الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصوم متتابعًا؟ نعم متتابع والمشهور من المذهب أنه ينقطع؛ لأن الله قال: {فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسَّا} [المجادلة: 4]. فجعل الله هذين الشهرين موصوفين بالتتابع قبل المسيس، فإذا مس قبل صيام شهرين متتابعين ثم تابع فإنه لا يصدق عليه أن صام شهرين متتابعين من قبل المماسة، وهذا أحوط، ولكن في النفس منه شيء، لكن إن كان ذلك عن جهل منه فلا شك أنه يبني على ما مضى لأنه فعل محظورًا جاهلًا، وفعل المحظور جهلًا لا يترتب عليه أثره.
ومن فوائد الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم نعنفه حين سأل، وهذه الفائدة لها نظائر وهو من جاء تائبًا فإننا لا نعنفه بل نشكره تشجيعًا له؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعنف الذي جامع مع امرأته في نهار رمضان وهو صائم؛ لأنه جاء تائبًا يريد الخلاص، وهناك فرق بين من جاء تائبًا يريد الخلاص ومن أعرض ولم يهتم بالأمر.
2 - باب اللعان
تعريف اللعان:
"اللعان": مصدر لاعن، ولهذا الوزن من الأفعال مصدر آخر وهو الملاعنة، كما يقال: قاتل مقاتلة وقتالًا، وجاهد مجهادة وجهادًا، واللعان مأخوذ من اللعن، وهو الطرد والإبعاد عن رحمة الله، ومن الآدمي السب فإذا قيل: تلاعن الرجلان، فمعناه: سب أحدهما الآخر، أو دعا كل واحد منهما على الآخر باللعنة، وهو- أي: اللعان- أيمان مكررة مؤكدة بشهادة تكون من كلِّ من الزوج والزوجة، لكنه من الزوجة بلفظ الغضب ومن الزوج بلفظ اللعن، فغلَّب جانب الزوج وهو اللعن وله سبب وهو: رمي الزوج زوجته بالزنا- والعياذ بالله-، يعني: أن يقول الزوج لزوجته: أنت زانية أو زنيت! وهو أمر عظيم، فلو وقع القذف من غير الزوج لم يكن لعانًا، وإنما يقال للقاذف: عليك أن تقدم البيِّنة أو حدٌّ في ظهرك، فلو قال زيد لعمرو أنت زانٍ قلنا: هات أربعة شهود يشهدون وإلا جلدناك ثمانين جلدة ولا يوجد طريق غير هذا إلا أن يقر المقذوف، إذا أقر ثبت زناه بإقراره، أما إذا صدر من الزوج فإنه من المعلوم أنه من البعيد جدًا أن يقذف الرجل زوجته بالزنا؛ لماذا؟ لأن ذلك تدنيس لفراشه وتشكيك في نسب أولاده ولا يمكن أن يقع هذا من الزوج إلا عن يقين، إلا أن يكون زوجًا عصبيًا غضوبًا فقد يتكلم، لكن زوج متأنٍّ مطمئن يمكن أن يقذف زوجته بالزنا، فهذا بعيد جدًّا ولا يمكن أن يقدم الزوج إلا عن يقين ولما نزلت قوله تعالى:{والَّذين يرمون المحصنات ثمَّ لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدةً ولا تقبلوا لهم شهادةً أبدًا وأولئك هم الفاسقون} [النور: 4].
قال سعد بن عبادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، أتركه على أهلي أو أترك لكع ابن لكع على أهلي حتى أتي بأربعة شهداء، والله لأضربنه بالسيف غير مصفح، يعني: أضربه وليس بصفحته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"ألا تعجبون من غيرة سعد، والله لإني أغير من سعد والله أغير مني"، ولهذا أنزل الله تعالى هذا الفرج للأزواج بأنه إذا رمى زوجته بالزنا فإنه يلاعن وإن لم يقم بينة قال تعالى:{والَّذين يرمون أزواجهم ولم يكن لَّهم شهداء إلَّا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنَّه لمن الصَّادقين (1) والخمسة أنَّ لعنت الله عليه إن كان من الكاذبين} [النور: 6، 7]. إذن سبب اللعان أن يرمي الزوج زوجته بالزنا، وسمي لعانًا، لأن الزوج يقول: وأنَّ لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ففيه تغليب.
1055 -
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "سأل فلاٌ فقال: يا رسول الله، أرأيت أن لو وجد أحدنا امرأته على فاحشةٍ، كيف يصنع؟ إن تكلَّم تكلّم بأمر عظيم، وإن سكت سكت على مثل ذلك، فم يجبه، فلمَّا كان بعد ذلك أتاه، فقال: إنَّ الَّذي سألتك عنه قد ابتليت به، فأنزل الله الآيات في سورة النُّور، فتلاهنَّ عليه ووعظه وذكَّره، وأخبره أنَّ عذاب الدُّنيا أهون من عذاب الآخرة. قال: لا، والَّذي بعثك بالحقِّ ما كذبت عليها، ثمَّ دعاها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فوعظها كذلك، قالت: لا، والَّذي بعثك بالحقِّ إنَّه لكاذبٌ، فبدأ بالرَّجل، فشهد أربع شهاداتٍ بالله، ثمَّ ثنَّى بالمرأة، ثمَّ فرَّق بينهما". رواه مسلم.
قوله: "سألة فلان" لم يذكر اسمه سنرًا عليه، وإلا فالظاهر أن ابن عمر كان يعرفه؛ لأن القصة مشهورة ولكنه أبهمه سترًا عليه؛ لأن تعيينه لا يتوقف عليه فهم المعنى، المقصود القصة والقضية، ذكرنا باب اللعان وأن اللعان مصدر لاعن يلاعن، وأن اللعن يصدر من الزوج ولكنه ذكر من باب التغليب، فإذا رمى الرجل زوجته بالزنا، وقال: إنها زنت فإما أن يأتي ببينة فتحد ولا يحد، وإما أن تقر فتحد ولا يحد وإما أن تنكر، وحينئذ نقول: إما أن تلاعن أو أقمنا عليك الحد، إذا لاعن ولاعنت ثبت بذلك أحكام تأتي إن شاء الله، وإن لاعن ولم تلاعن فقيل: إنها تحبس حتى تموت أو تلاعن، وقيل: بل يقام عليها الحد، وهذا هو الصحيح، لأن ملاعنته بمنزلة البينة لقول الله تعالى:{ويدرؤا عنها العذاب أن تشهد} ، و"أل" في قوله:{العذاب} لعهد الذهني الذي هو حد الزنا كما قال تعالى: {الزَّانية والزَّاني فاجلدوا كلَّ واحدٍ منهما مائة جلدةٍ ولا تأخذكم بهما رأفةٌ في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الأخر وليشهد عذابهما طائفةٌ من المؤمنين} فقوله: {ويدرؤا عنها العذاب} أي: العذاب المعهود وهو حد الزاني، وهذا القول هو الصحيح، قوله:"أرأيت" بمعنى:
أخبرني، و"أن" مصدرية، ويحتمل أن تكون مخففة، وقوله:"كيف يصنع"، الجملة هذه متصلة بقوله:"أرأيت" وهي بمحل الاستفهام يعني: "أخبرني كيف يصنع من وجد امرأته على فاحشة إن تكلم تكلم بأمر عظيم"، ووجه عظمه أنه يدنس فراشه وأهله، "وإن سكت سكت على أمر عظيم" وهو إقرار زوجته على الفاحشة، فيكون بذلك ديُّونًا، والديوث هو الذي يقر أهله على الفاحشة، فلم يجبه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرجل يقول أرأيت؟ والمسألة ساقها مساق الأمر المفروض لا الأمر الواقع فلم يجبه؛ لأن السؤال عن أمر لم يقع يكون للإنسان سعة في ألَّا يجيب عليه، ولهذا كان بعض السلف إذا سأله سائل عن مسألة قال هل وقعت؟ قال: لا، قال: إذن لا أجيبك نحن في عافية حتى إذا وقعت وبلينا بها أجبنا: قال: "فلما كان بعد ذلك أتاه فقال: إن الذي سألتك عنه قد ابتليت به" يحتمل أن يكون هذا خبرًا عن شيء مضى، كأنه يقول: إني سألتك عن شيء قد ابتليت به وليس فرضًا بل واقع ويحتمل أن يكون هذا أمرًا جديدًا حادثًا بعد السؤال، وأنه سأل أولًا ثم ابتلي بذلك ثانيًا، وعلى هذا قول الشاعر:[الكامل]
