الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويستوي الحُكْم في ذلك سواءً قصد المكلَّفُ التوسَّلَ بالمباح إلى المنهي عنه أم لم يقصد، مع إن القصد إلى ذلك أشنع.
قال ابن القيم: " والشارع حرَّم الذرائع، وإن لم يُقصَد بها المحرَّم؛ لإفضائها إليه، فكيف إذا قصد بها المحرَّم نفسَه؟ "(1).
المطلب الثاني: حُجِّية سد الذرائع
.
قاعدة سدِّ الذرائع حُجَّةٌ مُعْتَبَرةٌ في الأحكام الشرعيَّة ، وأصلٌ جرى التصرُّف به في الكتاب والسُنَّة وعَمِل به الصحابة.
وقد ذهب إلى ذلك: المالكية (2)، والحنابلة (3).
وأصل سدِّ الذرائع معتبرٌ من حيث العمل به عند المذاهب الأربعة كافة، وإن حُكيَ الخلاف فيه (4).
قال الشاطبي: "إنَّ سدَّ الذَّرائع أصلٌ شرعيٌّ قطعيٌّ متفقٌ عليه في الجملة، وإن اختلف العلماء في تفاصيله، وقد عمل به السَّلف بناءً على ما تكرَّر من التَّواتر المعنويّ في نوازل متعدِّدة دلّت على عموماتٍ معنويّة، وإنْ كانت النَّوازل خاصّةً ولكنها كثيرة"(5).
ونفى القرافي أن يكون أصلاً خاصاً بمذهب مالك فقال: " فليس سدُّ الذرائع خاصّاً بمالك رحمه الله بل قال بها هو أكثر من غيره، وأصل سدِّها مجمعٌ عليه"(6).
(1) إغاثة اللهفان: (1/ 361).
(2)
ينظر: الإشارة في معرفة الأصول للباجي (314) ، شرح تنقيح الفصول للقرافي (353) ، الموافقات (5/ 188) ، نشر البنود (2/ 265).
(3)
ينظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 214) ،إعلام الموقعين (4/ 353) ، شرح الكوكب المنير (4/ 434)
(4)
ينظر: الموافقات (4/ 68) و (5/ 185) ، شرح تنقيح الفصول للقرافي (353) ،شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 214) ،البحر المحيط للزركشي (6/ 82 - 83).
(5)
الموافقات: (2/ 45).
(6)
الفروق: (2/ 33).
ونقل الزركشي عن القرطبي قوله: " وسدُّ الذرائع ذهب إليه مالك وأصحابه ، وخالفه أكثر الناس تأصيلاً، وعملوا عليه في أكثر فروعهم تفصيلاً"(1).
ومن أهم الأدلة على اعتبار قاعدة سدِّ الذرائع في الأحكام مايأتي:
أولاً: جاء الشرع بتحريم وسائل لاشكَّ في إباحتها لو تجرَّدت عما أفضت إليه، وقد تتجرَّد فترجع إلى أصل الإباحة، وانما حرَّمها الشارع، لعِلَّة إفضائها إلى مُحَرَّم ، ومن ذلك:
- قوله تعالى {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108].
فالله عز وجل حرّم سبَّ آلهة الكفار مع أنه عبادة، وعلَّل هذا المنع بكونه ذريعةً إلى سبِّهم له -جلَّ وعلا- فمصلحة تركهم سبّ الله - سبحانه - راجحةٌ على مصلحة سبِّنا لآلهتهم (2).
- تركُه صلى الله عليه وسلم قتلَ المنافقين، مع أنَّ في قتلهم مصلحةً كبيرة، وذلك لئلا يكون ذريعةً إلى قول الناس:"إنَّ محمداً يقتل أصحابه"(3) وهذا القول يوجب النفور عن الإسلام ، ومفسدة التنفير أكبر من مفسدة ترك قتلهم، ومصلحة التأليف أعظم من مصلحة القتل (4).
- قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: "لولا قومك حديثو عهدٍ بكفرٍ لنقضتُ الكعبةَ فجعلت لها بابين، بابٌ يدخل منه الناس، وبابٌ يخرجون"(5).
فكان تركُه صلى الله عليه وسلم لذلك سدَّاً للذريعة؛ حتى لايوجب استنكار الناس، وربما أدّى ذلك إلى ارتداد بعض مَن دخل في الإسلام حديثاً.
(1) البحر المحيط: (6/ 82).
(2)
ينظر: أحكام القرآن لابن العربي (2/ 265) ، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (7/ 61) ، بيان الدليل على بطلان التحليل لابن تيمية (256) ،إعلام الموقعين (5/ 5).
(3)
سبق تخريجه: (
…
238).
(4)
ينظر: شرح صحيح مسلم للنووي (7/ 159) ،بيان الدليل على بطلان التحليل لابن تيمية (257)، إعلام الموقعين (5/ 7).
(5)
سبق تخريجه: (238).
قال النووي: "إذا تعارضت المصالح أو تعارضت مصلحةٌ ومفسدةٌ، وتعذَّر الجمع بين فعل المصلحة وترك المفسدة بُدِئ بالأهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن نقض الكعبة وردَّها إلى ما كانت عليه من قواعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم مصلحة، ولكن تُعارِضُه مفسدةٌ أعظم منه، وهي خوف فتنةِ بعضِ مَنْ أسْلَمَ قريباً؛ وذلك لِما كانوا يعتقدونه من فضل الكعبة فيرون تغييرها عظيماً ، فتركها صلى الله عليه وسلم"(1).
وقد ترجم البخاري لهذا الحديث بقوله: "باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يَقْصُرَ فَهْمُ بعض الناس عنه، فيقعوا في أشدّ منه"(2).
ثانياً: أنَّ الله عز وجل توعَّد بالعقاب من يحتال إلى الممنوع بفعلٍ جائز، فدلَّ ذلك على تحريم الفعل الجائز إذا كان يُتوسَّل به إلى ممنوع، وهذا هو عين سدِّ الذرائع (3).
ومن ذلك: أن الله - جل وعلا- ذمَّ أصحاب السبت؛ لأنهم احتالوا على ما حرَّمه عليهم من صيد الحيتان يوم السبت، وابتلاهم الله عز وجل بأن جعل الحيتان تأتيهم يوم السبت شُرَّعاً، ولا تكون على هذه الحالة باقي الأيام، فاحتالوا على ذلك؛ بأن حفروا لها حفراً في البحر تحجزها ليسهل عليهم صيدها في باقي الأيام (4).
قال تَعَالَى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163)} [الأعراف: 163].
(1) شرح صحيح مسلم: (9/ 89).
(2)
صحيح البخاري: كتاب العلم ، باب رقم (48) ، حديث رقم (126).
(3)
ينظر: أحكام القرآن لابن العربي (2/ 331) ، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (7/ 307)، إعلام الموقعين
…
(5/ 62 - 63).
(4)
ينظر: جامع البيان للطبري (10/ 509 - 510) ، تفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/ 493).