الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الحادي عشر
إجراء عمليات التلقيح الصناعي وأطفال الأنابيب
تُعتبَر عمليات التلقيح الصناعي وأطفال الأنابيب من طرق التخصيب الطبية الحديثة في حال تعذُّر الإنجاب الطبيعي بالاتصال المباشر بين الزوج وزوجته (1).
والتلقيح الصناعي نوعان:
النوع الأول: التلقيح الصناعي الداخلي ، وهي العملية التي يتم بواسطتها أخذ كميَّةٍ مركَّزةٍ من السائل المنوي وحقنها داخل تجويف الرَّحِم (2).
ويتم إجراء التلقيح الصناعي الداخلي لعدة أسبابٍ من أهمها: (3)
1 -
وجود عائقٍ لوصول السائل المنوي إلى عنق الرَّحِم لسببٍ أو لآخر (كحالات الضعف الجنسي).
2 -
وجود أجسامٍ مضادَّةٍ بين الحيوانات المنوية وإفرازات عنق الرَّحِم.
3 -
وجود قطعٍ صغيرةٍ مشابهةٍ لبطانةٍ جدار الرَّحِم خارجةً ، أو في الحوض ،أو على المبيضين ،وهو ما يُعْرَف بالبِطانة المهاجرة التي تمنع غالباً من فرص الإخصاب.
4 -
قلة عدد الحيوانات المنوية ،وضعف حركتها ،أو شكلها ، بنسبةٍ ضئيلةٍ أو متوسطة.
(1) ينظر: أطفال الأنابيب بين العلم والشرع (53).
(2)
ينظر: أطفال الأنابيب بين العلم والشرع (79 - 80) ، طرق الإنجاب في الطب الحديث (266 - 263) ضمن
…
أبحاث فقه النوازل ، ،د. بكر أبوزيد.
(3)
ينظر: طفل الأنبوب للدكتور محمد البار (41)، أطفال الأنابيب بين العلم والشرع (37 - 38).
النوع الثاني: التلقيح الصناعي الخارجي أو ما يُسمَّى ب "طفل الأنبوب" ، وهي العملية التي يتم فيها جمع الحيوان المنوي مع البويضة في أنبوبٍ خارجيٍّ في ظل ظروفٍ معيَّنةٍ حتى يتم التخصيب ،ومن ثَمَّ تُغْرَس البويضة الملقَّحة في الرَّحِم لتواصل مراحل نموها (1).
وتعتمِد هذه العملية على أخذ البويضة من المرأة عند خروجها من المبيض ، وذلك بواسطة مسبارٍ خاصٍّ يُدخِله الطبيب في تجويف البطن عند موعد خروج البويضة من المبيض فيلتقطها ، ثم يضعها في طبقٍ ، وفي هذا الطبق سائلٌ فسيولوجي مناسبٌ لبقاء البويضة، ثم يؤخذ مني الرجل ويوضع في الطبق مع البويضة، فإذا تم تلقيح البويضة بأحد الحيوانات المنوية-وذلك يمكن مشاهدته تحت الميكروسكوب- تُركِت هذه البويضة الملقَّحة لتنقسم انقساماتها الطبيعية حتى تصبح ثمان خلايا ، ثم تُغْرَز أو تُوضَع في الرِّحِم، والمدة التي تبقى فيها البويضة في الطبق لا تعدو يومين أو ثلاثة.
ويتم إجراء ذلك لأسبابٍ من أهمها: (2)
1 -
الضعف الشديد في عدد الحيوانات المنوية وقدرتها على الحركة عند الرجل.
2 -
عدم نجاح ثلاث محاولاتٍ أو أكثر من الحقن الصناعي الداخلي.
3 -
حدوث تضادٍّ مناعيٍّ في الجهاز التناسلي للمرأة أو الرجل يمنع من فرص التخصيب.
وتنحصر صور التلقيح الاصطناعي - سواء كان داخلياً أو خارجياً - فيما يأتي: (3)
الصورة الأولى: أن يجري التلقيح بين نطفةٍ مأخوذةٍ من زوجٍ وبييضةٍ مأخوذةٍ من امرأةٍ ليست زوجته ، ثم تُزرَع تلك اللقيحة في رحِم زوجته.