احذر لسانك أن تقول فتبتلى
…
إن البلاء موكل بالمنطق
وقد روي في ذلك حديث: "إن البلاء موكل بالمنطق"، لكنه ضعيف، إذن قوله:"إن الذي سألتك عنه قد ابتليت" يحتمل خبر عن السؤال الأول، يعني: أنني قد سألتك عن شيء ليس مفروضًا ولكنه واقع، وكأنه في الأول يعرف ثم صرح الآن، ويحتمل أن تكون هذه البلوى بعد سؤاله مقدمة لأمر توقعه فوقع. يقول:"فأنزل الله الآيات في سورة النور" هي قوله: {والَّذين يرمون أزواجهم ولم يكن لَّهم شهداء إلَّا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنَّه لمن الصَّادقين} [النور: 6]. فهي آية التلاعن، فقال:"قتلاهن عليه"، الفاعل في "تلاهن" رسول الله صلى الله عليه وسلم، و"وعظه" أي: ذكَّره بما فيه التخويف؛ لأن التذكير المقرون بالتخويف أو الترغيب يسمى وعظًا وموعظة، "وذكره وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة"، عذاب الدنيا وذلك بالعقوبة سواء كان حد الزنا على المرأة أو حد القذف على الرجل أهون من جهة الكيفية والشدة وأهون من جهة الزمن، لأن عذاب الدنيا ينقطع إما أن يكون مهلكًا فينقطع بالموت الذي لا بد منه، وإما أن يكون موجعًا فينقطع بانتهائه ثم بعد ذلك ينسى، لكن عذاب الآخرة أعظم وأشد، قال:"لا والذي بعثك بالحق ما كذبت عليها"، "لا" هذه زائدة للتوكيد وذلك لأن المقسم عليه منفي
فأكدت بنفي القسم ولا يمكن أن تكون "لا" هنا نافية لأنه لو كانت نافية ما صح القسم، وقوله:"والذي بعثك بالحق" أي: أرسلك به وهو الله عز وجل وقوله: "بالحق" لها معنيان الأول: أن بعثته حق، والمعنى الثاني: أن ما بعث به حق وكلاهما صحيح، وقوله:"بالحق" الحق في اللغة الشيء الثابت وضده الزائل، ولهذا يقال الباطل زائل، فالثابت هو الحق والزائل هو الباطل، وقوله:"لا والذي بعثك بالحق" اختار القسم بهذا الوصف لله عز وجل، لأنه يريد أن يقسم على أن ما قاله حق فيتناسب المقسم به والمقسم عليه وهذا من البلاغة، بمعنى: أن يأتي الإنسان بقسم مناسب لما يقسم عليه،
ولو تأملت الأقسام الواردة في القرآن لوجدت بين المقسم به والمقسم عليه تناسبًا، وما أحسن من استعان على هذا بكتاب ابن القيم رحمه الله التبيان في أقسام القرآن، فإنه ذكر فيه فوائد جمة في هذا الموضوع، ونبه على نكت لا تكاد تجدها عند غيره.
"ما كذبت عليها" أي: ما أخبرت عنها بكذب، وإذا انتفى الكذب وكان المقام مقام تصديق لزم من ذلك ثبوت الصدق، فهو لم يحتج أن يقول: وإنما أنا صادق؛ لأنه إذا نفى الكذب في مقام الدفاع عما أخبر به كان من لازم ذلك الصدق، وإنما قيدنا هذا بقولنا: في مقام الدفاع عن النفس؛ لأنه قد يكون الكلام لا صدقًا ولا كذبًا مشكوكًا فيه، لكن إذا نفى الإنسان الكذب في مقام الدفاع عن نفسه فإنما يريد بذلك إثبات الصدق، "ثم دعاها فوعظها" أي: ذكَّرها بما فيه التخويف والترهيب، قالت:"لا والذي بعثك بالحق إنه لكاذب" هذا تناقض هو يقول: لم يكذب وهي تقول: إنه كاذب وأتت بقسم مقابل لقسمه تمامًا، يعني: مماثل له والجملة التي أتت بها مؤكدة بثلاثة مؤكدات، القسم وإن واللام، فبدأ بالرجل فشهد أربع شهادات لما كان كل واحد منهما لم يقر أجرى اللعان صلى الله عليه وسلم فبدأ بالرجل فشهد أربع شهادات بالله، ثم ثنِّى بالمرأة فشهدت أربع شهادات بالله، لكن لا بد من شهادة خامسة يقول فيها الرجل: وأن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، وتقول المرأة: وأن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، ثم فرق بينهما بفسخ وليس بطلاق؛ لأنه لو كان طلاقًا لقال: أمر أن يطلقها أو كلمة نحوها، بل هذا فراق وقوله:"ثم فرق" يحتمل معنيين، المعنى الأول: حكم بالفرقة، والمعنى الثاني أنشأ الفرقة فقال مثلًا: فرقت بينهما على المعنى الأول: حكم بالفرقة بمجرد اللعان وهذا هو المفهوم لأنه إذا تم اللعان حصلت الفرقة سواء، قال القاضي: فرقت بينكما أم لم يقل.
في هذا الحديث فوائد كثيرة: أولًا: إن كان السائل سأل عما لا يقع ولكنه عنده متوقع فهو شاهد، لما أنشدناكموه من قول الشاعر:
احذر لسانك أن تقول فتبتلى
…
إن البلاء موكل بالمنطق
وإن كان الأمر بعد أن وقع ولكنه عرض ولم يصرح ففيه أدب، بأن يعرض الإنسان في مثل هذه الأمور العظيمة دون أن يصرح.
ومن فوائد الحديث: بيان غيرة الصحابة- رضي الله عنهم على محارمهم، والغيرة من شيم الرجال ومن خصال الإيمان، ولا خير فيمن لا غيرة فيه، وإذا قارنت بين غيرة الصحابة وما عليه المتفرنجون والإفرنج وأشباههم وجدت الفرق العظيم تجد أحد هؤلاء المتفرنجة والإفرنج لا يبالي بزوجته بل يتركها تكلم الرجال وتكو معهم وتكشف وتفعل ما شاءت لا يهمه، ولا يقشعر جلده لذلك، ولا يقف شعره، ولكن الإيمان والفطرة السليمة تقتضي خلاف ذلك.
ومن فوائد الحديث: جواز امتناع المستفتي عن الفتيا إذا رأى المصلحة في ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجبه، وفي حديث آخر في قصة عويمر العجلاني أن الرسول كره هذه المسائل وعابها وأحب أن يبتعد الناس عنها وعن فرضها.
ومن فوائد هذا الحديث: أن الإنسان قد يبتلى بما يتحدث به لقوله: "إن الذي سألتك عنه قد ابتليت به" هذا على أحد الوجهين.
ومن فوائد الحديث: أن القرآن كلام الله؛ لقوله: "فأنزل الله الآيات" وجهه: أن هذا الإنزال لوصف لا يقوم بنفسه، فإذا كان وصفًا لا يقوم بنفسه لزم أن يكون من القائم، أي: من منزِّله وهو الله، وإنما قلنا: وصف لا يقوم بنفسه؛ لئلا يرد علينا قوله الله تعالى: {أنزل من السَّماء ماءً} {وأنزل لكم مِّن الأنعام ثمانية أزواجٍ} {وأنزلنا الحديد فيه بأسٌ شديدٌ} فهذا لا يكون منزل كلام الله؛ لأنه عين قائم بنفسه، بخلاف الكلام فإنه وصف لا بد له من متكلم.
ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات العلو لله؛ لقوله: "فأنزل" والإنزال لا يكون إلا من أعلى، والأدلة على علو الله ذاتًا وصفة كثيرة الأنواع، وأجناسها خمسة هي: الكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة، كل هذه الخمسة متضافرة ومتظاهرة على أن الله تعالى علي بذاته كما أنه عليُّ بصفاته ولا أظن أن هذا يحتاج إلى كبير عناء للاستدلال له لأنه واضح، كل واحد من الناس إذا دعا ربه أين يذهب قلبه؟ إلى فوق بدون دراسة وبدون أي شيء، إذن الله- سبحانه- عليُّ فوق.
