الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وتتعلَّق بحفظ نوعٍ واحدٍ من الكليَّات الخمس كالدِّين أو النفس أو العقل أو النسل أو المال، إلا أن بعضها يتعلَّق بالعموم، وبعضها يتعلَّق بالخصوص، فإنه يُقْدَم درء المفاسد العامّة على المفاسد الخاصّة، ويُتَحَمَّل الضرر الخاص لدفع الضرر العام (1).
مثاله: جواز التسعير إذا تواطأ التُّجار على رفع أسعار السلع الضرورية وبيعها بغنىً فاحش؛ وذلك لأنَّ المفسدة في رفع أسعار تلك السلع تتعلَّق بعموم الناس، ومفسدة التسعير بثمن المثل تتعلَّق بخصوص التُّجار، فَيُقَدَّم درء المفسدة العامَّة على المفسدة الخاصَّة (2).
والضابط الكليُّ الجامع في الموازنة بين المفاسد المتعارضة هو: دفع أعظم المفسدتين بارتكاب أدناهما وأخفِّهما ضرراً، وذلك بحسب مقاصد النظر إلى الشرع لا من حيث أهواء النفوس.
القسم الثالث: الموازنة بين المصالح والمفاسد المتعارضة
.
إذا تعارضت عدَّة مصالحٍ ومفاسد في محلٍّ واحدٍ، وتعذَّر تحصيل المصالح ودرء المفاسد معاً، فإنه يُصَار للترجيح بينها بحسب ما يأتي:
- إذا كانت المصالح والمفاسد المتعارضة مختلفةً في مراتبها، بأن كانت المصالح تتعلَّق - مثلاً - بالضروريات، والمفاسد تتعلَّق بالحاجيات أو التحسينيات، فإنه يُقَدَّم طلب المصلحة على درء المفسدة؛ لأنها أعظم رتبةً من الأخرى (3).
مثاله: جواز التلفُّظ بكلمة الكفر لمن أُكِره على ذلك وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان؛ لأن حفظ المُهَج والأرواج مصلحةٌ ضروريةٌ أكمل من مفسدة التلفُّظ
(1) ينظر: الموافقات (3/ 57 - 58)، الأشباه والنظائر لابن نجيم (96)، درر الحكام شرح مجلة الأحكام (1/ 40)، شرح القواعد الفقهية للزرقا (197).
(2)
ينظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (28/ 77)، الطرق الحكمية لابن القيم (208 - 209)، غمز عيون البصائر (1/ 282)، المدخل الفقهي للزرقا (2/ 995 - 996).
(3)
ينظر: الإبهاج (3/ 65)، مجموع الفتاوى لابن تيمية (20/ 538)، القواعد للمقَّري (2/ 443)، الموافقات (2/ 46)، (3/ 96 - 97).
بكلمةٍ لا يعتقدها الجنان، ولو صبر عليها لكان أفضل؛ لما فيه من إعزاز الدِّين وإجلال رب العالمين (1).
أو كانت المفاسد -مثلاً- تتعلَّق بالضروريات، والمصالح تتعلَّق بالحاجيات أو التحسينيات، فإنه يُقْدَّم درء المفسدة على جلب المصلحة؛ لأنها أعظم رتبةً من الأخرى، واعتناء الشرع بالمنهيات أشدُّ من اعتنائه بالمأمورات (2).
مثاله: تحريم بيع السلاح في زمن الفتنة بين المسلمين، فإنه وإن كان في بيعه مصلحةٌ حاجيَّةٌ للبائع إلا أنه قد يحصل بسبب ذلك إراقة الدماء، فيُقَدَّم درء المفسدة التي تتعلَّق بحفظ ضروريٍّ وهو النفس على جلب مصلحةٍ حاجيَّةٍ وهي تحقيق الربح للبائع (3).
- وإذا كانت المصلحة والمفسدة المتعارضتان متساويتين في مراتبهما، ولكنهما مختلفتان في النوع، بأن كانتا من الضروريات، لكن المصلحة تتعلَّق بحفظ الدين، والمفسدة تتعلَّق بحفظ النفس أو العقل أو النسل أو المال، فإنه يُقْدَّم جلب المصلحة المتعلِّقة بحفظ الدِّين على درء المفسدة المتعلِّقة بحفظ النفس أو العقل أو النسل أو المال (4).
مثاله: تقديم الجهاد في سبيل الله الذي يتعلَّق بحفظ الدِّين على درء المفسدة التي تتعلِّق بحفظ النفس؛ لأن حفظ الدِّين وقيامه أكمل مصلحةٍ من مفسدة فوات النفس (5).
قال الشاطبي: " وقد تكون المفسدة مما يُلغى مثلها في جانب عِظَمِ المصلحة، وهو ما ينبغي أن يُتَفَق على ترجيح المصلحة فيه "(6).
(1) ينظر: قواعد الأحكام لابن عبدالسلام (1/ 137)، الموافقات (3/ 124).