(1) ينظر: أطفال الأنابيب بين العلم والشرع (86 - 98) ،طرق الإنجاب في الطب الحديث (264 - 267) ضمن أبحاث فقه النوازل، د. بكر أبوزيد.
(2)
ينظر: طفل الأنبوب للدكتور محمد البار (41)، أطفال الأنابيب بين العلم والشرع (37 - 38).
(3)
ينظر: طرق الإنجاب في الطب الحديث (272) ضمن أبحاث فقه النوازل ، د. بكر أبوزيد.
الصورة الثانية: أن يجري التلقيح بين نطفة رجلٍ غير الزوج وبييضة الزوجة ، ثم تُزرَع تلك اللقيحة في رحِم الزوجة.
الصورة الثالثة: أن يجري تلقيحٌ خارجيٌّ بين بذرتي زوجين ، ثم تُزرَع اللقيحة في رحِم امرأةٍ متطوعةٍ بحملها.
الصورة الرابعة: أن يجري تلقيحٌ خارجيٌّ بين بذرتي رجلٍ أجنبيٍّ وبييضة امرأةٍ أجنبيةٍ ، ثم تُزرَع اللقيحة في رحِم الزوجة.
الصورة الخامسة: أن يجري تلقيحٌ خارجيٌّ بين بذرتي زوجين ، ثم تُزرَع اللقيحة في رحِم الزوجة الأخرى.
الصورة السادسة: أن تؤخذ نطفةٌ من زوجٍ وبييضةٍ من زوجته ، ويتم التلقيح خارجياً، ثم تُزرَع اللقيحة في رحِم الزوجة.
الصورة السابعة: أن تؤخذ بذرة الزوج وتُحقَن في الموضع المناسب من مهبل زوجته أو رحِمها تلقيحاً داخلياً.
فإذا كانت هذه صور التلقيح الصناعي ، وتلك أنواعه ، وأسبابه، فما حكم الشرع في إجراء هذا النوع من العمليات؟
لقد بحث المجمع الفقهي الإسلامي هذه النازلة في دورته السابعة عام 1404 هـ، وفي دورته الثامنة عام 1405 هـ ، وأصدر في ذلك قراراً بجواز صورتين فقط من صور التلقيح الصناعي وهما:
-التلقيح الذي تؤخذ فيها النطفة الذَّكرية من رجلٍ متزوج ، ثم تُحقَن في رحِم زوجته نفسها.
-التلقيح الذي تؤخذ فيها البذرتان الذكرية والأنثوية من رجلٍ وامرأةٍ زوجين أحدهما للآخر، ويتم تلقيحهما خارجياً في أنبوب اختبار، ثم تُزرَع اللقيحة في رحِم الزوجة نفسها صاحبة البويضة.
أما الصور الأخرى للتلقيح الصناعي فقد نصَّ القرار على تحريمها ومنعها مطلقاً ، حيث صدر في القرار ما نصُّه: " وأما الأساليب الأخرى من أساليب التلقيح الاصطناعي، في الطريقين الداخلي والخارجي، مما سبق
بيانه، فجميعها محرَّمةٌ في الشرع الإسلامي، لا مجال لإباحة شيءٍ منها .. ".
كما بحث مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي هذا الموضوع في دورته الثالثة بعمَّان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8 - 13 صفر 1407 هـ، الموافق 11 - 16 تشرين الأول (أكتوبر) 1986 م، وأصدر في ذلك قراراً بتحريم الصور الخمس الأولى من صور التلقيح الصناعي، ومنعها منعاً باتاً (1)، وأجاز الصورتين السادسة والسابعة (2).
ويمكن إبراز أوجه تطبيق الاجتهاد في المناط على هذه المسألة فيما يأتي:
أولاً: من ضوابط الاجتهاد في تحقيق المناط التصوُّر التام للواقعة ، ومعرفة حقيقتها ، ومكوناتها، وأسبابها؛ لأن الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره كما تقدم (3).