وقد وردت في هذا قصة مع رجلين عالمين وهما أبو المعالي الجويني والهمداني، وكان ينكر الجويني العلوَّ فقال له الهمداني: يا أستاذ، دعنا من ذكر العرش، ولكن أخبرنا عن هذه
الفطرة ما قال عارف قط بالله إلا وجد من نفسه ضرورة بطلب العلو، فجعل يضرب على رأسه ويقول: حيَّرني الهمداني؛ لأن هذا أمر فطري حتى العجائز يعرفنه.
ومن فوائد الحديث: أن أعظم واعظ يوعظ به القرآن لقوله: "فتلاهن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم".
ومن فوائده: استدلال النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن، وهذا له عدة شواهد أنه يستدل بالقرآن ومن ذلك أنه كان يخطب مرة فجاء الحسن والحسين عليهما ثياب يعثران بهما فنزل من المنبر وأخذهما وقال صدق الله:{أنَّما أموالكم وأولادكم فتنةٌ} [الأنفال: 28].
ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي لحاكم عند إجراء الملاعنة بين الزوجين أن يعظهما ويذكرهما؛ لأنه ربما يكون الإنسان متهمًا لزوجته اتهامًا لا أساس له فإذا وعظ وخوف رجع، فينبغي للحاكم قبل إجراء اللعان أن يعظهما، ولا أحسن مما وعظ الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومن فوائد الحديث: إثبات العذاب في الآخرة لقوله: "عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة".
ومن فوائده: أن الإنسان إذا ابتلي في الدنيا ببلاء فإنه من العذاب، وهو أهون من عذاب الآخرة، ولهذا جاء في الحديث:"أن من يرد الله به خيرًا يعجل له العقوبة في الدنيا، ومن لا يريد به خيرًا فإنه لا يعذبه حتى يوافيه يوم القيامة".
ومن فوائد الحديث: جواز القسم وإن لم يستقسم لكن لتوكيد الخبر، لقوله:"لا والذي بعثك بالحق" حيث أقسم الرجل دون أن يستقسمه الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومن فوائد الحديث: كمال بلاغة الصحابة؛ حيث اختار للقسم ما يطبق المقسم عليه؛ لقوله: "لا والذي بعثك بالحق".
ومن فوائد الحديث: إثبات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حق؛ لقوله: "لا والذي بعثك بالحق"، ووجه الدلالة: أن الصحابي قال ذلك فأقره النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن فوائد الحديث: أنه قد يحلف الإنسان على شيء وهو كاذب؛ وذلك لأننا نعلم أن أحد الشخصين كاذب إما الرجل وإما المرأة، ولكن الأحاديث دلت على أن المرأة هي الكاذبة، ففي أحاديث أخرى قالت:"والله لا أفضح قومي سائر اليوم".
ومن فوائد الحديث: أنه يجب في اللعان أن يبدأ بالرجل لقوله: "فبدأ بالرجل" وهذا اتباع لأمر الله عز وجل حيث قال: {فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنَّه لمن الصَّادقين} ولأن هذا هو المطابق للقاعدة في الدعاوى، إذ إن الذي يتكلم في الدعوى أولًا هو المدعي وهو الزوج في هذه
المسألة، فلذلك كانت البداءة بالزوج، فلو بدأت الزوجة قبله ألغي لعانها وألزمت بإعادته بعد لعان الزوج.
ومن فوائد الحديث: أنه لا بد من شهادات أربع لقوله: "فشهد أربع شهادات"؛ اتباعًا لقوله تعالى: {فشهادة أحدهم أربع شهادات} . فإذا قال قائل: وماذا بعد الأربع؟ هل يشهد خامسة ويقول: وأن لعنة الله عليه أو يكتفى بقوله: وأن لعنة الله عليه؟ نظر فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، "والخامسة" يعني: الشهادة الخامسة، فما الذي جعله الله خامسة؟ أن يشهد أنها زنت أو أن يقول وأن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، بعض العلماء يقول: لا بد أن يشهد خامسة فيقول: أشهد بالله إنها زانية، ثم يقول: وأن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، وبعضهم قال: الشهادة أربعة كعدد الشهود في إثبات الزنا، وأما هذه فهي دعاء على نفسه بأن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم هل يقول لعنة الله عليه أو يأتي بضمير النفس بدلًا عن ضمير الغيبة؟ يأتي بضمير النفس بدلًا عن ضمير الغيبة، لكن إذا كنا نتحدث عن ماذا نفعل فإننا نقول ذلك بضمير الغيبة.
ومن فوائد الحديث: دليل على أنه لا بد أن يتقدم الزوج باللعان، فإن سبقته هي لم يصح لعانها لقوله:"ثم ثنى بالمرأة" وهذا هو ما دلت عليه الآية؛ لأن الله تعالى قال: {ويدرؤا عنها العذاب} أي: حد الزنا وهذا لا يثبت إلا بعد لعان الزوج.
ومن فوائد هذا الحديث: بيان أنه قد يقع بين الزوجين من الخصومة ما يصل إلى هذا الحد يدعي عليها الزنا وهو أقرب للصدق منها وتكذبه عيانًا، فتقول: إنه لكاذب.
ومن فوائد الحديث: ثبوت التفرقة بين الزوجين في اللعان، فإما أن يكون ذلك بمجرد تمام اللعان وإما أن يكون ذلك بتفريق الحاكم على قولين للعلماء، ولكن لو أردنا أن نسلك طريق الاحتياط قلنا: الأولى أن يفرق بينهما احتياطًا، وهو إذا فرق بينهما لم ينتقض التفريق باللعان.
1056 -
وعنه رضي الله عنهما: "أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للمتلاعنين: حسابكما على الله تعالى، أحدكما كاذبٌ، لا سبيل لك عليها قال: يا رسول الله، مالي؟ قال: إن كنت صدقت عليها، فهو بما استحلك من فرجها، وإن كنت كذبت عليها، فذاك أبعد لك منها". متَّفقٌ عليه.
"حسابكما" أي: حساب من أثمن منكما، فإن كان الزوج كاذبًا حوسب على ذلك، وإن كانت هي الكاذبة حوسبت على ذلك، فحسابهما على الله حتى الصادق يحاسب، ولكن يقرَّر
ولا يآثم، "أحدكما كاذب" وهذا متعين، لأنه إما الكاذب الزوج أو الزوجة، أي: إما الزوج بدعواه أنها زنت، وإما الزوجة في إنكارها ذلك، والكذب هو الإخبار بخلاف الواقع، قوله:"لا سبيل لك عليها" أي: لا طريق لك عليها برجعة أو عقد؛ لأن التحريم بينهما- بعد الملاعنة- يكون مؤبَّدًا، "فقال: يا رسول اله، مالي"، يريد بذلك المهر الذي أمهرها فقال: "إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت
…
إلخ"، إن كنت صدقت فقد استحقته بما استحللت من فرجها؛ لأن المهر يثبت كاملًا بالوطء "وإن كنت كذبت عليها فهو أبعد لك منها"، لأنها بعدت عنك الآن بعدًا تامًا ولأنك ظلمتها فلا يمكن أن تظلمها، مرتين فتأخذ المهر مع رميك إياها بالزنا.
من فوائد الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب لقوله: "حسابكما على الله وأحدكما كاذب"، ولو كان يعلم الغيب لحاسب من يقتضي الواقع حسابه حساب الدنيا وهو العذاب بالحد.
ومن فوائد الحديث: أنه إذا انتفى أحد النقيضين ثبت الآخر، يؤخذ ذلك من قوله:"أحدكما كاذب"، فإن انتفى الكذب في حق الزوج تعيَّن في حق الزوجة وإن انتفى في حقها تعين في حق الزوج، وهذا هو حكم المتناقضين، ولعلنا نستعيد ذاكرتنا بذكر النسبة بين الأشياء حيث ذكرنا فيما سبق أنها أربعة أقسام: التماثل والتضاد والتناقض والتخالف، هذه النسبة بين الألفاظ ومعانيها، فالتماثل: أن يكون كل لفظ بمعنى الآخر مثل الكذب والمين، والإنسان والبشر، التضاد: مثل لا يجتمعان ويرتفعان مثل السود والبياض، النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان مثل الحركة والسكون، بقي الخلافان يختلفان ولكنهما يجتمعان ويرتفعان كالسواد والقيام يكون الشيء أسود قائمًا ويمكن أن يرتفع فيكون أبيض قاعدًا.
