المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌صفة الرضاع الذي يثبت به التحريم: - فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام ط المكتبة الإسلامية - جـ ٥

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

- ‌7 - باب الطلاق

- ‌تعريف الطلاق لغة وشرعًا:

- ‌ذكر المفاسد المترتبة على الطلاق:

- ‌حكم طلاق الحائض

- ‌المحرم من الطلاق:

- ‌اختلاف حكم الطلاق ثلاثة مجموعة في عهد عمر رضي الله عنه:

- ‌مسألة: هل يقع الطلاق بحديث النفس أو الوسوسة

- ‌حكم الطلاق الخطأ وطلاق المكره:

- ‌ثبوت الطلاق يترتب على ثبوت النكاح:

- ‌حكم طلاق الصغير والمجنون والسكران:

- ‌كتاب الرجعة

- ‌حكم الإشهاد في الطلاق والرجعة:

- ‌1 - باب الإيلاء والظهار والكفارة

- ‌حكم الإيلاء:

- ‌مدة الإيلاء:

- ‌حكم المجامع في رمضان:

- ‌كفارة الظهار:

- ‌2 - باب اللعان

- ‌تعريف اللعان:

- ‌3 - باب العدة والإحداد والاستبراء وغير ذلك

- ‌عدة الوفاة

- ‌عدة الطلاق وفسخ النكاح:

- ‌حكم السكنى والنفقة للمطلقة البائنة وعدتها:

- ‌حكم التطيب والحناء في الحداد:

- ‌حكم الكحل في الحداد:

- ‌حكم خروج المعتدة المطلقة:

- ‌حكم خروج المعتدة بعد وفاة زوجها من بيتها:

- ‌طلاق الأمة وعدتها:

- ‌الاستبراء وأحكامه:

- ‌أحكام امرأة المفقود في العدة وغيرها:

- ‌التحذير من الحلوة بالأجنبية:

- ‌أحكام السبايا في الاستبراء:

- ‌4 - باب الرضاع

- ‌تعريف الرضاع:

- ‌مسألة إرضاع الكبير وأحكامها:

- ‌يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب:

- ‌صفة الرضاع الذي يثبت به التحريم:

- ‌النهي عن استرضاع الحمقى:

- ‌5 - باب النفقات

- ‌أسئلة ومناقشة:

- ‌النفقة على الزوجة والأولاد وأحكامها:

- ‌النفقة على المملوك وأحكامها:

- ‌حكم النفقة على الحامل المتوفى عنها زوجها:

- ‌مسألة طلب المرأة الطلاق عند عجز زوجها عن النفقة:

- ‌النفقة على الوالدين وأحكامها:

- ‌6 - باب الحضانة

- ‌تعريف الحضانة:

-

- ‌كتاب الجنايات

- ‌تعريف الجنايات لغة وشرعًا:

- ‌حرمة دماء المسلمين وتعظيمها:

- ‌المعتدي جان يفعل به كما فعل:

- ‌حالات إباحة قتل المسلم:

- ‌حرمة الدماء:

- ‌القصاص من الحر للعبد:

- ‌حكم قود الوالد بولده:

- ‌حكم قتل المسلم بكافر:

- ‌حكم قتل المؤمن بمعاهد:

- ‌الجناية على النفس:

- ‌جناية الصغير والمجنون:

- ‌ترك القصاص في الجروح قبل البرء:

- ‌الجناية على الحمل:

- ‌العفو عن الجناية:

- ‌الجناية على النفس وأنواعها:

- ‌الاشتراك في الجناية:

- ‌قتل الجماعة بالواحد:

- ‌التخيير بين الدية والقصاص وشروطه:

- ‌1 - باب الديات

- ‌مقادير الدية في الجروح:

- ‌دية القتل الخطأ:

- ‌دية قتل العمد وشبه العمد:

- ‌إلحاق دية شبه العمد بالقتل الخطأ:

- ‌دية الأصابع والأسنان:

- ‌ضمان الطبيب:

- ‌دية الشجاج:

- ‌دية أهل الكتاب:

- ‌دية المرأة والرجل:

- ‌تغليظ الدية وضوابطه:

- ‌2 - باب دعوى الدم والقسامة

- ‌3 - باب قتال أهل البغي

- ‌تعريف البغي، وبيان أهل البغي بالتفصيل:

- ‌قتال من حمل السلاح على المسلمين:

- ‌عقوبة مفارقة الجماعة:

- ‌ضوابط معاملة البغاة:

- ‌الحث على الاجتماع ونبذ الفرقة:

- ‌4 - باب قتال الجانب وقتل المرتدِّ

- ‌جواز قتل الصائل:

- ‌سقوط الضمان في الدفاع عن النفس:

- ‌سقوط الضمان للمتطلع لبيوت المسلمين:

- ‌ضمان ما أتلفته المواشي:

- ‌قتل المرتد:

- ‌شروط قتل المرتد:

- ‌قُتل من سب النبي أو زوجاته أو أصحابه:

- ‌كتاب الحدود

- ‌مفهوم الحدود وحكمه:

- ‌1 - باب حد الزاني

- ‌حد الزاني غير المحصن:

- ‌حكم الجمع بين الجلد والرجم:

- ‌ثبوت الزنا بالإقرار:

- ‌وجوب التثبت في إثبات الزنا:

- ‌طرق ثبوت الزنا

- ‌حد الأمة الزانية:

- ‌السيد يقيم الحد على مملوكه:

- ‌تأجيل إقامة حل الزنا على الحامل:

- ‌تخفيف الحد على المريض الضعيف:

- ‌عقوبة اللواط:

- ‌الجمع بين الجلد والتغريب للزاني البكر:

- ‌لعنة المخنثين والمترجلات:

- ‌درء الحدود بالشبهات:

- ‌وجوب إقامة حد الزنا عند ثبوته:

- ‌2 - باب حدِّ القذف

- ‌اللعان:

- ‌حد المملوك القاذف:

- ‌3 - باب حدِّ السَّرقة

- ‌نصاب السرقة الموجب للقطع:

- ‌جحد العارية:

- ‌المختلس والمنتهب:

- ‌اشتراط الحرز لوجوب القطع:

- ‌ثبوت السرقة بالإقرار:

- ‌لا ضمان على السارق:

- ‌حكم الجمع بين الضمان والقطع:

- ‌الشفاعة في الحدةد، ضوابطها:

- ‌الشبهة أنواعها وشروط انتفائها:

- ‌4 - باب حدِّ الشَّارب وبيان المسكر

- ‌عقوبة شارب الخمر:

- ‌تجنب الضرب على الوجه:

- ‌الخمر بين الطهارة والنجاسة:

- ‌كل مسكر خمر:

- ‌حكم مزج الزبيب بالماء أو اللبن:

- ‌حكم التداوي بالمحرم:

- ‌حكم التداوي بالخمر:

- ‌5 - باب التعزيز وحكم الصَّائل

- ‌التعزيز بين الوجوب والاجتهاد:

- ‌إقالة العثرات وضوابطها:

- ‌حكم الصائل:

- ‌الدفاع عن النفس:

-

- ‌كتاب الجهاد

- ‌تعريف الجهاد لغة وشرعًا:

- ‌أقسام الجهاد:

- ‌وجوب جهاد الدفاع وشروطه:

- ‌شرط القدرة على الجهاد وضوابطه:

- ‌الترغيب في الجهاد في سبيل الله:

- ‌جهاد النساء:

- ‌تقديم بر الوالدين على الجهاد:

- ‌حكم الإقامة في دار الكفر:

- ‌الهجرة من دار الكفار وأحكامها:

- ‌وجوب الإخلاص في الجهاد:

- ‌جواز الهدنة:

- ‌حكم الإغارة بلا إنذار:

- ‌وصايا الرسول صلي الله عليه وسلم لأمراء الجيوش:

- ‌فائدة جواز الجزية من مشركي العرب:

- ‌التورية عند الغزو:

- ‌القتال أول النهار وأخره:

- ‌جواز قتل النساء والذرية عند التبييت:

- ‌لا يستعان بمشرك في الحرب:

- ‌النهي عن قتل النساء والصبيان في الحروب:

- ‌جواز قتل شيوخ المشركين:

- ‌المبارزة في الحروب:

- ‌الحمل على صفوف الكفار وضوبطه:

- ‌إتلاف أموال المحاربين:

- ‌النهي عن الغلول:

- ‌سلب القاتل:

- ‌الرمي بالمنجنيق:

- ‌جواز قتل المرتد في الحرم:

- ‌القتل صبرًا:

- ‌الأسير وأحواله:

- ‌إسلام الكافر ونتائجه:

- ‌معرفة الجميل لأهله:

- ‌النهي عن وطء المسبية حتى تستبرأ أو تضع:

- ‌تنفيل المجاهدين بعد قسمة الفيء:

- ‌سهم الفارس والفرس والراجل:

- ‌حكم التنفيل:

- ‌حكم الأخذ من طعام العدو قبل القسمة:

- ‌وجوب المحافظة على الفيء:

- ‌يجير على المسلمين أدناهم:

- ‌إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب:

- ‌إجلاء بني النضير من المدين

- ‌تقسيم غنائم خيبر:

- ‌لا يحبس الرسول صلى الله عليه وسلم الرسل ولا ينقض العهد:

- ‌حكم الأرض المفتوحة:

- ‌1 - باب الجزية والهدنة

- ‌أخذ الجزية من المجوس:

- ‌أخذ الجزية من العرب:

- ‌مقدار الجزية عن كل حالم:

- ‌علو الإسلام بالوقوف عند العمل به:

- ‌السلام على الكفار وحكمه:

- ‌صلح الحديبية:

- ‌النهي عن قتل المعاهد:

- ‌2 - باب السبق والرمي

- ‌السباق على الخف والحافر والنصل:

- ‌محلل السبَّاق:

- ‌شرعية التدريب على القوة:

الفصل: ‌صفة الرضاع الذي يثبت به التحريم:

قلنا: نعم يجوز؛ لأنه إذا كان الرضاع في حقها لا يؤثر فقد قال الله تعالى: {وأحلَّ لكم مَّا وراء ذلكم} (النساء: 24). ولكن هل يجوز ان يجمع بينها وبين بنتها من الرضاع؟ نقول: لا يجوز؛ لأنه إذا حرم الجمع بين الأختين فالجمع بين الأم وبنتها من باب أولى.

هذا ما يقتضيه تقريرنا وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، ولكن من حيث الفتوى لا نفتي بالجواز؛ وذلك لأن جمهور العلماء - ومنهم أصحاب المذاهب الأربعة - على أن الرضاع له أثر في الصهر فلا نفتي بذلك لئلا يحصل ارتباك في مسألة القضاء لو ترافعوا للقضاة، فالقضاة سيحكمون بما عليه الجمهور وحينئذ يحكمون بفساد العقد، وإذا فسد العقد فسد ما يترتب عليه فنقول النساء كثير ولا تتزوجها، نعم لو لم يبق من بنات آدم إلا بنت زوجتك من الرضاع فلك أن تتزوجها؛ لان المسألة ليس فيها نص يدل على التحريم، ولا غرابة في ذلك أن نقول: لا تتزوجها وأنت لست محرمًا لها، فإن قضية سودة بنت زمعة مع الغلام الذي ادعاه سعد بن أبي وقاص وقال: إنه ابن اخي عتبة وعارضه فيه عبد بن زمعة قد حكم به النبي صلى الله عليه وسلم لعبد بن زمعة ومع ذلك قال لسودة وهي أخته: "احتجبي منه يا سودة"؛ لأنه رأى شبها بيَّنا بعتبة بن أبي وقاص، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الاحتياط وإثبات الحكم.

ومن فوائد الحديث: أن للتغذية أثرًا في التقارب بين الناس وفي غيرها؛ لان هذا الطفل لما تغذى باللبن صار كأنه منى أهل اللبن في مسالة النكاح والاحتياط له، ولا شك أن الإنسان يتأثر لما يتغذى به؛ ولهذا نص العلماء في باب الرضاع على أنه يكره استرضاع المرأة الحمقاء وسيئة الخلق؛ لأن ذلك يؤثر في طباع الصبي؛ ولذلك أيضًا حرم ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير؛ لان هذه حيوانات عادية فيخشى على من تغذى بها أن يكتسب من طباعها، والمسالة معروفة طبيًا بوضوح أن التغذية لها تأثير حتى في الصحة.

‌صفة الرضاع الذي يثبت به التحريم:

1089 -

وعن أمِّ سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يحرِّم من الرَّضاعة إلا ما فتق الأمعاء، وكان قبل الفطام". رواه التِّرمذيُّ، وصحَّحه هو والحاكم.

