الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بكرًا فسيردعه، وسيُرجم إذا كان محصنًا فسيردعه، فتعريف الحدود أنها عقوبة مقدرة شرعًا في معصية لتكون كفارة للفاعل ورادعة عن الفعل، هذه هي الحكمة من الحدود.
والحدود إقامتها فرض واجب لقوله تعالى: {والسارق والسارقة فاققطعوا أيديهما} [المائدة: 38]، وهذا أمر، والأصل في الأمر الوجوب، لا سيما وإن القرينة تؤيده، إذ إن قطع عضو من معصوم حرام، والحرام لا ينتهك إلا بواجب، وكذلك {الزانية والزاني فاجلدوا كلَّ واحدة منهما مائة جلدة} [النور: 2]. يدل على وجوب إقامة الحد، وقد صرَّح أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه على منبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه فريضة حيث قال:"وإن الرجم فريضة على من زنى إذا أحصن"، وعلى هذا فإقامة الحدود واجبة على من؛ يعني: من الذي يخاطب؟ يخاطب بذلك ولي الأمر، فإذا ترك حدًّا من الحدود لم يقمه كان تاركًا لواجب، ثم إن الحدود تجب إقامتها على الشريف والوضيع، والغني والفقير، والحر والعبد، والذكر والأنثى، والقريب من ولي الأمر والبعيد، فهي تجب من ولي الأمر، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم أقسم- وهو الصادق البار- بأن فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم لو سرقت لقطع يدها، بدأ المؤلف رحمه الله بحد الزنا فقال:
1 - باب حد الزاني
وذلك لأن الزنا فاحشة وسقوط، وسفول للإنسان وشر مستطير في المجتمع، فكان أولى أن يُبدأ به، والزنا:"فعل الفاحشة في قبل أو دبر" هذا تعريفه، ولكن لا بد أن يكون من يكون من آدمي، فلا يعتبر فعل الفاحشة في البهيمة زنا، ولهذا لا يجب الحد على من أتى البهيمة.
حد الزاني غير المحصن:
1159 -
عن أبي هريرة، وزيد بن خالد الجهنِّي رضي الله عنه:"أنَّ رجلًا من الأعراب أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أنشدك بالله إلا قضيت لي بكتاب الله، فقال الآخر- وهو أفقه منه-: نعم، فاقض بيننا بكتاب الله، وأذن لي، فقال: قل: إن ابني كان عسيفًا على هذا فزنى بامرأته، وإنّي أخبرت أنّ على ابني الرَّجم، فاقتديت منه بمائة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم، فأخبروني: أنَّ ما على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأنَّ على امرأة هذا الرَّجم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، لأقضينَّ بينكما بكتاب الله، والوليدة والغنم ردٌّ عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها". متفق عليه، وهذا اللفظ لمسلم.
الرجل هنا مبهم، ونحن لا يعنينا المبهم، إذ لا يتغير بإبهامه الحكم، فإذا صار ذكره أو
عدم ذكره لا يتغير به الحكم فإن هذا لا يهمنا، الذي يهمنا القضية الواقعة سواء كان الذي وقعت منه فلانًا أم فلانًا، ولهذا قال:"أن رجلًا من الأعراب"، والأعراب اسم جمع للأعرابي وهم سكان البادية، والغالب على الأعراب الجهل لقول الله- تبارك وتعالى {الأعراب أشد كفرًا ونفاقًا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله} [التوبة: 97]، ولكن من الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول، فالغالب عليهم الجهل.
"قال: لكن من الموجّه ومن الموجَّه إليه؟ الموجّه: أعرابي، فالناس عنده سواء، والموجَّه إليه أحلم الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، وإلا فهي كلمة عظيمة "أنشدك الله" يعني: أذكرك الله عز وجل وأعاهدك به أن تقضي بيننا بكتاب الله، وهذا لا يحتاج إليه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه إذا قضى سوف يقضي بكتاب الله ولا بد، قال العلماء: إن قوله: "إذا قضيت" فيها إشكال، من جهة أنها وردت على جملة مثبتة فقالوا: إن "أنشدك" على تقدير "ما" أي: ما أنشدك إلا القضاء بكتاب الله، وعلى هذا فتكون إلا حرف استثناء مفرغ وليست مثبتة؛ لأنه "أنشدك" على تقدير: ما أنشدك إلا كذا.