ومن فوائد الحديث: أن العلاقات بين الزوجين تنقطع وتحرم المرأة تحريمًا مؤبدًا لقوله: "لا سبيل لك عليها".
ومن فوائده: أنه لا يريد المهر إلى الزوج ولو كان يعتقد أنها زانية؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم لما قال: مالي قال: "إن كنت صدقت
…
إلخ"، وفي لفظ أنه قال: "لا مال لك".
ومن فوائد الحديث: حسن إقناع الرسول صلى الله عليه وسلم بإقرار الأحكام في قلوب العباد؛ لقوله: "إن كنت صدقت عليها
…
إلخ" فإنه إذا كان قال هذا الكلام اطمأنَّ الإنسان أكثر.
ومن فوائد الحديث: أن المهر إذا استقر لم يسقطه زنا المرأة، لقوله:"فهو بما استحللت من فرجها".
ومن فوائده: أن المهر لا يستقر بالخلوة لقوله: "بما استحللت من فرجها"؛ ولقوله تعالى: {وقد فرضتم لهنَّ فريضةً فنصف ما فرضتم إلَّا أن يعفون} [البقرة: 237]. الشاهد قوله: "من قبل أن
تمسوهن"، ولكنه قد ورد عن الصحابة والخلفاء الراشدين أن الخلوة تقرر المهر، فتكون الحجة قول الخلفاء الراشدين.
ومن فوائد الحديث: أنه إذا اجتمعت علتان موجبتان للحكم كان ثبوت الحكم بهما أقوى من العلة الواحدة؛ لقوله: "وإن كنت كذبت عليها فذلك أبعد لك منها"؛ لأنه إذا كان لا يستحق إرجاع المهر وهو صادق، فعدم إرجاعه عليه وهو كاذب من باب أولى؛ لأنه بهتها وكذب عليها.
1057 -
وعن أنس رضي الله عنه، أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"أبصروها، فإن جاءت به أبيض سبطًا فهو لزوجها، وإن جاءت به أكحل جعدًا، فهو للَّذي رماها به". متَّفقٌ عليه.
"أبصروها" يعني: انظروها ماذا يكون من الولد الذي يأتي من هذه المرأة التي حملت، وقوله:"سبطًا"، السبط هو الكامل من الأطفال، وهو الذي يولد كاملًا، أما السبط فهو الشعر اللين وضده الشَّعر الجعد، والذي عندنا بسكون الباء، وقد فسره الشارح بأنه: الكامل في الخلقة، يعني: أتت بالولد كاملًا ليس فيه نقص، يقول:"جاءت به أبيض" هذا في اللون، "سبطًا" في الخلقة "فهو لزوجها"، وذلك لأن الزوج كذلك أبيض كامل الخلقة مكتملًا، والغالب أن الجنين يأتي مشبهًا لأبيه. "وإن جاءت به أكحل جعدًا فهو للذي رماها به"، "أكحل" يعني: أنه شديد سواد منابت الجفن، وهو خلقةٌ يكون فيها أصول شعر الجفن سوداء فترى العين وكأنها مكحولة، وقوله:"جعدًا" هو سبطًا، فإذا قلنا: إن سبطًا بمعنى متكامل الخلقة يكون الجعد فيه نقص هزيل ضعيف، وجاءت به على النعت المكروه ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقم عليها الحد؛ لأن البينة كملت باللعان وانتهت العلاقة بينها وبين الزوج فلم يقم الحد عليها.
في هذا الحديث: دليل على مشروعية التحقق في الأمر لقوله: "أبصروها".
وفيه أيضًا من الفوائد: العمل بالشبه؛ لقوله: "جاءت به
…
إلخ"، وقد عمل النبي صلى الله عليه وسلم بالشبه وجعله محاصرًا للنسب ومزاحمًا له، وذلك في قصة عبد بن زمعة مع منازعته سعد بن أبي وقاص في الغلام الذي قال سعد بن أبي وقاص: يا رسول الله، إن هذا لأخي عتبة بن أبي وقاص عهد به إلىَّ وكان من وليدة زمعة، وزمعة اسم رجل، فقال عبد بن زمعة: يا رسول الله، هذا لأبي ولد على فراشي، فكيف يكون لعتبة بن أبي وقاص؟ فقال سعد: يا رسول الله أنظر إلى
شبهه فنظر إليه هو شبيه بعتبة بن أبي وقاص، ثم قال:"الولد للفراش وللعاهر الحجر"، وألحقه بزمعة، وقال:"هو لك يا عبد بن زمعة" ثم قال لسودة بنت زمعة: "احتجبي منه" مع أنه حكم بأنه أخوها شرعًا يرثها وترثه ويصلها وتصله وقال: "احتجبي عنه" فانتزع هذا الحكم من أحكام النسب من أجل الشبه البين بعتبة فالعمل بالقرائن أمر ثابت في شريعتنا وهي شريعة من قبلنا.
في شريعة من قبلنا قصة يوسف فإن الحاكم الذي حكم قال: {إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكذابين (26) وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين (27) فلما رءا قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم} [يوسف: 26 - 28]. وفي قصة سليمان مع المرأتين اللتين أكل ابن إحداهما الذئب فطلب سكينًا يشق الباقي من الولدين نصفين، أما الكبرى فوافقت وأما الصغرى فأبت، فقضى به للصغرى بالقرينة وهي الشفقة والرحمة، المهم أن القرائن يعمل بها ولكن هل القرائن تغير الأحكام الشرعية؟ الجواب: لا، لكن يعمل بها عند فقد الحكم الشرعي، فمثلًا لو جاءنا مدع ومدعي عليه وكان بيد المدعى عليه آلة حدادة وهو من الحدادين، وكان عند المدعي بينة أن هذه الآلة له، فهنا قرينة وهنا شرعية بأيهما نعمل؟ بالبينة، فالقرائن عند عدم وجود البينات لا شك أن لها أثرها، فإن قال قائل: لماذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإبصارها حتى ينظر ولدها أليس الستر أولى؟ الجواب أن يقال: نعم الستر أولى لكن هنا تعلق حق طرف آخر وهو الزوج وذلك من أجل أن يظهر للناس أن الزوج أصدق منها إن جاءت به على النعت المكروه أو أنها هي أصدق منه إن جاءت به على الوصف المطلوب، وإلا فلا شك أن الستر أولى، لكن لما تعلق الغير أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يسأل ويبحث.
1058 -
وعن ابن عبَّاس رضي الله عنها: "أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر رجلًا أن يضع يده عند الخامسة على فيه، وقال: إنَّها موجبةٌ". رواه أبو داود والنَّسائيُّ، ورجاله ثقاتٌ.
قوله: "أمر رجلًا يضع يده"، الرجل هذا لا نعلمه، وليس من الضروري أن يعلم؛ لأنه لا يختلف به الحكم سواء علم أم لم يعلم، المهم أنه أمر هذا الرجل أن يضع يده عند الخامسة على فيه، أي على في الزوج لعله يمسك، وقال:"إنها موجبة"، "إنها" أي: الخامسة، "موجبة" لأي شيء؟ قيل: إنها موجبة للعنة؛ لأنه سيقول وأن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، وقيل موجبة للحد على المرأة لقوله تعالى:{ويدرؤا عنها العذاب أن تشهد أربع شهدات بالله} فثبوت
العذاب عليها ثبت بشهادة الزوج، لكن الأقرب- والله أعلم- أن الحديث عام، لأنه صالح للمعنيين لوجوب اللعنة على من دعا على نفسه بها، وكذلك وجوب الحد على المرأة يعني كأنه قال، إنك إن فعلت فستحد المرأة إلا أنه يرد على هذا يعارض هذا أنه لو شاءت المرأة لرفعت الحد فلا يكون قوله موجبًا، لكنه سبب للإيجاب، لأنه قد يعارض بمانع وهو أن المرأة تلاعن وينتفي عنها الحد وعليه فيكون المقطوع به أن كلمة "موجبة" يعني: موجبة للعن، أما كونها موجبة للحد ففيها احتمال.
يستفاد من هذا الحديث: جواز التوكيل بما يتعلق بالحدود؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الرجل أن يضع يده على فيه عند الخامسة، وهذا شيء ثابت، وقد مر علينا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر أنيس أن يغدو إلى امرأة الرجل فإذا اعترفت رجمها.