وقد راعى مجلس المجمع الفقهي هذا الضابط ، واستهلَّ القرار الصادر في هذا الشأن بتوصيفٍ شاملٍ للتلقيح الصناعي ، وبيان أنواعه ،وطرقه ، وأسبابه.
حيث ورد في القرار ما نصُّه: " استعرض المجلس ما تحقَّق في هذا المجال من إنجازاتٍ طبيةٍ توصَّل إليها العلم والتقنية في العصر الحاضر لإنجاب الأطفال من بني الإنسان، والتغلُّب على أسباب العقم المختلفة المانعة من الاستيلاد ، وقد تبيَّن للمجلس من تلك الدراسة الوافية المشار إليها، أن التلقيح الاصطناعي بغية الاستيلاد (بغير الطريق الطبيعي وهو الاتصال الجنسي المباشر بين الرجل والمرأة) يتم بأحد طريقين أساسيين:
- طريق التلقيح الداخلي، وذلك بحقن نطفة الرجل في الموقع المناسب من باطن المرأة.
(1) ينظر: (499 - 500).
(2)
ينظر: (500).
(3)
ينظر: (223 - 228).
- وطريق التلقيح الخارجي بين نطفة الرجل وبويضة المرأة في أنبوب اختبار، في المختبرات الطبية، ثم زرع البويضة الملقَّحة (اللقيحة) في رحِم المرأة.
ولابد في الطريقين من انكشاف المرأة على من يقوم بتنفيذ العملية.
وقد تبين لمجلس المجمع من تلك الدراسة المقدَّمة إليه في الموضوع، ومما أظهرته المذاكرة والمناقشة، أن الأساليب والوسائل التي يجري بها التلقيح الاصطناعي بطريقيه الداخلي والخارجي لأجل الاستيلاد هي سبعة أساليب بحسب الأحوال المختلفة ، للتلقيح الداخلي فيها أسلوبان، وللخارجي خمسةٌ من الناحية الواقعية، بقطع النظر عن حِلِّها أو حُرمتِها شرعًا، وهي الأساليب التالية:
في التلقيح الاصطناعي الداخلي:
الأسلوب الأول: أن تؤخذ النطفة الذَّكرية من رجلٍ متزوجٍ ، وتُحقَن في الموقع المناسب داخل مهبل زوجته، أو رحِمها، حتى تلتقي النطفة التقاءً طبيعيًّا بالبويضة التي يفرزها مبيض زوجته، ويقع التلقيح بينهما، ثم العلوق في جدار الرَّحِم بإذن الله، كما في حالة الجماع ، وهذا الأسلوب يُلجَأ إليه إذا كان في الزوج قصورٌ لسببٍ ما عن إيصال مائه في المواقعة إلى الموضع المناسب.
الأسلوب الثاني: أن تؤخذ نطفةٌ من رجلٍ، وتُحقَن في الموقع المناسب من زوجة رجلٍ آخر، حتى يقع التلقيح داخليًّا، ثم العلوق في الرَّحِم، كما في الأسلوب الأول ، ويُلجَأ إلى هذا الأسلوب حين يكون الزوج عقيمًا لا بذرة في مائه، فيأخذون النطفة الذَّكرية من غيره.
في طريق التلقيح الخارجي:
الأسلوب الثالث: أن تؤخذ نطفةٌ من زوجٍ، وبويضةٍ من مبيض زوجته، فتوضعا في أنبوب اختبارٍ طبي، بشروطٍ فيزيائيةٍ معينة، حتى تلقِّح نطفةُ الزوج بويضةَ زوجته في وعاء الاختبار، ثم بعد أن تأخذ اللقيحة في الانقسام
والتكاثر، تنقل في الوقت المناسب من أنبوب الاختبار إلى رحِم الزوجة نفسها صاحبة البويضة، لتعلق في جداره، وتنمو وتتخلَّق ككل جنين، ثم في نهاية مدة الحمل الطبيعية، تلده الزوجة طفلاً أو طفلة ، وهذا هو طفل الأنبوب الذي حققه الإنجاز العلمي، الذي يسره الله، وولد به إلى اليوم عدد من الأولاد ذكورًا وإناثًا وتوائم، تناقلت أخبارها الصحف العالمية، ووسائل الإعلام المختلفة ، ويُلجَأ إلى هذا الأسلوب الثالث عندما تكون الزوجة عقيمًا، بسبب انسداد القناة التي تصل بين مبيضها ورحِمها (قناة فالوب).