"إلا قضيت لي بكتاب الله تعالى" يعني: إلا حكمت، القضاء هنا بمعنى الحكم، وقوله:"بكتاب الله" أي: بمقتضى كتاب الله، سواء كان من عند الرسول صلى الله عليه وسلم أو من القرآن، "فقال الآخر- وهو أفقه منه-: نعم، فأقضِ بيننا بكتاب الله"، قوله: "الآخر وهو أفقه" جملة معترضة تبين حالة الرجل الثاني وهو أنه أفقه من الأول، ولكن من أين علم الراوي أنه أفقه؟ يحتمل أنه علم ذلك بأنه لم يقل كما قال الأعرابي "أنشدك الله"، أو أنه يعلم من حالة أنه أفقه لكونه مدنيًّا حضريًّا من أهل الإقامة والمدينة، والغالب أن هؤلاء أفقه من الأعراب، المهم أنه تبين للراوي أنه أفقه من الأول، قال: "نعم" هنا حرف جواب، ولكنها ليست حرف جواب في الواقع، ولكنها لتحقيق ما سبق، ويستعملها العلماء في كتبهم، ولا سيما العلماء الذين يكتبون كتابة مستقلة، يقول: نعم لو كان كذا وكذا فهي حرف لتصديق ما سبق هنا، وإلا فالأصل أنها جواب لاستفهام.
"فاقض بيننا بكتاب الله""اقض" الأمر ليس للوجوب طبعًا؛ لأنه ليس في مرتبة تؤهله أن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الوجوب، ولكن نقول: إنها من باب الالتماس والترجي وما أشبه ذلك.
"وأذن لي" يعني: أرخص لي أن اتكلم، وهذا من أدبه أنه استأذن النبي صلى الله عليه وسلم أن يتكلم، والأعرابي لم يستأذن فقال "قل"، يعني: قل ما شئت، وهذا إذن، قال:"إن ابني كان عسيفًا على هذا فزنى بامرأته"، "على هذا" يعني: الأعرابي، و"عسيفًا" بمعنى: أجبرا، فهو كأجير لفظًا ومعنى، وإن شئت فقل: كأجير وزنًا ومعنى، فمعنى عسيفًا أي: أجيرًا عليه، يعني: قد استأجره لرعي إبله أو غنمه أو ما أشبه ذلك، "فزنى بامرأته" الزاني العسيف الابن، ويظهر أن هذا شاب.
وإن أخبرت أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة ووليدة"، "أُخبرت" أخبره بلا شك رجل جاهل جهلًا مركبًا؛ لأنه أخبره بما ليس هو الحق، ويقول العلماء: الجاهل المركب هو الذي لا يعلم ولا يدري أنه لا يعلم، ولهذا ركب جهله من كونه لا يعلم الواقع ولا يعلم بحاله أنه لا يعلم فهو في الحقيقة مركب من جهلين، والبسيط هو الذي لا يعلم ويعلم أنه لا يعلم مثال ذلك: ثلاثة رجال سألنا أحدهم فقلنا له: متى كانت غزوة الخندق؟ فقال: في رمضان في السنة الثامنة من الهجرة هذا جاهل مركب؛ لأن غزوة الخندق في شوال في السنة الخامسة، وسألنا الآخر فقال: لا أدري هذا جاهل بسيط، وسألنا الثالث قال: في شوال سنة خمس من الهجرة هذا عالم، فالذين أخبروه بأن على ابنه الرجم هؤلاء جهال جهلًا مركبًا، "فافتديت منه" يعني: أعطيت فداء عن ابني، "بمائة شاة ووليدة"، المائة شاة معروفة وهي الواحد من الضأن أو أعم من ذلك أو الأنثى من الضأن، "ووليدة" هي الأمة.
"فسألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام"ـ أهل العلم أخبروه بالحق أنه لا يجب الرجم على ابنه وإنما الجلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم، كان بالأول الأعرابي أتاه مائة شاة ووليدة وامرأته سالمة من فتوى الجهال، لكن الآن صار الرجم على امرأة الأعرابي وهذا ليس عليه إلا جلد مائة وتغريب عام بماذا؟ قال العلماء: يجلد بسوط بسوط لا جديد ولا خلق، يقولون: لأن الجديد صلب يؤثر عليه وربما يجرح جلده، ولا خلق يتفتت لأنه قديم ولا يكون على ما ينبغي إيجاع هذا الزاني، "وتغريب عام"، يعني: إخراجه من البلد حتى يكون غريبًا لمدة سنة، وقوله:"وأن على امرأة هذا الرجم"، الرجم: هو أن يضرب الزاني بالحصى الصغار التي ليست كبيرة جدًّا ولا صغيرة حتى يموت.
