الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
- عليه الصلاة السلام - في معرض الاستدلال به (1).
ثالثاً: إن الحُكْم إذا ثبت في الشرع لم يجز تركه، حتى يَرِدَ دليلٌ بنسخه وإبطاله، وليس في نفس بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ما يوجب نسخ جميع الأحكام التي قبله، فإن النسخ إنما يكون عند التنافي، وليس فيه منافاةٌ لتلك الأحكام، فوجب التمسُّك بتلك الأحكام، والعمل بها حتى يَرِدَ ما ينافيها ويزيلها (2).
المطلب الثالث: علاقة الاجتهاد في المناط بشرع مَنْ قَبْلَنا
.
تظهر علاقة الاجتهاد في المناط وبشرع مَنْ قَبْلَنا في جوانب عديدة، من أهمها مايأتي:
أولاً: إن من أهم صور الاجتهاد في المناط ما كان متعلِّقاً بنصوص الكتاب والسُّنَّة، ومعانيها، تنقيحاً وتخريجاً وتحقيقاً (3).
ويندرج تحت ذلك: الاجتهاد في مناطات الأحكام الواردة في الكتاب والسُّنَّة الصحيحة التي تُثْبِت شرع مَنْ قَبْلَنا، وليس فيها تصريحٌ بالتكليف به أو إنكاره أو نسخه.
لأن " موضع الخلاف في المسألة: أن الله تعالى إذا أخبر في القرآن -أو السُنَّة- أنه شَرَع لبعض الأمم المتقدِّمة شيئاً، وأطلق الإخبار، ولم يذكر أنه شرعٌ لنا، ولا أنه لم يشرعه لنا، ولا أنه نسخه، هل يجب علينا العمل به، أم لا؟ "(4) ،وقد ثبتت حجيَّة العمل بشرع مَنْ قَبْلَنا إذا كان كذلك (5).
(1) ينظر: روضة الناظر ، الإحكام للآمدي (4/ 176) ، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 171 - 172) ، بيان المختصر للأصفهاني (3/ 271 - 272) ، شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 287) ،التقرير والتحبير (2/ 309) ، شرح الكوكب المنير (4/ 416 - 417) ، إرشاد الفحول (2/ 984).
(2)
ينظر: العدة (3/ 760 - 761) ، كشف الأسرار (3/ 214) ،شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 287).
(3)
ينظر: (290 - 292).
(4)
نفائس الأصول: (6/ 2490).
(5)
ينظر: (346 - 347).
وبناءً على هذا فما قيل في أهمية علاقة الاجتهاد في المناط بالكتاب والسُّنَّة يقال مثله هنا ، ولا داعي لإعادة ذلك (1).
وذلك لأن المعتمد في شرع مَنْ قَبْلَنا ما ورد بطريق الوحي من كتابٍ أو سُنَّةٍ صحيحة.
ثانياً: قد يثبت حُكْمٌ في شرع مَنْ قَبْلَنا بنصِّ الكتاب أو السُّنَّة ،ويُجْتهَد في تحقيق مناطه في بعض أفراده.
ومثاله: قوله تعالى على لسان الخضر في قصته مع موسى عليه السلام لمَّا
أنكر عليه خرق السفينة {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)} [الكهف: 79].
قال ابن كثير: " هذا تفسير ما أشكل أمره على موسى عليه السلام، وما كان أنكر ظاهره وقد أظهر الله الخضر عليه السلام على باطنه، فقال: إن السفينة إنما خرقتها لأعيبها؛ لأنهم كانوا يمرُّون بها على مَلِكٍ من الظَلَمَة {يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} صالحة، أي: جيدة {غَصْبًا} فأردُّت أن أعيبها لأردّه عنها لعيبها، فينتفع بها أصحابها المساكين الذين لم يكن لهم شيءٌ ينتفعون به غيرها"(2).
وفيه: جواز إفساد بعض المال إذا كان فيه صلاحٌ لأكثره (3).
وقد اجتهد العلماء في تحقيق مناط هذا الحُكْم في مسألة: مصالحة ولي اليتيم السلطانَ على أخذ بعض مال اليتيم؛ وذلك خشيةَ ذهابه بجميعه، فأجازوا بذل بعض مال اليتيم من أجل المحافظة على أكثره في حال طمع السلطان في أخذه كلِّه أو أكثره (4).
قال القرطبي: " في خرق السفينة دليلٌ على أن للولي أن يُنْقِصَ مال اليتيم إذا رآه صلاحاً، مثل أن يخاف على ريعه ظالماً فيخرب بعضه "(5).
(1) ينظر: (286 - 306).
(2)
تفسير القرآن العظيم (5/ 184).
(3)
ينظر: فتح الباري لابن حجر (8/ 422).
(4)
ينظر: المرجع السابق.
(5)
الجامع لأحكام القرآن: (11/ 19).
ففي هذا المثال ثبت حُكْمٌ في شرع مَنْ قَبْلَنا بنصِّ الكتاب، وليس فيه تصريحٌ بالتكليف به، أو إنكاره، أو نسخه، فثبت الاحتجاج به.
ثم اجتهد في تحقيق مناطه في مسألة: مصالحة ولي اليتيم السلطان على أخذ بعض مال اليتيم خشية ذهاب مُعْظَمِه.
وقد روعي في ذلك ضابطٌ من أهم ضوابط تحقيق المناط ، وهو: الموازنة بين المصالح والمفاسد المتعارِضة، وارتكاب أخفِّ الضررين لدفع أشدِّهما (1).
(1) ينظر: (245 - 256).