الأسلوب الرابع: أن يجري تلقيحٌ خارجيٌّ في أنبوب الاختبار بين نطفةٍ مأخوذةٍ من زوجٍ وبويضةٍ مأخوذةٍ من مبيض امرأةٍ ليست زوجته (يسمونها متبرِّعة) ثم تُزرَع اللقيحة في رحِم زوجته ، ويلجؤون إلى هذا الأسلوب عندما يكون مبيض الزوجة مستأصَلاً أو معطَّلاً، ولكن رحِمها سليمٌ قابلٌ لعلوق اللقيحة فيه.
الأسلوب الخامس: أن يجري تلقيحٌ خارجيٌّ في أنبوب اختبارٍ بين نطفة رجلٍ وبويضةٍ من امرأة ليست زوجة له (يسمونهما متبرِّعَيْن)، ثم تُزرَع اللقيحة في رحِم امرأةٍ أخرى متزوجة ، ويلجؤون إلى ذلك حينما تكون المرأة المتزوجة- التي زرعت اللقيحة فيها- عقيمًا، بسبب تعطُّل مبيضها، لكن رحِمها سليم، وزوجها أيضًا عقيم ، ويريدان ولدًا.
الأسلوب السادس: أن يجري تلقيحٌ خارجيٌّ في وعاء الاختبار بين بذرتي زوجين، ثم تُزرَع اللقيحة في رحِم امرأةٍ تتطوع بحملها ،ويلجؤون إلى ذلك حين تكون الزوجة غير قادرةٍ على الحمل لسبب في رحمها، ولكن مبيضها سليمٌ منتج، أو تكون غير راغبةٍ في الحمل ترفُّهاً، فتتطوع امرأةٌ أخرى بالحمل عنها.
هذه هي أساليب التلقيح الاصطناعي الذي حقَّقَّه العلم لمعالجة أسباب عدم الحمل ، وقد نظر مجلس المجمع، فيما نشر وأذيع- أنه يتم فعلاً تطبيقه في أوربا وأمريكا- من استخدام هذه الإنجازات لأغراضٍ مختلفةٍ: منها تجاري، ومنها ما يجري تحت عنوان (تحسين النوع البشري)، ومنها ما يتم
لتلبية الرغبة في الأمومة لدى نساءٍ غير متزوجات، أو نساءٍ متزوجات لا يحملن لسببٍ فيهن، أو أزواجِهن، وما أنشئ لتلك الأغراض المختلِفة من مصارف النطف الإنسانية، التي تُحفَظ فيها نطف الرجال بصورةٍ تقانية، تجعلها قابلةً للتلقيح بها إلى مدةٍ طويلة ، وتؤخذ من رجالٍ معينين، أو غير معينين تبرُّعًا، أو لقاء عِوض، إلى آخر ما يقال إنه واقعٌ اليوم في بعض بلاد العالم المتمدِّن " (1).
كما راعى مجلس مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي هذا الضابط بالرجوع إلى الأطباء والخبراء المختصين في تصوُّر حقيقة عمليات التلقيح الصناعي ، وأنواعه ، حيث ورد في القرار ما نصُّه: " إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمَّان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8 - 13 صفر 1407 هـ، الموافق 11 - 16 تشرين الأول (أكتوبر) 1986 م، بعد استعراضه البحوث المقدمة في موضوع التلقيح الصناعي (أطفال الأنابيب) والاستماع لشرح الخبراء والأطباء، وبعد التداول الذي تبيَّن منه للمجلس أن طرق التلقيح الصناعي المعروفة في هذا الأيام هي سبعة
…
" ، ثم ذُكِرت الطرق التي تقدم بيانها.
