الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول: حكم العمل بتنقيح المناط:
اتفق الأصوليون على العمل بـ "تنقيح المناط"، إما باعتباره مسلكاً من المسالك التي تثبت بها العِلَّة (1)، أو باعتباره طريقاً من طرق الاجتهاد في العِلَّة بعد إثباتها بمسلك النصِّ أو الإيماء والتنبيه (2).
وبالاستقراء والتتبع لم أجد -حسب اطلاعي- أحداً من الأصوليين حكى الخلاف في العمل بـ "تنقيح المناط"، بل إن بعضهم يثبت العمل به عند أكثر منكري القياس.
قال الغزالي: "أَقرَّ به أكثر منكري القياس"(3).
وقال الطُّوفي: "أكثر منكري القياس استعملوا هذا النوع من الاجتهاد في العِلَّة الشرعيَّة، وهو تنقيح المناط"(4).
وقال ابن تيمية: " وهذا مما لا خلاف فيه بين الناس نعلمه، نعم قد يختلفون في نفس الموجِب: هل هو مجموع تلك الأوصاف أو بعضها، وهو نوعٌ من تنقيح المناط "(5).
(1) ينظر: المحصول (5/ 229)، منهاج الوصول للبيضاوي (209)، شرح تنقيح الفصول (398)، نهاية الوصول للهندي (8/ 3381)، التوضيح شرح التنقيح لصدر الشريعة الحنفي (2/ 174)، جمع الجوامع (95)، إرشاد الفحول (2/ 640).
(2)
ينظر: المستصفى (3/ 488)، شفاء الغليل (413)، روضة الناظر (3/ 803)، الإحكام للآمدي (3/ 380)، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 237)، التحبير شرح التحرير (7/ 3333)، المدخل إلى مذهب الإمام أحمد لابن بدران (307).
(3)
المستصفى: (3/ 490).
(4)
شرح مختصر الروضة: (3/ 241).
(5)
الصارم المسلول: (2/ 338).
وقال أيضاً: "وهذا النوع يُقرُّ به كثيرٌ من منكري القياس أو أكثرهم"(1).
وقال ابن النجَّار: "وقد أَقرَّ به أكثر منكري القياس"(2).
وقال ابن عبدالشكور البهاري (3): "وهو مقبولٌ عند الكلِّ"(4).
وقال المطيعي: "وهو مقبولٌ عند كلِّ أهل المذاهب من أهل الحق"(5).
وقال الأمين الشنقيطي: "إجماع العلماء على العمل بنوع الاجتهاد المعروف بالإلحاق بنفي الفارق الذي يسمِّيه الشافعي في معنى الأصل، وهو تنقيح المناط"(6).
وقد يتصور بعض العلماء وقوع الخلاف في العمل بتنقيح المناط من بعض منكري القياس، وذلك بحُجَّة أنه لا معنى لتنقيح العِلَّة عند من لا يقول أصلاً بتعليل الأحكام.
ولهذا لما حكى الزركشي عن الغزالي قوله: " تنقيح المناط يقول به أكثر منكري القياس، ولا نعرف بين الأُمَّة خلافاً في جوازه" تعقَّبه بقوله: "ونازعه العَبْدَري (7) بأن الخلاف فيه ثابتٌ بين من يثبت القياس ومن ينكره؛ لرجوعه إلى القياس"(8).
وفيما ذكر العَبْدَري -نقلاً عن الزركشي- نظر؛ لأن " الذين نفوا القياس لم يقولوا بإهدار كلِّ ما يُسمَّى قياساً، وإن كان منصوصاً على عِلَّته أو مقطوعاً فيه بنفي الفارق، وما كان من باب فحوى الخطاب أو لحنه على اصطلاح من يُسمِّى ذلك قياساً، بل جعلوا هذا النوع من القياس مدلولاً عليه بدليل الأصل، مشمولاً به مندرجاً تحته "(9).
(1) درء تعارض العقل والنقل: (7/ 339).
(2)
شرح الكوكب المنير: (4/ 132).
(3)
هو: محب الله بن عبدالشكور البهاري الهندي الحنفي، فقيه أصولي، ولي قضاء لكهنو، ثم قضاء حيدر آباد الركن، من مؤلفاته: مُسَلَّم الثبوت (ط) في أصول الفقه، وسُلَّم العلوم (ط) في المنطق، توفي سنة (1119 هـ).
ينظر ترجمته في: الفتح المبين في طبقات الأصوليين (3/ 122)، الأعلام للزركلي (5/ 283).
(4)
مسلم الثبوت مع شرحه فواتح الرحموت: (2/ 350).
(5)
سلم الوصول على نهاية السول: (4/ 138).
(6)
أضواء البيان: (4/ 172).