فقال رسول الله: "والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله"، أقسم صلى الله عليه وسلم بالذي نفسه بيده وهو الله، وإنما أقسم من أجل أن يطمئن كلا الخصمين، لا سيما الأول وهو الأعرابي، الإقسام هنا في محله لدعاء الحاجة إليه والمصلحة من وجوده، وقوله:"والذي نفسي بيده" أي: أن نفس الرسول بيد الله إن شاء أرسلها وإن شاء قبضها، وكل إنسان نفسه بيد الله إن شاء أرسلها وإن شاء قبضها، قال الله- تبارك وتعالى:{الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى} [الزمر: 42]، مناسبة القسم بهذا دون أن يقول: والله ليشعر المخاطب بأن هذا أقسم، أقسم وهو يعلم أن وراءه الموت، ومعلوم أن الإنسان الذي يقسم وهو يعلم أن وراءه الموت سيكون إقسامه عن حق؛ لأنه يخشى من بيده أن يهلكه عاجلًا غير آجل، "لأقضين بينكما بكتاب الله" جملة "لأقضين" هي جواب
القسم، وهي كما تشاهدون مؤكدة بالنون واللام، وعلى هذا فالجملة هنا مؤكدة بثلاثة مؤكدات: القسم واللام، والنون.
"الوليدة والغنم رد عليك"، "الوليدة" يعني: الأمة، و"الغنم": المائة شاة، "رد عليك"، و"رد" هي خبر المبتدأ، وهي بمعنى: مردود كقوله صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد"، المعنى: أن الوليدة والغنم ترد عليك، وقوله:"الغنم والوليدة رد عليك" بعد أن قال: "لأقضين بينكما بكتاب الله".
إذا قال قائل: أين ذلك في كتاب الله؟
نقول: هي موجودة في كتاب الله: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} [البقرة: 188]، وهذا باطل لأنه أخذ بغير حق، وكل ما أُخذ بغير حق فهو باطل، لقوله تعالى:{فماذا بعد الحق إلا الضلال} [يونس: 32]. وعلى هذا فرد الغنم والوليدة على هذا الرجل موجود في كتاب الله، وإن لم يكن موجودًا بعينه، ولكن بالقاعدة العريضة وهي الأساس وهي تحريم أكل مال الغير بالباطل.
قال: "وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام" لأنه ابنه بكر لم يكن قد تزوج، والبكر جلده جلد مائة وتغريب عام، و"واغد يا أنيس" أي: اذهب غدوة في أول النهار، وقد يراد بالغدو مجرد الذهاب، أي: اذهب ولو في المساء، "يا أنيس" اسم رجل من الصحابة اختاره النبي صلى الله عليه وسلم أن يذهب وهي- كما رأيتم- قضية عين لا ندري لماذا اختار النبي صلى الله عليه وسلم هذا الرجل، لكنه اختاره لسبب اقتضى أن يكون هذا الرجل هو الذي يذهب، "إلى امرأة هذا" أي: الأعرابي، وامرأته، أي: زوجته "فإن اعترفت" أي: أقرت، "فارجمها".
في هذا الحديث فوائد كثيرة؛ منها: جفاء الأعراب وغلظة الأعراب وجهل الأعراب لقول الأعرابي: "أنشدك الله إلا قضيت".
ومنها أيضًا: سعة حلم الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث لم يؤاخذ هذا الأعرابي بهذه الكلمة الغليظة التي لا ينبغي أن توجه لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومنها: الحكم بالقرائن لقول الراوي "وهو أفقه منه".
ومنها: حسن الأدب مع الكبير لقول الرجل: "وأذن لي"، فلا نبغي للإنسان أن يتكلم أمام الكبير إلا بإذنه اللفظي أو العرفي أو الحالي، اللفظي أن يقول: تكلم، العرفي أن يكون جرى به العرب الحالي أن يعلم من حال الرجل أنه لا يهمه أن يتكلم الناس في مجلسه ولو كان أصغر منه، والناس في هذا المقام يختلفون، فمن الناس الكبراء من يكره أن يتكلم أحد في مجلسه إلا بإذنه، وإذا تكلم أحدٌ في مجلسه يسند الكلام إلى غيره تجده يتمعر وجهه، وهذا ليس بطيب، اللهم إلا إذا كان هذا الرجل يتحدث بأمر ديني علمي شرعي فهو له الحق أن ينكر على هؤلاء الذين يتكلمون، لا سيما إذا كان الكلام بطلب من الجميع.