ثانياً: من ضوابط الاجتهاد في تحقيق المناط اعتبار مآلات الأفعال كما تقدم (2).
وقد راعى مجلس مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي هذا الضابط أثناء تحقيق مناط تحريم الطرق الخمسة في التلقيح الصناعي، وذلك باعتبار ما يترتب عليها من اختلاط الأنساب ، وضياع الأمومة ، وغير ذلك من المحاذير الشرعية (3).
كما نصَّ القرار على ضرورة أخذ كل الاحتياطات اللازمة عند الحاجة
(1) قرارات المجمع الفقهي: (162 - 165).
(2)
ينظر: (236 - 240).
(3)
ينظر: قرارات مجمع الفقه الإسلامي الدولي في دورته الثالثة بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8 - 13 صفر 1407 هـ، الموافق 11 - 16 تشرين الأول (أكتوبر) 1986 م.
إلى إجراء عمليات التلقيح الصناعي بالطريقة السادسة والسابعة التي صدر القرار بجوازها عند الحاجة إلى ذلك.
وذلك تحرُّزا من الوقوع في أي خطأ يؤدي إلى اختلاط النطف أو الريبة فيها، وهو ما يتعارض مع مقصود الشريعة في صيانة الأنساب وحفظها كما تقدم.
وكذلك نصَّ القرار الصادر عن مجلس المجمع الفقهي على ذلك حيث ورد فيه: " ونظرًا لما في التلقيح الاصطناعي- بوجهٍ عام-من ملابساتٍ حتى في الصورتين الجائزتين شرعًا، ومن احتمال اختلاط النُّطَف، أو اللقائح في أوعية الاختبار، ولاسيما إذا كثرت ممارسته وشاعت، فإن مجلس المجمع الفقهي ينصح الحريصين على دينهم، ألَاّ يلجؤوا إلى ممارسته إلا في حالة الضرورة القصوى، وبمنتهى الاحتياط والحذر من اختلاط النُّطَف، أو اللقائح"(1).
ثالثاً: من ضوابط الاجتهاد في تحقيق المناط الموازنة بين المصالح والمفاسد أثناء اجتماعها في محلِّ الحكم كما تقدم (2).
وقد راعى مجلس المجمع الفقهي هذا الضابط بالموازنة بين حاجة الزوجين إلى إجراء عملية التلقيح الصناعي للمساعدة على الإنجاب من جهة، ومفسدة الكشف على عورة المرأة المغلَّظة من جهةٍ أخرى ، ورجَّحوا مصلحة التداوي بالتلقيح الصناعي إذا تحقَّق فيه ما يخفِّف المفاسد المترتِّبة على ذلك ، كأن يكون المعالِج امرأةً مسلمةً -إن أمكن ذلك- وإلا فامرأةٌ غير مسلمة، وإلا فطبيبٌ مسلمٌ ثقة، وإلا فغير مسلمٍ بهذا الترتيب، وانتفاء الخلوة بالمرأة إذا كان المعالج رجلاً وذلك بحضور زوجها أو امرأةٍ أخرى ، وأن يثبت طبياً حاجة المرأة إلى إجراء عملية التلقيح الصناعي للمساعدة على الإنجاب بإذن الله ، مع أخذ كل الاحتياطات اللازمة لمنع اختلاط النُّطَف أو الريبة فيها.
(1) قرارات المجمع الفقهي: (167).
(2)
ينظر: (499 - 500).
وذلك لأن الأصل تحريم النظر إلى عورة المرأة ولمسها ،ولاسيما العورة المغلَّظة التي لايجوز لغير زوجها النظر إليها أو لمسها ، سواءً أكان الناظر أو اللامس رجلاً أو امرأة، ولكن أجاز الفقهاء كشف العورة ونظر الأجنبي إليها لدواعي الكشف الطبي والتعليم والحاجة إلى العلاج ، باعتبار أن ذلك من الضرورات التي تبيح المحظورات ، ولكن تُقدَّر بقدرها ، فيقتصر النظر واللمس على قدر الضرورة أو الحاجة.