ومن فوائد الحديث: مشروعية وضع اليد على فيَّ الزوج عند الخامسة لعله يتراجع؛ لأنه إذا رجع فسوف يقام عليه حد القذف وهو أهون من عذاب الآخرة.
ومن فوائد الحديث: أن من دعا على نفسه بما يعلم أنه كاذب فيه فإنه جدير بأن يحق عليه هذا الدعاء لقوله: "إنها موجبة"، فليحذر الإنسان من هذه المسألة التي قد يتهاون بها بعض الناس، فيقول: هو يهودي إن كان قال كذا هو نصراني، إن كان قال كذا وهو يعلم أنه قاله؛ لأن هذا ربما يعاقب فينسلخ من دين الإسلام بناء على الحلف.
1059 -
وعن سهل بن سعد رضي الله عنه في قصة المتلاعنين- قال: "فلمَّا فرغا من تلاعنهما قال: كذبت عليها يا رسول الله، إن أمسكتها، فطلَّقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم". متَّفقٌ عليه.
إذا انتهى اللعان بين الزوجين ثبتت الفرقة، وهي بينونة الطلاق الثلاث؛ فإنها تحل بعد الزواج، نقول: إذا انتهى اللعان ثبتت الفرقة بتفريق الحاكم أو بمجرد انتهاء اللعان؟ الصحيح أنه بمجرد انتهاء اللعان تثبت الفرقة، يعني: إذا لاعن الزوج ثم لاعنت الزوجة ثبتت الفرقة بينهما، فطلاقهما ثلاثًا إنما هو من باب توكيد هذه الفرقة وليس طلاقًا واقعًا على محل؛ لأن الزوجة قد بانت منه، وعلى هذا فلا يكون في الحديث دليل على جواز طلاق الثلاث جملة واحدة كما استدل به بعضهم وسيأتي تقرير ذلك- إن شاء الله تعالى.
فيؤخذ من هذا الحديث: أن طلاق الثلاث بعد اللعان جائز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر الزوج على هذا ولم ينكر عليه ولو كان محرمًا لأنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم، هكذا استدل به بعض العلماء،
وقال: إن الرجل إذا قال لزوجته: أنت طالق ثلاثًا، أو قال: أنت طالق أنت طالق؛ فإنه حلال.
ووجه الاستدلال من هذا الحديث: إقرار النبي صلى الله عليه وسلم للزوج على ذلك، ولكن الصحيح خلاف هذا القول، وأن الطلاق الثلاث بكلمة واحدة أو بكلمات متعاقبات حرام؛ لأنه ثبت من حديث محمود بن لبيد أن رجلًا طلق زوجته ثلاثًا بكلمات أو بكلمة فقام النبي صلى الله عليه وسلم غضبان وخطب الناس وقال:"أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟ ! "، وهذا إنكار بيَّن واضح، ويدل لذلك أيضًا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما رأى الناس قد تتايعوا في هذا الأمر وكثر فيهم الطلاق الثلاث ألزمهم به فقال: إن الناس قد تعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم، وهذا يدل على أنه حرام، وإلا لما عاقبه عمر على ذلك.
فإذا قال قائلٌ: إذن ما الجواب عن هذا الحديث؟
قلنا الجواب: ما قال العلماء الآخرون الذين قالوا بالتحريم وهو أن هذا الطلاق إنما هو من باب توكيد البينونة فقط وإلا فإنه طلاق وارد على غير مورده؛ لأن المرأة بمجرد تمام اللعان وهذا هو مذهب الإمام أحمد رحمه الله أنه لا يحل طلاق الثلاث بكلمة واحدة أو بكلمات بدون رجعة.
مسألة: هل يلحق الولد الزاني أو يلحق الزوج هذا الحديث الذي مر علينا؟ حديث أنس قد يدل على أنه إذا جاء مشبهًا للأب- أي: الزوج- فهو أبوه، وإن جاء مشبهًا للزاني فهو له لكن أكثر العلماء لا يرون أن الولد ينتفي عن أبيه ولا يلتحق بالزاني لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"الولد للفراش وللعاهر الحجر"، الفراش انتفى الآن بقي نصيب العاهر وهو الزاني الحجر، ولهذا كان يدعى لأمه لا يدعي للزاني.
ولكن العلماء اختلفوا فيما لو زنى رجل بامرأة ليست فراشًا ثم أراد أن يستلحقه فهل يلحقه به أم لا؟ أكثر العلماء يقولون: لا لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "وللعاهر الحجر"، وقال بعض العلماء: إذا استلحقه وليس له معارض فإنه يلحقه؛ لأنه ولده كونًا، وليس هناك ما يمنع إلحاقه به شرعًا، بخلاف ما لو تنازع الزوج والزاني فهنا يكون الولد للفراش للزوج.
ثم هاهنا مسألة: هل ينتفي الولد باللعان بدون نفيه أو لا بد من نفيه؟ الجمهور على أنه لا بد من نفيه والصحيح أنه يصح نفيه ولو كان حملًا قبل أن يوضع، ولكن على هذا الرأي إذا
قلنا لا بد من نفيه فهل يجوز للزوج أن ينفيه؟ هذا محل تفصيل: إذا كان الحمل قبل اتهامها بالزنا فإنه لا يجوز أن ينفيه لأنها نشأت به قبل الزنا فهو لزوجها ولا يجوز أن ينفيه وإن كان بعد الزنا ووضعته لأقل من ستة أشهر من الزنا وعاش فلا يصح نفيه أيضًا؛ لأنها لما وضعته لأقل من ستة أشهر وعاش علمنا أنه كان قبل الزنا؛ لأن أقل مدة الحمل الذي يمكن أن يعيش ستة أشهر، إذن في هذين الحالين يلحق الولد الزوج ولا يصح أن ينفيه، أما إذا أتت به لأكثر من ستة أشهر في وقت يمكن أن يكون نشأ من الزاني أو يحتمل أن يكون من الزوج، نظرنا إن كان الرجل قد استبرأها قبل أن يتهمها بالزنا؛ فليس الولد له، ومعنى استبرأها: أنها حاضت قبل أن تتهم بالزنا لأن من علامات عدم الحمل الحيض وحينئذٍ لا يكون الولد له، وكذلك لو فرض أنها وضعته لأكثر من أربع سنين منذ جامعها الزوج ودون أربع سنين منذ جامعها الزاني فلا يلحق بالزوج على القول بأن أكثر مدة الحمل أربع سنين، فالمسألة تحتاج إلى تفصيل.
من فوائد الحديث: جواز الوصف بالتغليب لقوله: "في قصة المتلاعنين" مع أن اللعان إنما يكون من الزوج، والوصف بالتغليب كثير في اللغة وفي الشرع، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:"بين كل أذانين صلاة"، والمراد بهما الأذان والإقامة، على أنه يمكن أن نقول إن الإقامة أذان؛ لأنها إعلام بالقيام بالصلاة، لكن المعروف أن الأذان غير الإقامة كما في حديث أنس بن مالك أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة"، ومن ذلك أيضًا أمر النبي صلى الله عليه وسلم للمؤذن أن يقول في الأذان الأول لصلاة الصبح "الصلاة خير من النوم" بعد حي على الصلاة حي على الفلاح، والمراد بالأذان الأول: الأذان الذي يكون بعد دخول الوقت؛ ووصفه بالأول؛ لأن هناك أذانًا ثانيًا وهو الإقامة، وهذا متعين لمعنى الحديث، وأما ما ذهب بعض الناس من أن المراد به: الأذان الذي يكون في آخر الليل فهذا من الأوهام التي لا يثبت بها الحكم؛ لأنها لا تقوم على دليل صحيح أو قياس سليم؛ لأن الأذان الذي يكون في آخر الليل ليس للفجر إذ إن الفجر بالإجماع لا يدخل إلا بعد طلوع الفجر وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث: "إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم"، فأذان الفجر إنما يكون بعد طلوع الفجر وإذا كان كذلك فإن الإذان الذي يكون في آخر الليل بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم الغرض منه فقال:"إن بلالًا يؤذن بليل ليوقظ نائمكم ويرجع قائمكم" فليس أذانًا للصلاة لكنه أذان للاستعداد للسحور، وعلى هذا فمن بدَّع المؤذنين اليوم- أي: نسبهم إلى البدعة- وقال: إن قولهم الصلاة خير من النوم في أذان الفجر بدعة فهو المبتدع؛ لأن تبديع ما دلت السنة على أنه
صواب يكون بدعة؛ لأنه إنكار سنة، فالمتعين أن قول المؤذن: الصلاة خير من النوم إنما هو في الأذان الذي يكون بعد طلوع الفجر ولا شك، لكنه سمِّي أولًا باعتبار الإقامة وأظن في صحيح مسلم أن عائشة ذكرت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع الأذان الأول قام فصلى ركعتين، يعني: سنة الفجر فوصفت الأذان بأنه الأول، وقد كتبت في هذا جوابًا لبعض الإخوة الذي جاء ترتعد فرائصه يقول كنا وآباؤنا ضالين نعمل بدعة نعلنها على المنابر، فيسر الله عز وجل جوابًا شافيًا أعطيناه إياه في هذه المسألة.