ومن فوائد الحديث: خطر الإجراء والخدم على الأهل؛ لأن هذا الأجير خادم، وفي عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد الصحابة ومع ذلك لم تسلم امرأة من استأجره من عدوان هذا الأجير عليها، وقد يكون بغير عدوان كأن يكون زوجها تمادت به السن وهذا رجل شاب وأعجبها وطلبته لنفسها لا ندري، ولهذا قالت امرأة العزيز لما أخذت يوسف إلى النساء:{فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم} [يوسف]، فصحرت بما لا تملك أن تسكت عليه، فالنساء كالرجال كما أن الرجل يرغب في المرأة الجميلة، كذلك ترغب المرأة في الرجل الجميل وربما لا تملك نفسها إذا رأت الجميل أن تدعوه إليها إذا لم يكن إيمانها قويًّا.
المهم: نأخذ من هذا الحديث: خطر الخدم، إذا كان هذا الخطر وقع في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعهد الصحابة فما بالك بعهدنا! !
ومن فوائد الحديث: التصريح بما يستقبح ذكره لدعاء الحاجة لذلك لقوله: "فزنى بامرأتي"، وكان يكفيه أن يقول: فأتى امرأته أو وقع على امرأته أو وقع على امرأته لكنه صرّح؛ لأن المقام يقتضي ذلك.
ومن فوائد الحديث: ضرر الفتيا بلا علم؛ لأنها غيرت الحكم الشرعي فأبرأت المرأة من الحد وجعلت الحد على الأجير رجمًا وليس كذلك، فالفتيا بلا علم خطرها عظيم، ولهذا حرمها الله عز وجل وقرنها بالشرك به فقال تعالى:{إنّما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم يُنزل به سلطانًا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} [الأعراف: 33].
ومن فوائد الحديث: فضل أهل العلم وأنهم في الأرض نور وهدى لقوله: "فسألت أهل العلم فأخبروني بكذا وكذا".
ومن فوائده: جواز فتيا المفضول مع وجود الفاضل؛ لأن الرجل استفتى أهل العلم وأفتوه مع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حاضرًا موجودًا، لكن يحتمل أن هذا الأعرابي خارج المدينة وأنه استفتى أهل العلم الذين عنده، وإذا كان الأمر كذلك تبطل هذه الفائدة، والقاعدة عند العلماء أنه إذا تطرق الاحتمال إلى الدليل سقط الاستدلال به، ولكن يقال: هذه المسألة- وهي إفتاء المفضول مع وجود الفاضل- واقعة في عهد الصحابة- رضي الله عنهم فما زالوا يفتون في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وبعد عهده مع وجود من هو أفضل منهم، لكن الكلام على أن الفتوى تكون بعلم.
ومن فوائد الحديث: حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم وتعليمه وقضائه، وأنه يسلك أقرب الطرق إلى إقناع المخاطب، لقوله:"والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله".
ومن فوائد الحديث: جواز الإقسام وإن لم يستقسم إذا دعت الحاجة أو اقتضت المصلحة ذلك لحلف النبي صلى الله عليه وسلم دون أن يُستحلف؛ لأن المقام يقتضي ذلك حتى يقتنع الجميع.
ومن فوائد الحديث": جواز القسم بهذه الصيغة: "والذي نفسي بيده".
ومن فوائد الحديث: الإشارة إلى الحكمة في القسم بهذه الصيغة، وهو أن الإنسان يتذكر أنه سيموت وأن نفسه بيد الله.
ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي الإقسام ويشرع من أجل طمانينة المخاطب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقسم ليطمئن المخاطب، فإن المخاطب قال: "أنشدك الله
…
إلخ"، فكان من المشروع أن يقسم له من أجل أن يطمئن، وعلماء البلاغة يقولون: المخاطب له ثلاث حالات: متشكك، أو خالي الذهن، أو منكر، فإن كان خالي الذهن فإنه لا يحسن أن تؤكد الكلام له بقسم؛ لأن خالي الذهن سوف يصدق إلا إذا كان المخبر به أمرًا مهمًّا يحتاج إلى تثبيت فلا بأس.
والثاني: المتردد يحسن أن تقسم له أو أن تؤكد الكلام بأي مؤكد آخر من أجل زوال التردد الذي في نفسه.
والثالث: منكر يجب أن يؤكد له حتى يزول إنكاره، في هذا الحديث من أي الأقسام الثلاثة المخاطب؟ الثاني.