قوله: "لا يحرم من الرضاع إلا" هذه الجملة فيها حصر على طريقة النفي والاستثناء؛ لان الحصر له طرق متعددة أقواها النفي والاستثناء، ما في مثل قولنا: لا إله إلا الله، والطريقة الثانية من حيث

ص: 161

الرتبة في الحصر أن يكون بلفظ "إنما" مثل قوله تعالى: {إنَّما الله إلهٌ واحدٌ} ومن طرق الحصر أيضًا: تقديم ما حقه التأخير مثل: {ولله ملك السَّموات والأرض} ومنها: الحصر بضمير الفصل الحصر مثل: زيد هو الفاضل، يعني: لا غيره، ومن طرق الحصر كذلك: تعريف زكني الجملة المكونة من مبتدأ وخبر، فهو يفيد الحصر عند الجمهور، مثل: القائم زيد.

فالمهم: أن الحصر له طرق بعضها أقوى من بعض، هذا الذي معنا "لا يحرم من الرضاع إلا" أقواها.

وقوله: "إلا ما فتق الأمعاء" لو أخذنا بهذه الجملة لكان الذي يحرم من الرضاع هو ما يرضعه، لأنه هو الذي يفتق الأمعاء، إذ إن أمعاء الطفل حين الولادة غير منفتقة؛ لأنه يتغذى في بطن أمه بواسطة الصرة هذه الصرة - بإذن الله - كعرق النخلة في الأرض يمتص من الدم ما به يحيا وينمو حتى يأذن الله له بالخروج وحينئذ يرتضع من أمه بطريق أخرى، وهما الثديان اللذان ركبهما الله عز وجل على الصدر ليكون الطفل حين رضاعه في حضن أمه فيكون هذا أقوى للحنان من أمه عليه ويكون أريح له أيضا؛ لأنه سيبقى مضجعًا على فخذيها وتذلي عليه هذه الثدي، والله سبحانه عليم حكيم، المهم أن ظاهر الحديث أنه لا يحرم إلا ما كان أول رضعة لأنه هو الذي بها تنفتق الأمعاء ولكنه قال:"وكان قبل الفطام" فأشار بقوله هذا إلا أن العلة هي الفطام؛ وعلى هذا فيكون فتق الأمعاء في اول رضعة فتقا حقيقيًا وفتقها فيما بعد فتقا حكيمًا؛ لأنها عند الجوع تنسفط فإذا جاءها الغذاء باللبن انفتقت وكان قبل الفطام ومتى يكون الفطام؟ الفطام في الأصل يكون عند تمام الحولين لقوله تعالى: {وحمله وفصله ثلاثون شهرًا} (الأحقاف: 15).

وقال: {وفصاله في عامين} (لقمان: 14). وقال: {والولدت يرضعن أولدهنَّ حولين كاملين} (البقرة: 233). هذا هو الأصل، لكن من الأطفال من ينمو سريعًا ولا يحتاج إلى الرضاع إلا لمدة أقل من الحولين، فإذا فطم لأقل من حولين تم الفطام ومن الأطفال من يكون نموه ضعيفًا، إما لوراثة وإما لمرض، وإما لقلة لبنٍ، أو لغير ذلك المهم هذا يحتاج إلى زيادة عن الحولين، والحكم يدور مع علته، ولهذا لما قال:{والوالدات يرضعن أولدهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهنَّ وكسوتهنَّ بالمعروف لا تكلَّف نفسٌ إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإن أراد فصالًا} (البقرة: 233). الضمير يعود على الأم والأب {فصالًا عن تراض منهما وتشاور} فذكر القيود: {تراضٍ} و {وتشاورٍ} ، فالمسألة ليست بالهينة، وهذا يدل على كمال رعاية الله للأطفال، وأن رعايته لهم أشد من رعاية الوالدين، المهم أن قوله:"وكان قبل الفطام".

لو قال قائل: الفطام قبل الحولين أو بعدهما أو معهما؟

ص: 162

قلنا: ذلك يختلف باختلاف حال الطفل.

في هذا الحديث: إثبات تحريم الرضاع، يعني: انه يحرم لا أنه محرَّم، لقوله:"لا تحرم من الرضاع إلا ما فتق" فأثبت أن للرضاع تحريمًا.