ومن فوائده الحديث: أن فراق المتلاعنين فراق بائن؛ لقوله: "كذبت عليها إن أمسكتها، فطلقها ثلاثًا قبل أن يأمره"؛ لأن مراده بالطلاق الثلاث هنا البائن، ولكنه كما علمتهم من قبل قلنا: إن البينونة حصلت باللعان، أما الطلاق الثلاث فلا بينونة فيه؛ لأن ابن عباس روى كما في صحيح مسلم- أن الطلاق الثلاث في عهد النبي وعهد أبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلقة واحدة فليس فيه بينونة.
1060 -
وعن ابن عبَّاس رضي الله عنها: "أنَّ رجلًا جاء إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: إنَّ امرأتي لا تردُّ يد لامس. قال: غرِّبها. قال: أخاف أن تتبعها نفسي. قال فاستمتع بها". رواه أبو داود والتِّرمذي، والبزًّار، ورجاله ثقلتٌ.
- من وجه آخر عن ابن عباس بلفظ: "قال: طلِّقها. قال: لا أصبر عنها. قال: فأمسكها".
"أن رجلًا جاء" من هذا الرجل؟ لا يعنيها اسمه؛ لأن تعيين الاسم ليس بلازم ما لم يتوقف عليه فهم المعنى، وهنا لا يتوقف عليه المعنى، قال:"إن امرأتي لا ترديد لامس"، لامس أي شيء؟ لامس لها جسمها، المعنى: أنها تتهاون في ملامسة الرجال، وليس المراد كما زعمه بعضهم أنها لا ترد يد لامس أي ملتمس للعطاء، فقال الرسول:"غربها أو طلقها"؛ لأن النبي
صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يقول للرجل طلق زوجتك لأنها كريمة لا ترد يد ملتمس، بل الظاهر أن المراد لا ترد يد لامس أنها تتساهل في ملامسة الرجال في مصافحتهم مثلًا وما أشبه ذلك، فقال:"غربها" يعني: سافر بها إلى بلد تكون فيه غريبة لتبتعد عن ملامسة الرجال؛ لأن الغريب ليس كالمستوطن، المستوطن يكون منشرحًا متسع الصدر، لكن الغريب ينطوي على نفسه وينقبض ولا يلتفت لمثل هذه الأمور، وقوله:"غربها" قلنا: أي: سافر بها إلى بلد الغربة، لكن لا يلزم من ذلك أن يبقى معها يغربها ويرجع أو يغربها مع أحد أقاربها وما أشبه ذلك، قال:"إني أخاف أن تتبعها نفسي" يعني: أن تتعلق بها نفسي فقال: "فاستمتع بها" يعني: أبقها عندك واستمتع بها كما تستمع بها في العادة، وفي لفظ:"طلقها" أمره بطلاقها لأن ذلك أبعد عن الشبهة- شبهة الولد- أو لأنها- أي: هذه المرأة- لسعتها يخشى من تصرفها الفتنة، قال:"لا أصبر عنها"؛ لأن نفسه متعلقة بها قال: "فأمسكها".
المسألة الآن واضحة وهي: أن هذه المرأة ليس عندها شيء من التحفظ التام بل هي متساهلة، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلقها أو أن يغربها، ثم لما رأى أن نفسه لا تصبر عنها أذن له في إمساكها.
فإن قال قائل: هل يصح أن نحمل قوله لا ترد يد لامس على كونه كناية عن الجماع؟
فالجواب: أن هذا لا يصح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لو أذن له وهي على هذه الحال لكان أذن له بالدياثة أن يبقى زوجته وهي تزني وهذا شيء مستحيل.
في هذا الحديث فوائد منها: صراحة الصحابة- رضي الله عنهم في معرفة الحق؛ لقوله: "إن امرأتي لا ترد يد لامس".
ومنها: أن ذكر الإنسان بما يكره للاستفتاء ونحوه لا بأس به، ولا يكون من الغيبة؛ وذلك للمصلحة الراجحة التي تربو على ذكره بما يكره، ومثل ذلك: ذكر الإنسان بما يكره في باب النصيحة، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن فاطمة بنت قيس جاءت تستشيره في ثلاثة من الصحابة خطبوها وهم معاوية وأسامة بن زيد وأبو جهم فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم:"أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم فضراب للنساء" ثم قال: "أنكحي أسامة".
ومن فوائد الحديث: أن من النساء وإن كن نساء من السلف الصالح من يتهاون في ملامسة الرجال أو مصافحتهم؛ لقوله: "إن امرأتي لا ترد يد لامس".
ومن فوائد الحديث: البناء على يد المدعي في باب الفتوى بخلاف الحكم، وجهه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: هات الشهود أو يأتي يطلب المرأة لتقر أو تنكر، ونظير ذلك قول هند بنت
عتبة: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي، فقال "خذي ما يكفيك ويكفي ولدك بالمعروف"، ولم يقل: أقيمي البينة؛ لأن باب الفتوى أوسع من باب الحكم، فالمفتي يفتي والمسئولية على المستفتي، لكن في باب الحكم تكون المسألة مبنية على المشاحة فلا يجوز للقاضي أن يحكم على غائب، وقد قيل إن داود- عليه الصلاة والسلام إنما فتن بكونه حكم على الخصم دون أن يسأله؛ لأنه تسوروا عليه المحراب وقالوا خصمان بغى بعضنا على بعض، ثم قال أحد الخصمين: إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال: أكفلنيها وعزَّني في الخطاب، قال: لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه دون أن يسأل الخصم الثاني، وهذا نقص في الحكم؛ ولهذا قال الله تعالى:{وظن داود أنَّما فتنه فاستغفر ربه وخر راكعًا وأناب} [ص: 24].
وهذه القصة فيها: أولًا: أن داود احتجب عن الناس في محرابه مع أنه من حكم بين الناس لا بد أن يكون بارزًا لهم ليسهل عليهم مراجعته، وهو لم يفعل.
وثانيًا: أنه حكم للخصم دون أن يسأل المحكوم عليه وهذا أيضًا نقص في الحكم، وأما دعوى من يقول: إنه عشق امرأة أحد جنوده وإنه تحيَّل ومكر به وأخرجه مع الغزاة لعله يقتل فيأخذ امرأته فلا شك أن هذا من دسائس اليهود، وأنه لا يليق برجل عاقل فضلًا عن نبي من الأنبياء، ولا يحل لإنسان يعرف فضل الأنبياء أن يتهم داود- عليه الصلاة والسلام بمثل هذه التهمة أبدًا والقرآن لم يشر إلى هذا إطلاقًا.
ومن فوائد الحديث: صراحة الصحابة- رضي الله عنهم في مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم لقول الرجل عن زوجته: "إنها لا ترد يد لامس".
ومنها: عفة الصحابة وبعدهم عن الخنا؛ لأن هذا الرجل لم يصبر على ما كانت عليه زوجته من التساهل في أيدي اللامسين وإلا لغض الطرف وسكت.
ومن فوائد الحديث: أن الإنسان إذا رأى من أهله مثل ذلك ولم يتمكن من حفظهم فإن الأولى أن يطلق لئلا يكون ديونًا، فإن تمكن من حفظهم وجب عليه ذلك أن يحفظهم؛ لأن طلاقها ليس حلًّا للمشكلة؛ إذ قد يطلقها إلى زوج آخر أو تنفرد عن الأزواج وتكون حالها أسوأ.
ومن فوائد الحديث: مراعاة رجحان المفاسد بعضها على بعض، ووجه ذلك: أن الرسول صلى الله عليه وسلم دفع مفسدة فراقها وتعلق بها وأنه لا ويصبر وربما يضيع بذلك حقوق لقوة تعلق قلبه بها فأمره بإمساكها.