قال السرخسي: " وإذا أصاب امرأةً قرحةٌ في موضعٍ لا يحِلُّ للرجل أن يُنْظَر إليه ،لا يَنْظُر إليه ،ولكن يعلِّم امرأةً دواءَها لتداويها؛ لأن نظر الجنس إلى الجنس أخف
…
وإن لم يجدوا امرأةً تداوي تلك القرحة ،ولم يقدروا على امرأةٍ تعلَّم ذلك إذا علمت ، وخافوا أن تهلك أو يصيبها بلاءٌ أو وجعٌ لا تحتمله ، فلا بأس أن يستروا منها كلَّ شيءٍ إلا موضع تلك القرحة، ثم يداويها رجلٌ ويغضُّ بصرَه ما استطاع إلا عن ذلك الموضع؛ لأن نظر الجنس إلى غير الجنس أغلظ ،فيُعتبَر فيه تحقُّق الضرورة ،وذلك لخوف الهلاك عليها" (1).
وقال ابن مفلح (2): "فإن مرضت امرأةٌ ولم يوجد من يطبُّها غير رجلٍ جاز له منها نظر ما تدعو الحاجة إلى نظره منه حتى الفرجين"(3).
وقال ابن قدامة: "ويباح للطبيب النظر إلى ما تدعو إليه الحاجة من بدنها من العورة وغيرها؛ فإنه موضع حاجة"(4).
وقال ابن عابدين: "وينظر الطبيب إلى موضع مرضها بقدر الضرورة "(5).
وقد ورد في القرار ما يؤكد ذلك المعنى ، ويحقِّق مناطه في الصورتين
(1) المبسوط: (10/ 156 - 157).
(2)
هو: أبو عبدالله، شمس الدين، محمد بن مفلح بن محمد بن مفرج المقدسي الصالحي، أعلم أهل عصره
…
بمذهب الإمام أحمد بن حنبل، من مؤلفاته: الفروع (ط)، والآداب الشرعية (ط)، وأصول الفقه (ط)،
…
وغيرها توفي بدمشق سنة (763 هـ).
ينظر في ترجمته: الدرر الكامنة (4/ 262)، المقصد الأرشد (2/ 519)، الأعلام للزركلي (7/ 107).
(3)
الآداب الشرعية: (2/ 442).
(4)
المغني: (6/ 558).
(5)
حاشية ابن عابدين: (5/ 237).
الجائزتين من صور التلقيح الصناعي إذا تحقَّت الشروط اللازمة في ذلك، حيث جاء فيه ما نصُّه: " هذا، وإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي، بعد النظر فيما تجمَّع لديه من معلوماتٍ موثَّقةٍ، مما كُتِب ونُشِر في هذا الشأن، وتطبيق قواعد الشريعة الإسلامية ومقاصدها، لمعرفة حكم هذه الأساليب المعروضة وما تستلزمه، قد انتهى إلى القرار التفصيلي التالي:
أولاً: أحكامٌ عامة:
(أ) إن انكشاف المرأة المسلمة على غير من يحِلُّ شرعًا بينها وبينه الاتصال الجنسي، لا يجوز بحالٍ من الأحوال، إلا لغرضٍ مشروعٍ يعتبره الشرع مبيحًا لهذا الانكشاف.
(ب) إنَّ احتياج المرأة إلى العلاج من مرضٍ يؤذيها، أو من حالةٍ غير طبيعيةٍ في جسمها، تُسَبِّب لها إزعاجًا، يُعْتبَر ذلك غرضًا مشروعًا يبيح لها الانكشاف على غير زوجها لهذا العلاج، وعندئذٍ يتقيد ذلك الانكشاف بقدر الضرورة.
(ج) كلما كان انكشاف المرأة على غير من يحِلُّ بينها وبينه الاتصال الجنسي مباحًا لغرضٍ مشروع، يجب أن يكون المعالج امرأةً مُسْلِمَةً -إن أمكن ذلك- وإلا فامرأةٌ غير مُسْلِمَةٍ، وإلا فطبيبٌ مُسْلِمٌ ثقة، وإلا فغير مُسْلِمٍ بهذا الترتيب.