ومن فوائد الحديث: أنه يشترط لكون الرضاع محرمًا أن يكون قبل الفطام، وهذا الحكم اختلف العلماء فيه، فمنهم من قال: إن هذا هو المعتبر، أي: ان الفطام هو المعتبر في تأثير الرضاع أو عدم تأثيره، استنادًا إلى هذا الحديث واستنادًا إلى المعنى أيضًا، فالمعنى: أنه إذا كان غذاء الطفل باللبن كان له أثر في نموه بل وفي عقله أيضًا، وغذا كان غذاؤه بغير اللبن لم يكن له ذلك الأثر، وغن كان يؤثر، لكنه لا يكون له ذلك الأثر وغلا فقد كان من المعلوم أن الإنسان لا يكون له أربعون سنة ويشرب لبنا من لبن الأنثى تأثر به وتغذى به، لكن ليس له الغذاء الرئيسي إذا فطم فإذن هذا الرأي استند قائله إلى أمرين أثر ونظر.

وقال بعض العلماء: لا يعتبر الفطام المعتبر الحولان فمتى رضعه قبل تمام الحولين فالرضاع محرم ومتى رضع بعدهما فالرضاع غير محرم سواء فطم قبل الحولين أو لم يفطم بعدهما، القائلون بان العبرة بالحولين استندوا إلى قوله تعالى:{والوالدت يرضعن أولدهن حولين كاملين} ، ولكن ليس في الآية دليل على هذا، إنما بين الله أن من أراد أن يتم الرضاعة أرضعه إلى الحولين ومن لم يتمها هل يأثم أو لا يأثم؟ ينبني على حالة الطفل، إن كان يحتاج أثم إن رأى فطمه وإلا فلا، هذا القول يفضل القول الأول بشيء واحد وهو أنه محدد ليس فيه إشكال والشيء المحدد لا يكون فيه إشكال يرضع الطفل أول النهار ولا يعتبر رضاعه شيئا ويعتبر رضاعه محرمًا ويرضع في آخر النهار ولا يعتبر رضاعه شيئًا؛ لأنه يبلغ حولين عند زوال الشمس، ففي الضحى هو في الحولين رضاعه محرم وبعد الظهر خارج الحولين فرضاعه لا يؤثر شيئا فهو محدد فمن هنا يكون العمل به أيسر على المكلف لكن إذا كان في الفطام يأتي الإشكال هل هذا الطفل فطم أو لم يفطم فتحديده بالزمن أدق، وهذا هو المشهور من المذهب أن المعتبر الحولان وهذا له نظائر منها السفر الذي يقصر فيه هل هو محدد بالمسافة أو محدد بالمعنى؟ فيه خلاف، من العلماء من حدد بالمسافة على اختلاف فيما بينهم هل هي يومان أو فرسخ أو ثلاثة أميال، ومنهم من حده بالمعنى وقال: ما عده الناس سفرًا فهو سفر، وما لا فلا، ومعلوم أن المحدد بالمسافة أدق وأيسر عملًا، لكن يشكل عليه ظواهر النصوص التي لم تحدد والتحديد إلى توفيق ما الذي يدلنا على أن الحد كذا؟

على كل حال: لو ذهب ذاهب فقال: إنه يعتبر أبعدهما بمعنى: انه لو فطم قبل الحولين فالعبرة بالحولين ولو تم الحولان قبل أن يفطم فالعبرة بالفطام؛ يعني: لو قال قائل بهذا القول لم يكن بعيدًا من أجل أن نجمع بين القولين.

ص: 163

ومن فوائد الحديث: حسن بيان الرسول صلى الله عليه وسلم حيث يأتي كلامه واضحًا بينًا وهو أفصح الخلق صلى الله عليه وسلم، والذين يمارسون كلام الرسول صلى الله عليه وسلم كثيرًا يعرفون الحديث الضعيف من غيره بمجرد أن يسمعوا الكلام؛ لأنهم مارسوا لام الرسول وعرفوه، كيف كلماته وكيف أسلوبه الآن لو أن أحدًا أكثر مطالعة كتب شيخ الإسلام ابن تيمية ثم عرض عليه كلام ولم يعلم لمن هو ووجد أن الأسلوب أسلوب الشيخ، عرف أن هذا الكلام كلام الشيخ كذلك كلام النبي صلى الله عليه وسلم، بل أبلغ من هذا ان كلام النبي صلى الله عليه وسلم يؤثر في النفس أكثر مما يؤثر كلام غيره، ويذكر عن شيخ الإسلام رحمه الله أنه بمجرد أن يسمع الكلام المنسوب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يقول هذا لا يصح، او هذا صحيح دون ان يذكر سنده او مخرجه، فإذا رجع إلى الأصول وجد أن الأمر كما قال، وهذا شيء مجرب.