(7)
هو: أبو عبدالله محمد بن محمد بن علي بن أحمد العَبْدَري، صاحب الرحلة المعروفة، أصله من بلنسية، رحل من المغرب حاجاً سنة (688 هـ)، ودخل باجة وتونس والقيروان والقاهرة وغيرها وأفاد واستفاد، وأخذ عن الأعلام وأثنى عليهم، وليس فيما وقفت عليه من المصادر ذكرٌ لسنة وفاته.
وقد ذكر الرزكشي في مقدمته على البحر المحيط (1/ 8) أن له شرحاً على المستصفى للغزالي اسمه "المستوفي".
ينظر في ترجمته: جذوة الاقتباس (179)، شجرة النور الزكية (217)، الأعلام للزركلي (7/ 32).
(8)
البحر المحيط: (7/ 323).
(9)
المدخل إلى مذهب الإمام أحمد لابن بدران: (309 - 310).
وقال ابن تيمية (1): " وكثيرٌ من الفقهاء لا يسمِّيه قياساً، بل يثبتون به الكفارات والحدود، وإن كانوا لا يثبتون ذلك بالقياس، فإنه هنا قد عُلِمَ يقيناً أن الحُكْم ليس مخصوصاً بمورد النصِّ، فلا يجوز نفيه عما سواه بالاتفاق كما يمكن ذلك في صور القياس المحض "(2).
ولهذا قال الغزالي: " فمن جحد هذا الجنس من منكري القياس وأصحاب الظاهر لم يَخْفَ فسادُ كلامه "(3).
وقال أيضاً: " ولذلك لا يُتَصَّور الخلاف من القائسين في هذا الجنس"(4).
وقال الأمين الشنقيطي: " لا ينكره - أي: تنقيح المناط - إلا مكابر"(5).
ومع اتفاق العلماء على اعتبار العمل بـ " تنقيح المناط " إلا أنهم اختلفوا في تسميته، وهل هو من باب القياس أو لا؟
أما جمهور الأصوليين فقد اصطلحوا على تسميته بـ "تنقيح المناط"(6)، واعتبروه قياساً خاصاً مندرجاً تحت مُطْلَق القياس (7).
قال صفي الدين الهندي: " والحقُّ أن تنقيح المناط قياسٌ خاصٌّ مندرجٌ تحت مُطْلَق القياس، وهو عامٌّ يتناوله وغيرَه "(8).
بينما اصطلح الحنفية على تسميته بـ" الاستدلال "، وفرَّقوا بينه وبين القياس: بأن القياس يجري فيه إلحاق الفرع بالأصل بذكر الجامع الذي لا
(1) هو: أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام بن تيمية الحراني الدمشقي الحنبلي، يلقب بشيخ الإسلام، كان إماماً في العلوم النقلية والعقلية، عارفاً بالفقه واختلافه، أنكر مقالات أهل البدع، وردَّ على أهل الكتاب، وشارك في قتال أهل التتار، له رسائل ومؤلفات نفيسة، من أهمها درء تعارض العقل والنقل (ط)، ومنهاج السنة (ط)، واقتضاء الصراط المستقيم (ط)، وجمعت أكثر رسائله وفتاويه في مجموع الفتاوى (ط)، توفي سنة (728 هـ).
ينظر في ترجمته: تذكرة الحفاظ للذهبي (4/ 192)، الدرر الكامنة (1/ 145)، الأعلام للزركلي (1/ 144)
(2)
درء تعارض العقل والنقل: (7/ 339 - 341).
(3)
المستصفى: (3/ 490).
(4)
شفاء الغليل: (415).
(5)
أضواء البيان: (4/ 172).
(6)
ينظر: المستصفى (3/ 488)، المحصول (5/ 229)، الإحكام للآمدي (3/ 380)، شرح تنقيح الفصول (388)، شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 241)، نهاية السول (4/ 128)، شرح المحلي على جمع الجوامع (2/ 292)، شرح الكوكب المنير (4/ 131).
(7)
ينظر: نهاية الوصول (8/ 3381)، الإبهاج (6/ 2396)، البحر المحيط للرزكشي (7/ 323)، إرشاد الفحول (2/ 641).
(8)
نهاية الوصول: (8/ 3381).
يفيد إلا غَلَبَة الظن، أما الاستدلال فيكون بإلغاء الفارق لما ثبت عِلَّته بالنصِّ بحذف خصوص عِلَّة النصِّ، وهذا يفيد القطع، فيكون أقوى من القياس، فلذا أجروه مجرى القطعيات في النسخ به ونسخِه (1).