ولا تجوز الخلوة بين المعالِج والمرأة التي يعالجها، إلا بحضور زوجها أو امرأةٍ أخرى.
ثانيًا: حكم التلقيح الاصطناعي:
1 -
إن حاجة المرأة المتزوجة، التي لا تحمل، وحاجة زوجها إلى الولد، تُعتبَر غرضًا مشروعًا، يبيح معالجتها بالطريقة المباحة، من طرق التلقيح الاصطناعي.
2 -
إن الأسلوب الأول (الذي تؤخذ فيه النطفة الذَّكرية، من رجلٍ متزوج، ثم تُحقَن في رحِم زوجته نفسها، في طريقة التلقيح الداخلي) هو
أسلوبٌ جائزٌ شرعًا، بالشروط العامة الآنفة الذكر، وذلك بعد أن تثبت حاجة المرأة إلى هذه العملية لأجل الحمل.
3 -
إن الأسلوب الثالث (الذي تؤخذ فيه البذرتان الذَّكرية والأنثوية من رجلٍ وامرأةٍ زوجين أحدهما للآخر، ويتم تلقيحهما خارجيًّا في أنبوب اختبار، ثم تُزرَع اللقيحة في رحِم الزوجة نفسها صاحبة البويضة) هو أسلوبٌ مقبولٌ مبدئيًّا في ذاته، بالنظر الشرعي، لكنه غير سليمٍ تمامًا من موجبات الشك، فيما يستلزمه، ويحيط به من ملابسات، فينبغي ألَاّ يُلجأ إليه إلا في حالات الضرورة القصوى، وبعد أن تتوفر الشرائط العامة الآنفة الذكر" (1).
وإذا تحقق العمل بهذه الضوابط المذكورة فإنه يترجح حينئذٍ جواز عملية التلقيح الصناعي على منعه ، وذلك لرجحان المصالح على المفاسد في هذه الواقعة مع توافر الضوابط المذكورة، وإن لم يتحقق العمل بالضوابط المذكورة فقد يفضي ذلك إلى مفاسد راجحة على المصالح ، فيتجه حينئذ المنع والتحريم (2).
رابعاً: ثبت باستقراء نصوص الشرع أن المحافظة على النَّسب ، ومنع كلِّ مايؤدي إلى اختلاطه أو الريبة فيه من أعظم مقاصد الشريعة الكليَّة، ولأجل تحقيق هذا المقصد العظيم فقد حرَّم الشارع الزِّنا ، ورتَّب عليه الحدّ ، وتوعَّد مرتكبه بأشنع العقوبات ، كما حرّم التَّبَنِّي، وشرَّع أحكاماً خاصةً بالعِدَّةِ ،وبراءة الأرحام، وأحكاماً أخرى تتعلَّق بإثبات النَّسَب وجحده كما في اللِّعان، وحرَّم الجنَّة على من انتسب إلى غير أبيه ، وغيرِ ذلك من الأحكام التي تؤكد اعتناء الشارع الحكيم بضبط الأنساب وصيانتها من كل مايؤدي إلى الريبة والاختلاط (3).
وقد اجتهد مجلس مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر
(1) قرارات المجمع الفقهي: (165 - 167).
(2)
ينظر: طرق الإنجاب في الطب الحديث (249) ضمن أبحاث فقه النوازل ، د. بكر أبوزيد.
(3)
ينظر: مقاصد الشريعة لابن عاشور (441 - 444) ، طرق الإنجاب في الطب الحديث ، د. بكر أبوزيد
(250 - 252).
الإسلامي في تحقيق هذا المناط الكلِّي في المنع من الطرق الخمسة المذكورة تباعاً في طرق التلقيح الصناعي ، وذلك باعتبارها تتنافى مع ذلك المقصود الكلِّي ، وتؤدي إلى اختلاط الأنساب، لأن البذرتين الذكرية والأنثوية فيها ليستا من الزوجين، أو لأن المتطوعة بالحمل هي أجنبية عن الزوجين مصدر البذرتين (1).
(1) قرارات المجمع الفقهي: (167).