ومن فوائد الحديث: أن الأمر في مقام الإذن لا يدل على الوجوب، بل ولا على الاستحباب لقوله:"فاستمتع بها فأمسكها"؛ لأن المعنى": فلك أن تستمتع بها ولك أن تمسكها،
وهذه قاعدة في أصول الفقه، بمعنى أن الأمر بعد النهي أو الأمر بعد الاستئذان يفيد الإباحة، فإذا استأذنني شخص في الدخول إلى البيت فقلت: ادخل، فليس هذا بأمر وإنما هو إذن وإباحة.
ومن فوائد الحديث: أنه قد يسكت عن البيان إلى وقت آخر؛ لأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإمساكها ليس يعني أن يمسكها على ما هي عليه قطعًا، فالإمساك هنا مطلق، ولكن لا بد أن يضاف إليه قيد وهو أمسكها مع إصلاحها ومحاولة منعها مما هي عليه.
1061 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: "أنَّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين نزلت آية المتلاعنين-: أيُّما امرأةٍ أدخلت على قومٍ من ليس منهم؛ فليست من الله في شيءٍ، ولن يدخلها الله جنَّته، وأيُّما رجلٍ جحد ولده وهو ينظر إليه؛ احتجب الله عنه، وفضحه الله على رءوس الأوَّلين والآخرين". أخرجه أبو داود، والنَّسائيُّ، وابن ماجه، وصحَّحه ابن حبَّان.
"أيما امرأة" هذه اسم شرط جازم "أي" و"ما" زائدة، وتزداد "ما" كثيرًا في أسماء الشرط مثل:{أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} [الأسراء: 110].
وقوله: "أدخلت" هذا فعل الشرط، وقوله:"فليست من الله في شيء" هذا جواب الشرط أي: أن الله تعالى بريء منها وليست منه في أمان أي من عذابه بل هي معرضة للعقوبة، وقوله:"على قوم من ليس منهم" يعني: بحيث يكون من ولد زنا، فإن الزاني إذا زنى بامرأة متزوجة أو غير متزوجة ثم تزوجت في الحال، فإن هذا الولد من الزاني ينسب إلى الزوج فتكون أدخلت على هؤلاء القوم من ليس منهم، "ولم يدخلها الله جنته" فبين أن العقوبة أن الله سبحانه يتبرأ منها، براءة الله منها وحرمانها دخول الجنة وقوله:"جنته" من باب إضافة المخلوق إلى خالقه وليست من باب المسكون للساكن؛ لأن الله تعالى فوق العرض، لكنها من باب إضافة المخلوق إلى خالقه، كإضافة البيت إلى الله وإضافة الناقة إلى الله، قال:"وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله عنه وفضحه على رءوس الأولين والآخرين" هذا وعيد ضد الأول رجل جحد ولده وهو ينظر إليه؛ يعني: أنه قد تأكد أنه منه ولكنه يجحده لتهمة حصلت لامرأته، مثلًا أو شك وقع في قلبه فيتبرأ منه فهذا الذي يفعل يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"احتجب الله عنه" يعني: يوم القيامة ولم ينظر إليه، والثاني:"فضحه على رءوس الأولين والآخرين" أي: كشف ستره وبين خطأه وذلك يوم القيامة.
1062 -
وعن عمر رضي الله عنه قال: "من أقرَّ بولده طرفة عين؛ فليس له أن ينفيه". أخرجه البيهقي، وهو حسنٌ موقوفٌ.
• في هذا الحديث والأثر فوائد:
أولًا: إن إدخال المرأة أحدًا على قوم وهو ليس منهم من كبائر الذنوب، وجهه الوعيد؛ لأن كل ذنب توعد عليه فهو كبيرة من الكبائر، ووجه ذلك أن إدخال الولد وليس من القوم على القوم يترتب عليه أمور كبيرة عظيمة منها المحرمية أنه يكون من محارمها، ومنها الإرث والنفقات وتحمل الديات
…
إلى غير ذلك مما يترتب على النسب، فيترتب عليه أمور عظيمة لذلك كان إدخال شخص على قوم ليس منهم من كبائر الذنوب.
ومن فوائد الحديث: أن من عقوبات الذنوب أن يتبرأ الله من فاعلها؛ لقوله: "فليست من الله في شيء". فإن قلت: هل يصح أن نصف الله بالتبرأ؟ قلنا: نعم يصح في القرآن قال الله تعالى: {براءة من الله ورسوله} [التوبة: 1]. {أن الله بريء من المشركين ورسوله} [التوبة: 3].
ومن فوائد الحديث: إثبات الجنة، وهذا أمر معلوم بالضرورة من الدين، لكن أريد ما يتفرع على ذلك وأنها جنة عظيمة؛ لأن الله أضافها إلى نفسه، ولا يضيف شيئًا إلى نفسه من المخلوقات على وجه الخصوص إلا لمزية هنا أن هذه الجنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ومثلها ناقة الله؛ لأنها آيته، ومنها بيت الله؛ لأنه محل تعظيمه وشعائره، المهم لا بد أن يكون له مزية ولهذا لا يضاف إلى الله على سبيل الخصوص من المخلوقات إلا ما له العظيم حتى إن العلماء نهوا أن يضاف إلى الله شيء على وجه الخصوص من مخلوقاته وهو قبيح، فقالوا: أنه ينهي أن تقول إن الله رب الكلب أو رب الحمار على سبيل الخصوص لأن فيه سوء أدب مع الله لكن قل إن الله رب كل شيء يعم هذا وهذا، لكن لو قلت: إن الله رب الصالحين رب المؤمنين وما أشبهها فهذا لا بأس به.
ومن فوائد الحديث: أن تبرؤ الإنسان من ولده من كبائر الذنوب لترتب العقوبة على ذلك. ومن فوائد الحديث: أن ظاهره أن تبرؤ الإنسان من ولده إذا لم يكن عنده يقين أنه منه فإنه لا يترتب عليه هذه العقوبة؛ لأن هذا هو فائدة قوله: "وهو ينظر إليه"، ولكن هل له أن ينفيه لمجرد الاحتمال؟ سيأتي في الحديث القادم.
ومن فوائد أثر عمر. لا خيار للمرء يعد أن يستلحق الولد فإنه يثبت أنه ابنه؛ لقوله: "من أقر بولده طرفة عين فليس له أن ينفيه"، وهذا العلة فيه واضحة؛ لأنه لو فتح هذا الباب لتلاعب
الناس بالأنساب وصار الوالد يقر بالولد وينكره غدًا، فمن أقر بأن هذا ولده ولو طرفة عين فليس له أن ينفيه، لو جاءه وقال له: إن امرأتك زنت وهذا الولد من الزاني فهل له أن ينفيه؛ بعد اعترافه به؟ لا، ليس له، حتى لو فرض أن الشبه للزاني أكثر منه للزوج فإنه لا يمكن أن ينفيه؛ بعد اعترافه به؟ لا، ليس له، حتى لو فرض أن الشبه للزاني أكثر منه للزوج فإنه لا يمكن أن ينفيه؛ لأنه ثبت النسب واستقر، والنسب لا يمكن رفعه بعد استقراره.
1063 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه "أنَّ رجلًا قال: يا رسول الله، إنَّ مرأتي ولدت غلامًا أسود؟ قال: هل لك من إبلٍ؟ قال: نعم. قال: فما ألوانها؟ قال: حمرٌ. قال: هل فيها من أورق؟ قال: نعم. قال: فأنَّي ذلك؟ قال: لعلَّه نزعه عرقٌ. قال: فلعلَّ ابنك هذا نزعه عرقٌ". متَّفقٌ عليه.
- وفي روايةٍ لمسلمٍ: "وهو يعرِّض بأن ينفيه" وقال في آخره: "ولم يرخِّص له في الانتفاء منه".