1090 -

وعن ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال: "لا رضاع إلا في الحولين". رواه الدَّارقطنيُّ وابن عديٍّ مرفوعًا وموقوفًا، ورجَّحا الموقوف.

هذا رأي ابن عباس رضي الله عنهما وهو كغيره من اهل العلم له اجتهاده "لا رضاع إلا في الحولين" أي: لا رضاع محرم إلا ما كان في الحولين، هذا الحديث لا حاجة للكلام عليه؛ لأنه سبق الإشارة إليه، لكن بقي لنا المرفوع والموقوف، المرفوع ما نسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم والموقوف إلى الصحابي، والمقطوع إلى التابعي، والمنقطع من مباحث السند والمقطوع من مباحث المتن، بقينا لو تعارض الموقوف والمرفوع فهل نقدم المرفوع أو نقدم الموقوف؟ على كل حال: إذا كان أحد الرواة في هذا أو هذا أرجح اخذنا بالأرجح، لكن إذا تساووا فرواه فلان وهو ثقة مرفوعًا ورواه فلان وهو ثقة موقوفًا فهل نأخذ بالمرفوع؛ لان معه زيادة علم أو نأخذ بالموقوف؛ لان الأصل عدم الرفع؟ نأخذ بالمرفوع؛ لان معه زيادة علم، مثال ذلك: روى أحد الراويين عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كذا، والثاني روى عن ابن عباس أنه قال كذا، الأول فيه زيادة وهي ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: فمعه زيادة علم تؤخذ، مرجح آخر أن الراوي للمرفوع أحيانًا يحدث بالحديث من نفسه لثبوته عنده دون ان ينسبه للرسول مثل أن يحدث به استدلالا لا إخبارًا، يعني: مثلا يقول: إنما الأعمال بالنيات هو يرويه هكذا ثم يقوله في أثناء كلامه يقصد به إثبات الحكم، لأنه ثابت عنده وأحيانا يحدث به إذا أراد الإخبار حدث به إلى منتهى السند فهذا أيضًا مما يؤيد ترجيح الرفع.

ص: 164

1091 -

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا رضاع إلا ما انشز العظم، وأنبت اللَّحم". رواه أبو داود.

هذا الحديث يشبه الحديث الأول: " لا رضاع إلا ما فتق الأمعاء" وكان قبل الفطام، يقول:"لا رضاع إلا ما أنشز العظم"، العظم ينشز بواسطة الأعصاب، والأعصاب حبال تشد بعض العضلات إلى بعض قال الله عز وجل:{قال كم لبثت قال لبثت يومًا أو بعض يومٍ} ، وهو قد بقي مائة سنة قال:{بل لبثت مائة عامٍ فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنَّه وانظر إلى حمارك ولنجعلك اية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثمَّ نكسوها لحمًا} (البقرة: 259). هذه من آيات الله طعامه وشرابه لم يتغيرا، وقد ذكروا أن شرابه ماء وان طعامه العنب، العنب يبقى مائة سنة لا يتغير والماء يبقى مائة سنة ولا يتبخر ولا يتغير، والحمار يموت ويفنى ويبقى عظامه تلوح وكان مقتضى العادة أن الطعام يخرب قبل أن يموت الحمار، لكن هذه من آيات الله قادر على حفظ ما يتغير فلا يتغير، وعلى الثاني يغيره وغن كان تغيير الحمار قد يكون طبيعيًا.

على كل حال قال: {وانظر إلى العظام كيف ننشزها} نداخل بعضها ببعض ونشدها بالعصب، {وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثمَّ نكسوها لحمًا} ، فصار ينظر إلى حماره تقوم العظام بعضها إلى بعض وتنشز بالعصب وتكسى اللحم، يعني: كأن أحدًا أمامه يفعل هذا الشيء بكلمة الله عز وجل {فلمَّا تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قديرٌ} ، وقوله:"وأنبت اللحم" مثل الأول، والمراد أنه يتغذى به الإنسان ويتأثر به نموًا فهذا هو الرضاع، وعليه فيكون هذا الحديث شاهدًا للحديث الأول فيقوى به.

ما الفرق بين الشاهد والمتابع؟ ما جاء من طريق صحابي آخر فهو شاهد. والمتابع أي في شيخهما، وفائدته تقوية المتابع، يروي زيد عن عمرو حديثًا وزيد فيه بعض الشيء فيأتي بكر فيروي عن عمرو، بكر يسمى متابعًا والمتابعة كما عرفنا تامة وناقصة.

