مصلحةٍ راجحةٍ أو مفسدةٍ راجحة.
بل إن الشاطبي حكى عن أبي بكر ابن العربي (4) اتفاق العلماء على اعتبار هذا الأصل في الاجتهاد (5).
والمآل المُعْتَبر عند تحقيق مناط الحُكْم في بعض أفراده هو ما كان يقينياً أو غلب على ظنِّ المجتهد حصوله بحسب العادات والتجارب والقرائن التي تفيد الظنون المُعْتَبرة كما سيأتي في مسالك تحقيق المناط (6).
فإذا تبيَّن للمجتهد يقيناً أو غلب على ظنِّه أنَّ فعلاً بعينه من أفعال المكلَّف يؤدي إلى مفسدةٍ راجحةٍ لزم المجتهد أن يَعْتَبر ذلك عند تحقيق مناط الحُكْم في ذلك الفعل.
وذلك لأن تصرُّفات المكلَّفين بالنظر إلى ما تؤول إليه من المفاسد لا تخلو من ثلاثة أقسام (7):
القسم الأول: تصرُّفٌ يفضي يقيناً إلى مفسدةٍ راجحة، كحفر البئر خلف باب الدار في الظلام بحيث يقع الداخل فيه لا محالة، وشبه ذلك، فهذا تصرُّفٌ غير مشروعٍ اتفاقاً.
(1) أخرجه البخاري في " صحيحه "، كتاب الحج، باب فضل مكة وبنياتها، رقم (1584)، وأخرجه مسلم في (صحيحه) بألفاظٍ أخرى، كتاب الحج، باب نقض الكعبة وبنائها، رقم (1333).
(2)
أخرجه البخاري في " صحيحه "، كتاب الحج، باب فضل مكة وبنيانها، رقم (1585).
(3)
ينظر: تعليقات دراز على الموافقات (5/ 181).
(4)
هو: أبو بكر محمد بن عبدالله بن محمد المعافري الإشبيلي، المعروف بابن العربي، فقيهٌ مالكي، من حفاظ الحديث، ولي قضاء إشبيلية، من مؤلفاته: أحكام القرآن (ط)، وعارضة الأحوذي في شرح سنن الترمذي (ط)، والمحصول في أصول الفقه (ط)، وغيرها، توفي قرب فاس، ودفن بها سنة (543 هـ).
ينظر في ترجمته: وفيات الأعيان (4/ 296)، الديباج المذهب (281)، الأعلام للزركلي (6/ 230).
(5)
ينظر: الموافقات (5/ 182).
(6)
ينظر: (266 - 283).
(7)
ينظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (3/ 257 - 259)، إعلام الموقعين (4/ 554 - 555)، البحر المحيط للزركشي (6/ 85 - 86)، الموافقات (3/ 54 - 55)، إرشاد الفحول (2/ 1008 - 1009).
القسم الثاني: تصرُّفٌ يفضي غالباً إلى مفسدةٍ راجحة، كبيع السلاح لأهل الحرب في زمن الفتنة بين المسلمين، وبيع العنب لمن يتخذه خمراً، ونحو ذلك، فهذا تصرُّفٌ غير مشروع، لأن غلبة الظنِّ تنزِّل منزلة القطع في الأحكام الشرعيَّة.
قال ابن فرحون (1): " ويُنزِّل منزلة التحقيق الظنُّ الغالب؛ لأن الإنسان لو وجد وثيقةً في تركة مورِّثه، أو وجد ذلك بخطِّة، أو بخطِّ من يثق به، أو أخبره عدلٌ بحقٍّ له، فالمنقول جواز الدعوى بمثل هذا، والحَلِف بمجرَّده، وهذا الأسباب لا تفيد إلا الظنَّ دون التحقيق، لكن غالب الأحكام والشهادات إنما تُبْنَى على الظنّ، وتنزَّل منزلة التحقيق"(2).
وذكر العز بن عبدالسلام أن من طرق معرفة المصالح والمفاسد الدنيوية: " الظنون المُعتَبرات "(3).
القسم الثالث: تصرُّفٌ يفضي نادراً إلى مفسدةٍ مرجوحة، كالقضاء بالشهادة في الدِّماء والأموال والفروج، مع إمكان الكذب والوهم والغلط، لكن ذلك نادرٌ فلم يُعْتَبر، واعتُبِرَت المصلحة الغالبة.
قال الشاطبي: " لأن المصلحة إذا كانت غالبةً فلا اعتبار بالندور في انخرامها؛ إذ لا توجد في العادة مصلحة عريَّةٌ عن المفسدة جملة، إلا أن الشارع إنما اعتبر في مجاري الشرع غلبة المصلحة، ولم يَعْتَبر ندور المفسدة؛ إجراءً للشرعيات مجرى العاديات في الوجود "(4).
وبهذا يتبين أن المآل المُعتَبر عند تحقيق مناط الحُكْم في بعض أفراده هو ما كان يقينياً أو غلب على ظنِّ المجتهد حصوله بحسب العادات والتجارب والقرائن التي تفيد الظنون المُعْتَبرة.
فإذا تبيَّن للمجتهد يقيناً أو غلب على ظنِّه أن فعلاً بعينه من أفعال
(1) هو: برهان الدين إبراهيم بن علي بن محمد، ابن فرحون، فقيهٌ مالكي، مغربي الأصل، رحل إلى مصر والقدس والشام، وتولى القضاء بالمدينة، ومن مؤلفاته: تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الحكام (ط)، والديباج المذهب في تراجم أعيان المذهب (ط)، وغيرهما، توفي سنة (799 هـ).
ينظر في ترجمته: الدرر الكامنة (1/ 48)، نيل الابتهاج بتطريز الديباج (34)، الأعلام للزركلي (1/ 52).
(2)
تبصرة الحكام: (1/ 148).
(3)
قواعد الأحكام: (1/ 13).
(4)
الموافقات: (3/ 74).
المكلَّف يؤدي إلى مفسدةٍ راجحةٍ، لزم المجتهد أن يَعْتَبر ذلك عند تحقيق مناط الحُكْم في ذلك الفعل، وهو اجتهادٌ " صعبُ المورد، عذبُ المذاق، محمودُ الغِبّ، جارٍ على مقاصد الشريعة "(1).
(1) الموافقات: (5/ 178).