قال الغزالي: " والمقصود: أن هذا تنقيح المناط بعد أن عُرِف المناط بالنصِّ لا بالاستنباط، ولذلك أَقَرَّ به أكثر منكري القياس، بل قال أبو حنيفة رحمه الله لا قياس في الكفارات، وأثبت هذا النمط من التصرف، وسمَّاه استدلالاً "(2).
وقال ابن قدامة: " وأجراه أبو حنيفة في الكفارات مع أنه لا قياس فيها عنده "(3).
وقال صفي الدين الهندي: " وهذا الذي يُسَمِّيه الحنفية بالاستدلال، ويفرِّقون بينه وبين القياس بأن يخصصون اسم القياس بما يكون الإلحاق فيه بذكر الجامع الذي لا يفيد إلا غَلَبَة الظن، والاستدلال بما يكون الإلحاق فيه بإلغاء الفارق الذي يفيد القطع، حتى أجروه مجرى القطعيات في النسخ به ونسخه، فجوَّزوا الزيادة على النصِّ به، ولم يجوَّزوا نسخَه بخبر الواحد "(4).
وقال ابن تيمية: "وهذا النوع يُسَمِّيه بعض الناس قياساً، وبعضهم لا يُسَمِّيه قياساً، ولهذا كان أبو حنيفة وأصحابه يستعملونه في المواضع التي لا يستعلمون فيها القياس "(5).
وقال الإسنوي: " وهذا النوع عند الحنفية يُسَمُّونه بالاستدلال، وليس عندهم من باب القياس "(6).
(1) ينظر: نهاية الوصول (8/ 3381)، الإبهاج (3/ 80 - 81)، البحر المحيط للزركشي (7/ 323) التقرير والتجير (3/ 287)، تيسير التحرير (4/ 172).
(2)
المستصفى: (3/ 490).
(3)
روضة الناظر: (3/ 805).
(4)
نهاية الوصول: (8/ 3381).
(5)
مجموع الفتاوى: (22/ 329).
(6)
نهاية السول: (4/ 141).
وقال ابن النجَّار الفتوحي: "وأجراه أبو حنيفة في الكفارات مع منعه القياس فيها"(1).
وقال ابن عبدالشكور البهاري: "وهو مقبولٌ عند الكلِّ إلا أن الحنفية لم يصطلحوا على هذا الاسم، كما لم يضعوا تخريج وتحقيق المناط للنظر في تعرُّف تحُّقِقها في الجزئيات مع الاتفاق في المُسَمَّى "(2).
وقال ابن العطَّار (3): "إن أبا حنيفة يستعمل تنقيح المناط في الكفارة وإن منع القياس فيها لكنَّه لايسمِّيه قياساً بل استدلالاً"(4).
وبهذا يتضح من خلال ما تقدَّم أن الحنفية يتفقون مع الجمهور على اعتبار تنقيح المناط والعمل به، إلا أنهم اصطلحوا على تسميته بـ "الاستدلال"، وفرَّقوا بينه وبين القياس بأن القياس ما أُلْحقَ فيه حُكْمٌ بآخر بجامعٍ يفيد غَلَبَة الظن، والاستدلال ما أُلْحِقَ فيه ذلك بإلغاء الفارق المفيد للقطع.
وقد اعتذر بعض الحنفية عن عدم ذكرهم " تنقيح المناط " بأن مرجعه إلى النصِّ؛ ولم يضعوا له اسماً اصطلاحياً مع العمل به.
قال ابن الهمام الحنفي: "واعتذر بعض الحنفية عن عدم ذكرهم تنقيح المناط بأن مرجعه إلى النصِّ، ولا شك أن معنى تنقيح المناط واجبٌ على كلِّ مجتهدٍ حنفيٍّ وغيره، وإلا مُنِع الحُكْم في موضع وجود العِلَّة، غير أنَّ الحنفية لم يضعوا له اسماً اصطلاحياً كما لم يضعوا المفرد وتخريج المناط وتحقيقه مع العمل بها في الكلِّ"(5).
ولا شك أن المعاني إذا تحرَّرَت فلا مشاحة في الإصطلاح، ولكن لابدَّ في الاصطلاح من استعمال لفظٍ لا يلتبس معناه أو بعضه مع غيره، وأجدر اصطلاح بالمعنى الذي سبق تقريره هو "تنقيح المناط"؛ لأن تنقيح الشيء:
(1) شرح الكوكب المنير: (4/ 132).
(2)
مسلم الثبوت مع شرحه فواتح الرحموت: (2/ 350).
(3)
هو: حسن بن محمد بن محمود العطار، من علماء مصر، أصله من المغرب، ومولده ووفاته بالقاهرة، تولى مشيخة الأزهر سنة (1246 هـ)، من مؤلفاته: حاشية على شرح المحلي على جمع الجوامع (ط)، وكتاب في الإنشاء والمراسلات (ط)، وغيرهما، توفي سنة (1250 هـ).