1092 -

وعن عقبة بن الحارث: "أنَّه تزوَّج أمَّ يحيى بنت أبي إهاب، فجاءت امرأة فقالت: قد أرضعتكما، فسأل النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: كيف وقد قيل؟ ففارقها عقبة، فنكحت زوجًا غيره" أخرجه البخاريُّ.

قوله: "فجاءت امرأة" نكرة لم تعين، ولا حاجة لنا إلى تعيينها؛ لأنها صحابية، ولا يتعلق تعيينها بالحكم والصحابة كلهم عدول إلا من ثبت أنه ليس بعدل، ولكن من أتى جرمًا من الصحابة فإن الله قد قيد له من السوابق والفضائل ما يقتضي مغفرة ما صدر منه، وإلا فليس معصومين من الإثم

ص: 165

والخطأ قد يخطأون وقد يأثمون وفيهم من سرق، وفيهم من زنى، وفيهم من لاعن امراته، وفيهم من شرب الخمر ليسوا بمعصومين من كبائر الإثم وصغائرها لكن لهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما صدر منهم، وقد قال فيهم:{وكلَّا وعد الله الحسنى} (الحديد: 10).

فلذلك قال العلماء - علماء الحديث -: إن جهالة الصحابي لا تقدح في صحة الحديث؛ فلو قال التابعي عن رجل صحب النبي صلى الله عليه وسلم فهل يلزمنا أن نبحث عن هذا الرجل؟ لا، لأن الأصل فيهم العدالة، "فجاءت امرأة فقالت: لقد أرضعتكما"، هذه الجملة مؤكدة بثلاثة مؤكدات: "اللام، وقد" وهما بارزان، والقسم وهو محذوف، والتقدير: "والله لقد" وهو كثير في اللغة العربية وفي القرآن الكريم، والضمير المفعول به يعود على عقبة وزوجته، يقول: فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "كيف وقد قيل"، سأله يقول هل أمسكها أو أفارقها؟ فقال: "كيف" أي: كيف تمسكها وقد قيل: إن بينكما رضاعا وكيف هنا للاستفهام الإنكاري يعني: ينكر عليه إن يحاول إمساكها، وقد قيل: إنها أخته من الرضاع او ما يفيد ذلك، ففارقها رضي الله عنه ونكحت زوجًا غيره.

هذا الحديث فيه فوائد منها: ان الإنسان إذا تزوج محرمًا له من الرضاع او محرمًا له من النسب، ثم تبين بعد ذلك وجب الفراق لقوله:"كيف وقد قيل"، خفاء أخته من الرضاع لا غرابة فيه لكن خفاء أخته من النسب كيف؟ نعم يمكن أن تضيع في موسم الحج مثلًا ولم تحصل على خير من جهتها ثم كبرت وتزوجها اخوها وبعد هذا ثبت أن هذه أخته من النسب فيجب الفراق؛ لان النكاح تبين بطلانه، أما الأخت من الرضاع فكثير.

ومن فوائد الحديث: أنه لا يشترط السؤال عمن عرفت حاله بعدالة أو فسق، فالمعروف بالعدالة لا تحتاج إذا شهد هات من يزكيك والمعروف بالفسق نرد شهادته بقينا بالمجهول هل يجب على الحاكم أن يسال عنه أو يحكم بشهادته؟ فإن جرحها المحكوم عليه عمل ما يلزم بقول الفقهاء من جهلت عدالته سأل عنه لأن الله قال:{وأشدهوا ذوي عدلٍ} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن شهد شاهدان عدلان فصوموا وأفطروا"، والعدالة شرط لابد من تحققه فمن جهلت عدالته يسأل عنه فتكون أحوال الرواة ثلاثًا من علمت عدالته فلا يسأل عنه ودليله هذا الحديث ومن علم فسقه ردت شهادته ومن جهل يسأل عنه.

ومن فوائد الحديث: قبول شهادة المرأة الواحدة في الرضاع، فإن قال قائل: كيف نقبل شهادة امرأة واحدة في الرضاع، والله يقول في الأموال {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجلٌ وامرأتان} (البقرة: 282). قلنا: لان الرضاع لا يطلع عليه غالبَا إلا النساء.

ص: 166