وهذا الرجل أعرابي من البادية صاحب إبل جاء يسأل النبي صلى الله عليه وسلم هذا السؤال الغريب قال: "إن امرأتي ولدت غلامًا أسود" يعني: وأنا أبيض وأمه بيضاء، فمن أين جاءه السواد، هذا محل إشكال، يعني: تشكل على كثير من الناس أن يأتيه أولاد سود وهو وأمه أبيضان، هذا مشكل كما أنه كان شبهه في التخطيط يخالف شبه أبويه لصار ذلك أيضًا محل إشكال، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"هل لك من إبل؟ " الجملة هذه كلها ليس فيها إلا جار ومجرور، والمعروف أن الجمل لا بد لها من عمدة مبتدأ وخبر فعل وفاعل فعل ونائب فاعل وهنا لا يوجد إلا جار ومجرور في كلمتين هل لك "لك" جار ومجرور "من إبل" جار ومجرور، فكيف نخرج هذا على القاعدة؟ لأن من زائدة والتقدير هل لك إبل و"من" تأتي زائدة بعد النفي والاستفهام كثيرًا، هنا قال:"هل لك من إبل" يعني: هل لك إبل لكن كيف أعرب إبلًا؟ نقول: إنها مبتدأ مرفوع بضمة مقدرة على آخره منع ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، قال: نعم قال: "فما ألوانها" قال: "حمر قال
…
إلخ" الحمر بسكون الميم، والحمر: جمع حمار؛ ولذلك بعض الناس يغلط إذ يقول: خير لك من حمر النعم- بضم الميم- فهل النعم لها حمر؟ فالصواب: حمر النعم بالسكون جمع أحمر وحمراء.
قال: "هل فيها من أورق؟ " نقول في هذه الجملة كما قلنا في جملة: "هل لك من إبل؟ " قال: "هل فيها من أورق؟ " و"الأورق" الذي لونه لون الورق؛ أي: الفضة وهو بين البياض والسواد يعني: أشهب قال: نعم، قال:"فأنى ذلك؟ " يعني: من أين جاء هذا الأورق وألوانها
حمر؟ ! قال: "لعله نزعه عرق""نزعه" يعني: جذبه عرق من آبائه أو أمهاته أو أجداده أو جداته فالأعرابي فاهم هذا أنه ربما يكون عرق سابق ينتزع ويجذب هذا الذي حصل من هذه الناقة الحمراء.
قال: "فلعل ابنك هذا نزعه عرق" أي: كان أحدٌ من جداته أو أجداده من قبل أبيه أو أمه أسود فنزعه هذا العرق و"لعل" هنا للتوقع، يعني: كما أنك تتوقع أنه نزعه عرق، أي: الجمل الأورق فكذلك هذا الولد يتوقع أنه نزعه عرق، يقول وفي رواية لمسلم "وهو يعرض بأن ينفيه
…
إلخ".
في هذا الحديث فوائد منها: أنه لا حرج على الإنسان في الشك إذا وجدت أسبابه، وجه الدلالة: أن هذا الرجل شك في كون الولد منه؛ لأنه يعرض بنفيه لما قال: إن امرأتي ولدت غلامًا أسود هو يريد- أن ينفيه فإذا وجدت قرائن تكون سببًا للشك فلا حرج على الإنسان فيه- أي في هذا الشك- لا يقال: إن هذا من باب الظن نقول: حتى لو قلنا: إنه من باب بالظن فقد قال الله تعالى: {اجتنبوا كثيرًا من الظن} ، ولم يقل كل الظن، وقال:{إن بعض الظن إثم} [الحجرات: 12]. ولم يقل كل الظن فالظن المبني على القرائن لا بأس به.
ومن فوائد الحديث: أن خلاف اللون من أسباب الشك والتهمة؛ لأن الأصل عدم مخالفة الولد لأبيه وأمه في اللون وكذلك في الأشباه لكن لعله نزعه عرق.
ومن فوائد الحديث: حسن تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم لقوله: "هل لك من إبل؟ " حتى أستدرجه واعترف هو نفسه بأن هذا الولد ربما يكون نزعه عرق.
ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للمفتي أن يراعي حال المستفتي فمثلًا إذا كان صاحب إبل ذكر له شيئًا يتعلق بالإبل وطبائعها، إذا كان صاحب غنم فكذلك، إذا كان صاحب تجارة فكذلك إذا كان صاحب نسب أو غير ذلك فهو هكذا، ولهذا لما جاء رجل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليسلم إلا أنه قال: اشترط أن يرخص له في الزنا، هذا الرجل الذي يريد أن يسلم قال: أنا أسلم لكن رخص لي في الزنا؛ لأني لا أصبر، قال: هل لك أم؟ هل لك بنت؟ هل لك أخت؟ قال: هل ترضى أن يزني أحد بأمك أو أختك أو بنتك؟ قال: لا قال: كيف ترضى أن تزني بنساء الناس ولا ترضى أن يزني الناس ولا ترضى أن يزني الناس بنسائك؟ ! فتوقف الرجل عرف أنه مخطئ فكون المفتي يضرب الأمثال للشخص بما يناسب حاله هذا يعتبر من البلاغة ومن حسن التعليم.
ومن فوائد الحديث: أن الإجابة بـ"نعم" كافية دون إعادة السؤال لقوله: "نعم" واعتبر مجيبًا للرسول صلى الله عليه وسلم وهذه المسألة لها شواهد كثيرة قد تكون الإجابة بـ"نعم" لفظا وقد تكون الإجابة بنعم إشارة، فقول عائشة للرسول صلى الله عليه وسلم حينما نظر إلى السواك مع عبد الرحمن بن أبي
بكر آخذه لك؟ قال: أشار برأسه نعم والجارية الأنصارية التي عرض عليها من رض رأسها فلان فلان فلان حتى ذكروا يهوديًّا فأشارت برأسها، هذا أيضًا يدل على أن الإجابة بنعم أو ما يقوم مقامها إجابة صريحة.
ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للإنسان أن يزيل الشك باليقين وألا يكون مترددًا في الأمور بل يورد على نفسه، يوجب طرد هذا الشك وجه ذلك: أن هذا الأعرابي سأل النبي صلى الله عليه وسلم وأجابه بجواب يزيل منه الشبهة وهذا أمر ينبغي للإنسان أن يستعمله في جميع مجريات حياته من أجل أن يطمئن وتستريح نفسه ولا يبقي كأنه في زجاجة يعني: أنه يطرد الشك وأسبابه بما يتبين له ولكن هل معنى ذلك أن الإنسان يبحث أو يعرض؟ هذا حسب ما تقتضيه الحال قد يكون من أسباب إزالة الشك أن تبحث حتى تصل إلى اليقين وقد يكون من أسباب الشك أن تعرض ولا تلتفت إليه ومن الإعراض أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما شكا إليه الصحابة ما يجدون في نفوسهم قال: "إذا وجد ذلك أحدكم فليستعذ بالله ولينته" يعني: يقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ويعرض ولا يلتفت إليه وبهذا تكون الراحة؛ وإلا فإن الشيطان يريد من بني آدم أن يكونوا دائما على قلق وعلى حزن {إنما النجوى من الشيطن ليحزن الذين ءامنوا وليس بضآرهم شيئًا إلا بإذن الله} [المجادلة: 10].
ومن فوائد الحديث: في رواية مسلم أن الرجل لا يعرض بزنا امرأته وإنما يعرض بانتفاء الولد فقط ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يرخص له في الانتفاء منه وبيَّن السبب في ذلك أنه ربما يكون نزعه عرق وليس من رجل أجنبي.
ويستفاد من هذا الحديث: أنه يجوز للإنسان أن ينتفي مما ولدت زوجته، ولكن هذا ليس بجائز على الإطلاق بل إنما يجوز إذا رآها تزني وولدت من يمكن كونه من الزاني، وأما إذا رآها تزني وولدت من لا يمكن أن يكون من الزوج فإنه يجب عليه أن ينفي الولد، إذا كان لا يمكن أن يكون من الزوج وذلك بأن تأتي به وزوجها غائب ليس حاضرًا، فإذا أتت به لأكثر من ستة أشهر من غيبة زوجها بل لأكثر من أربع سنين لغيبة زوجها فالولد من الزوج، ولا يحتمل أن يكون من الزاني فهنا لا يجوز أن ينتفي منه، مثل: أن تأتي به لأقل من ستة أشهر من الزنا فهنا فلا يكون من الزاني؛ لأن أقل الحمل ستة أشهر، وهذا الولد ولد لأقل من ستة أشهر من الزنا فلا يكون من الزاني ولا يجوز أن ينتفي منه، والثاني أن يحتمل أن يكون من الزوج ومن الزاني، ففي هذه الحال إن غلب على ظنه أنه من الزاني فله أن يلاعن، ولا