ينظر في ترجمته: الأعلام للزركلي (2/ 220)، شيوخ الأزهر لأشرف فوزي (2/ 35 - 40).
(4)
حاشية العطار على شرح المحلي على جمع الجوامع: (2/ 337).
(5)
التحرير في أصول الفقه مع شرحه تيسير التحرير: (4/ 43).
تهذيبه، وتنقيح المناط: تهذيب العِلَّة وتمييزها من بين عِدَّة أوصافٍ لا مدخل لها في العِلِّية، وهذا اصطلاحٌ مناسب (1).
ولهذا قال الغزالي: " نرى أن يُلَقَّب هذا القياس بتنقيح مناط الحُكْم ومُتَعَلَّقِه"(2).
أما تفريق الحنفية بينه وبين القياس بأن القياس ما أُلْحِقَ فيه حُكْمٌ آخر بجامعٍ يفيد غَلَبَة الظن، والاستدلال ما أُلْحِقَ فيه الحُكْم بإلغاء الفارق المفيد للقطع، فقد أجاب عنه صفي الدين الهندي بقوله:" والحقُّ أن تنقيح المناط قياسٌ خاصٌّ مندرجٌ تحت مُطْلَق القياس، وهو عامُّ يتناوله وغيرَه، وكلُّ واحدٍ من القياسين- أعني ما يكون الإلحاق بذكر الجامع وبإلغاء الفارق - يُحْتَمَلُ أن يكون ظنياً وهو الأكثر؛ إذ قلما يوجد الدليل القاطع على أن الجامع عِلَّة، أو أن ما به الامتياز لا مدخل له في العِلِّية، وقد يكون قطعياً بأن يوجد ذلك فيه، نعم حصول القطع فيما فيه الإلحاق بإلغاء الفارق أكثر من الذي فيه الإلحاق بذكر الجامع، لكن ليس ذلك فرقاً في المعنى بل في الوقوع، وحينئذٍ ظهر أنه لا فرق بينهما في المعنى "(3).
وذهب الأبياري (4) وابن تيمية إلى أن " تنقيح المناط " خارجٌ عن باب القياس المتنازع فيه، وهو راجعٌ إلى نوعٍ من تأويل الظواهر يتناول كلَّ حُكْمٍ تعلَّق بعينٍ معينةٍ مع العلم بأنه لا يختص بها، فيحتاج أن يُعْرف المناط الذي تعلَّق به ذلك الحُكْم.
قال الأبياري: " هو خارجٌ عن القياس، وكأنه يرجع إلى تأويل الظواهر"(5).
وقال ابن تيمية: " وهذا بابٌ واسع، وهو متناولٌ لكلِّ حُكْمٍ تعلَّق بعينٍ
(1) ينظر: شرح تنقيح الفصول (389)، البحر المحيط للزركشي (7/ 322)، رفع النقاب عن تنقيح الشهاب (5/ 293).
(2)
شفاء الغليل: (130).
(3)
نهاية الوصول: (8/ 3381 - 3382).
(4)
هو: أبو الحسن علي بن إسماعيل بن علي بن عطية الأبياري، شمس الدين، فقيهٌ مالكي، وأصوليُّ مبرِّز، من مؤلفاته: التحقيق والبيان في شرح البرهان في أصول الفقه، وسفينة النجاة في التصوف والسلوك، وغيرهما، توفي بمصر سنة (618 هـ).
ينظر ترجمته في: الديباج المذهب (2/ 110)، شجرة النور الزكية (1/ 166).
(5)
البحر المحيط للزركشي: (7/ 323).
معينةٍ مع العلم بأنه لا يختصُّ بها، فيحتاج أن يُعَرْف المناط الذي يتعلَّق به الحُكْم، وهذا النوع يُسَمِّيه بعض الناس قياساً، وبعضهم لا يُسَمِّيه قياساً، ولهذا كان أبو حنفية وأصحابه يستعملونه في المواضع التي لا يستعملون فيها القياس، والصواب أن هذا ليس من القياس الذي يمكن فيه النزاع " (1).
وقال أيضاً في موضعٍ آخر: " تنقيح المناط: بأن يُنَصَّ على حُكْم أعيانٍ معينةٍ لكن قد علمنا أن الحُكْم لا يختصُّ بها، فالصواب في مثل هذا أنه ليس من باب القياس؛ لاتفاقهم على النصِّ، بل المعين هنا نصَّ على نوعه، ولكنَّه يحتاج إلى أن يُعْرَفَ نوعه "(2).
(1) مجموع الفتاوى: (22/ 328 - 329).
(2)
مجموع الفتاوى: (22/ 330).