الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلي ، وليست في ذاتها دليلاً مستقلاً في إثبات الأحكام، ولذلك يصح إدراجها ضمن الأدلة التبعية.
المطلب الثاني: حُجِّية المصلحة المُرْسَلة
.
المصلحة المُرْسَلة دليلٌ مُعتَبرٌ وحُجَّةٌ تثبت بها الأحكام الشرعيَّة متى استوفت شروط العمل بها.
وقد ذهب إلى ذلك: الإمام مالك (1).
وعند التحقيق نجد أن الفقهاء جميعاً في مختلف المذاهب يعملون بها.
قال الغزالي: " وإذا فسَّرنا المصلحة بالمحافظة على مقصود الشرع فلا وجه للخلاف في اتِّباعها، بل يجب القطع بكونها حُجَّة"(2).
وقال القرافي: " وأما المصلحة المُرْسَلة فالمنقول أنها خاصَّةٌ بنا، وإذا افتقدت المذاهب وجدتهم إذا قاسوا وجمعوا وفرَّقوا بين المسألتين لا يطلبون شاهداً بالاعتبار لذلك المعنى الذي به جمعوا وفرَّقوا، بل يكتفون بمُطْلَق المُناسبَة، وهذا هو المصلحة المُرْسَلة، فهي حينئذٍ في جميع المذاهب"(3).
وقال ابن دقيق العيد: " نعم، الذي لا شك فيه أن لمالِك ترجيحاً على غيره من الفقهاء في هذا النوع، ويليه أحمد بن حنبل، ولا يكاد يخلو غيرهما عن اعتباره في الجملة، ولكن لهذين ترجيحٌ في الاستعمال على غيرهما "(4).
والمصلحة بهذا الاعتبار لم يختلف أحدٌ باتخاذها أصلاً من أصول الشرع، ولكن اختلاف العلماء كان بالأسماء لا بالمُسمَّيات، بمعنى أنه اختلافٌ لفظي؛ لأن من أنكر الأخذ بالمصلحة المُرْسَلة لم يقصد هذا المعنى (5).
(1) ينظر: شرح تنقيح الفصول (350 - 351) ، الموافقات (3/ 285) ،الاعتصام (608) ، نشر البنود (2/ 189).
(2)
المستصفى: (2/ 503).
(3)
شرح تنقيح الفصول: (306).
(4)
البحر المحيط: (6/ 77).
(5)
ينظر: عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق للباني: (331).
واستدلوا على ذلك بأدلة منها:
أولاً: عمل الصحابة رضي الله عنهم بالمصلحة المرسلة حتى حُكِيَ في ذلك إجماعهم ، حيث إن الصحابة رضوان الله عليهم عملوا أموراً لمُطْلَق المصلحة لا لتقدم شاهدٍ بالاعتبار، نحو: كتابة المصحف ولم يتقدم فيه أمرٌ ولا نظير، وولاية العهد من أبي بكر لعمر رضي الله عنهما ولم يتقدم فيها أمرٌ ولا نظير، وكذلك ترك الخلافة شورى، وتدوين الدواوين ، وعمل السّكة للمسلمين ،واتخاذ السجن ، وهدّ الأوقاف التي بإزاء مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم والتوسعة بها في المسجد عند ضيقه، وذلك كثيرٌ جداً، وإنما عملوا ذلك لمُطْلَق المصلحة لا لتقدم شاهدٍ معينٍ بالاعتبار (1).
ثانياً: أنه ثبت بالاستقراء أن هذه الشريعة مبنيَّةٌ على المصالح للخلق في الدنيا والآخرة، وبناء الأحكام على المصالح المُرْسَلة فيه تحقيقٌ لمصالح الخلق فتكون حُجَّةً.
قال العز بن عبدالسلام: " التكاليف كلها راجعةٌ إلى مصالح العباد في دنياهم وأخراهم"(2).
وقال الفخر الرازي: " لما تأملنا الشرائع وجدنا الأحكام والمصالح متقارنين لا ينفك أحدهما عن الآخر، وذلك معلومٌ بعد استقرار أوضاع الشرائع "(3).
والقائلون باعتبار المصلحة المرسلة دليلاً تثبت به الأحكام الشرعيَّة لم يقولوا بذلك على إطلاقه ، بل قيدوا ذلك بشروطٍ تضع هذا الدليل في موضعه الصحيح ، وتحفظ أحكام الشرع من اتباع الأهواء.
وشروط العمل بالمصلحة المرسلة هي:
(1) ينظر: شرح تنقيح الفصول (351) ، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 213) ،الاعتصام (612 - 616) ،
…
الموافقات (3/ 41) ،نشر البنود (2/ 189 - 192).
(2)
قواعد الأحكام: (2/ 126).
(3)
المحصول: (5/ 179).
1 -
أن تكون المصلحة ملائمةً لتصرفات الشارع، وذلك بأن يكون لها جنسٌ اعتبره الشارع في الجملة بغير دليلٍ خاص، فكل مصلحةٍ لا تلائم تصرفات الشارع فهي باطلةٌ مطرحة (1).
2 -
أن لا تصادم المصلحة نصَّاً خاصَّاً من كتابٍ أو سُنَّة، أو تصادِم الإجماع.
قال الغزالي: "وكلُّ ذلك حُجَّةٌ بشرط أن لايكون غريباً بعيداً، وبشرط أن لا يصدم نصَّاً ،ولا يتعرَّض له بالتغيير"(2).
3 -
أن تكون معقولة المعنى في ذاتها.
قال الطوفي: "وإنما اعتبرنا المصلحة في المعاملات دون العبادات وشبهها؛ فإن العبادات حقّ الشارع وخاصُّ به، ولا يمكن معرفة حقِّه كمَّا وكيفاً وزماناً ومكاناً إلا من جهته، فيأتي به العبد على ما رُسِمَ له، ولهذا لما تقيد الفلاسفة بعقولهم ورفضوا الشرائع اسخطوا الله عليهم وضلوا وأضلوا، وهذا بخلاف حقوق المكلَّفين، فإن أحكامها سياسيةٌ شرعيةٌ وُضِعَت لمصالحهم، وكانت هي العبرة، وعلى تحقيقها المعمول"(3).
وقال الشاطبي: " وأيضاً؛ فالمصالح المرسلة -عند القائل بها- لا تدخل في التعبدات ألبتة، وإنما هي راجعةٌ إلى حفظ أصل المِلَّة، وحياطة أهلها في تصرفاتهم العادية"(4).
4 -
أن لا تعارض مصلحةً أرجحَ منها، أو يترتَّب على العمل بها مفسدةٌ أرجحُ منها، أو مساويةٌ لها (5).
وبتحقُّق هذه الشروط ينضبط القول بالمصلحة المرسلة، ويتحقَّق مقصود الشرع باعتبارها، دون إفراطٍ يفضي إلى تغيير الأحكام، أو تفريطٍ يفضي إلى التضييق والحرج في أحكام الشرع.
(1) ينظر: المستصفى (2/ 502 - 503).
(2)
شفاء الغليل: (210 - 211).
(3)
رسالة الطوفي في المصلحة: (143).
(4)
الموافقات: (3/ 285).
(5)
ينظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 214 - 217) ،نشر البنود (2/ 191 - 192).