(2)
ينظر: الأشباه والنظائر لابن السبكي (1/ 105)، الموافقات (5/ 300)، الأشباه والنظائر للسيوطي (87)، الأشباه والنظائر لابن نجم (90)، شرح الكوكب المنير (4/ 447).
(3)
ينظر: الموافقات (3/ 54)، إعلام الموقعين (5/ 63 - 64).
(4)
ينظر: قواعد الأحكام (1/ 136 - 149).
(5)
ينظر: الموافقات (2/ 64)، مقاصد الشريعة لابن عاشور (296).
(6)
الموافقات: (3/ 96).
أو قد تكون المفسدة تتعلَّق بحفظ النفس، والمصلحة تتعلَّق بحفظ العقل أو النسل أو المال، فإنه يُقْدَّم درء المفسدة على جلب المصلحة (1).
مثاله: جواز شقِّ جوف المرأة عن الجنين المرجو حياته؛ لأن فوات حياته أعظم مفسدةً من مصلحة حفظ حُرْمَة أُمِّه، فيُقْدَّم درء المفسدة التي تتعلَّق بحفظ النفس على جلب المصلحة التي تتعلَّق بغير ذلك كالعقل أو النسل أو المال (2).
- وإذا كانت المصلحة والمفسدة المتعارضتان متساويتين في الرتبة والنوع، وكانت المصلحة تتعلَّق بالعموم، والمفسدة تتعلَّق بالخصوص، بأن كانت من الضروريات، وتتعلَّق بحفظ نوعٍ واحدٍ من الكليَّات الخمس كالدِّين أو النفس أو العقل أو النسل أو المال، وكانت المصلحة عامَّة، والمفسدة خاصَّة، فإنه يُقْدَّم جلب المصلحة العامَّة على المفسدة الخاصَّة (3).
مثاله: تضمين الصُنَّاع إذا هلكت العين المؤجرة بأيديهم دون تعدٍ منهم أو تفريط، لأنَّ في ذلك مصلحةً عامَّةً للناس تتعلَّق بحفظ أموالهم، رغم أنَّ فيه مفسدةً خاصَّةً وهي تضمين الصانع ما تلف عنده (4).
أو كانت المفسدة عامَّة، والمصلحة خاصَّة، فإنه يُقَدَّم درء المفسدة العامَّة على جلب المصلحة الخاصَّة (5).
مثاله: منع بيع الحاضر للباد، فإن في ذلك رفعاً للأسعار تعود مصلحته للبادي وهي مصلحةٌ خاصَّة، إلا أنه يُلْحِق الضرر بعامَّة الناس بسبب احتكار السلعة والتحكُّم في سعرها، فيُقْدَّم درء المفسدة العامَّة على جلب المصلحة الخاصَّة (6).
(1) ينظر: قواعد الأحكام (1/ 141 - 142)، الأشباه والنظائر لابن نجيم (99)، الأشباه والنظائر للسيوطي (87).
(2)
ينظر: المرجع السابق.
(3)
ينظر: الموافقات (3/ 57 - 58).
(4)
ينظر: المرجع السابق.
(5)
ينظر: المرجع السابق.
(6)
ينظر: المرجع السابق.
والضابط الكُلِّيُّ الجامع في الموازنة بين المصالح والمفاسد المتعارضة في محلٍّ واحدٍ هو: ترجيح الأعظم منها، فإن كانت جهة المصلحة أعظم كان جلب المصلحة أولى من درء المفسدة، وإن كانت جهة المفسدة أعظم كان درء المفسدة أولى من جلب المصلحة، وذلك بحسب مقاصد الشارع التي هي عماد الدِّين والدنيا لا بحسب أهواء النفوس، وعلى ذلك جرت تصرفات الشارع الحكيم (1).
قال ابن تيمية: "العمل إذا اشتمل على مصلحةٍ ومفسدةٍ فإن الشارع حكيم، فإن غلبت مصلحته على مفسدته شَرَعَهُ، وإن غلبت مفسدته على مصلحته لم يشرعه، بل نهى عنه"(2).
وعلى هذا فإن الاجتهاد في إثبات مُتعلَّق حُكْمٍ شرعيٍّ في بعض أفراده يستلزم الموازنة بين المصالح والمفاسد؛ لأن مقصود الشريعة من وضع الأحكام هو جلب المصالح وتكميلها، ودرء المفاسد وتقليلها، وهذا المقصد لابدَّ من اعتباره أثناء الاجتهاد في تحقيق مناطات الأحكام في الأحوال والأشخاص.
(1) ينظر: الموافقات (2/ 64).
(2)
مجموع الفتاوى: (11/ 623).
الفصل الخامس
مسالك تحقيق المناط
ويشتمل على تمهيد ومبحثين:
المبحث الأول: المسالك النقلية.
المبحث الثاني: المسالك الاجتهادية.