ومن فوائد الحديث: أن ما جاءت به السنة فهو من كتاب الله لقوله: "لأقضين بينكما بكتاب الله"، ثم قضى بما لم نجده بعينه في القرآن، وإن كان القرآن يتضمن على سبيل العموم ما حكم به الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومن فوائد الحديث: أن من قبض مالًا بغير حق وجب رده على صاحبه، لقوله:"الوليدة والغنم رد عليك" هذا خبر بمعنى: الإلزام، أي: مردود عليك، فكل من قبض مالًا بغير حق وجب رده إلى صاحبه.
فإن قيل: فمن أين نعلم أنه بحق أو لا؟
قلنا: بعرضه على الكتاب والسنة، فإذا كان الكتاب والسنة يجيزان له ذلك فهو بحق وإلا فلا.
ويرد على هذا سؤال أيضًا وهو إذا لم يعلم صاحبه فماذا يصنع؟ نقول: إذا لم يعلم صاحبه ولا ورثته فإنه يتصدق به عمن هو له، ولا نقول: عن صاحبه، بل نقول: عمن هو له، لأنه من الجائز أن يكون صاحبه قد مات وانتقل إلى ورثته، فنقول: عمن هو له.
ويرد على هذا سؤال آخر: هل إذا تصدق به عن صاحبه يبقى حق صاحبه في الآخرة لقاء ما حال بينه وبين ملكه؟ وهل إذا دفعه إلى الورثة أيضًا حق المورث؟ الذي يظهر من عمومات الأدلة في أن من تاب، تاب الله عليه يسقط حق صاحبه المال ولو حال بينه وبينه هذه المدة ويتحمل الله سبحانه عن صاحب المال ما يكون مقابل ظلمه في هذه المسألة، ويرد على هذا إذا أخذه بغير حق شرعي، ولكن صاحبه قد أخذ مقابله، مثل مهر البغي وحلوان الكاهن وثمن الكلب فهل يرده لصاحبه الذي أخذه منه كامرأة زنى بها رجل بأجرة، ولما فرغ
من الفعل قال: إن مهر البغي خبيث وليس لك عليَّ شيء، فهل نلزمه أن يدفع ذلك إلى المرأة التي زنى بها أم ماذا؟ نقول: لا يمكن أن يرده إلى المرأة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"مهر البغي خبيث"، هل نقول: يبقيه له؟ إن قلنا بذلك فهو مشكل؛ لأننا في هذه الحال جمعنا له بين العوض والمعوَّض؛ لأنه نال شهوته بالزنا، ثم نقول: أبق المال الذي اتفقت أنت والزانية عليه فيكون هذا مشكلًا، فنكون جميعًا له بين العوض والمعوَّض، ثم ربما يكون في ذلك تشجيع للزناة أن يفعلوا هذا مع البغايا ثم يقولون: نحن لا نعطيكن تلك الأجرة لأنها خبيثة، فما هو الجواب: أن نأخذ منه هذه الأجرة التي اتفق هو والبغي عليها ونجعلها في بيت المال، وهذا أصح الأقوال وأعدلها.
فإن قال قائل: يكون في هذا تضييع حق المرأة؟
فالجواب: أن المرأة ليس لها حق في هذا؛ لأن هذا عوض عن فعل محرم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الله إذا حرم شيئًا حرم ثمنه".
ومن فوائد الحديث: أن الزاني إذا لم يكن متزوجًا فحده جلد مائة وتغريب عام، وسبق لنا صفة الجلد بأن يكون بسوط لا جديد ولا خَلق، وأنه يتقى في ذلك الرأس والفرج والمقاتل، لأن المقصود تعذيبه لا إهلاكه.
ومن فوائد الحديث: أن الحكم عام في الأحرار والعبيد، ويؤيد ذلك عموم قوله تعالى:{الزانية والزاني فاجلدوا كلّ واحد منهما مائة جلدة} [النور: 2]، لكن يخص الإماء من هذا العموم لقوله تعالى:{فإذا أحصنّ فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} [النساء]، أي: أن الإمام يجلدن خمسين جلدة، أما التغريب فقيل: يغرب الزاني المملوك، وقيل: لا يغرب، فمن قال: يغرب أخذ بالعموم، ومن قال: لا يغرب قال: لأن في ذلك تفويتًا لحق سيده فتلحق الجناية غيرها، ولكن الصحيح أن يغرب، وكون ذلك تفويتًا على سيده نظيره ما لو جنى هذا العبد أحد بما يوجب قصاصًا أو مالًا، فهل يؤخذ من سيده؟ نعم يؤخذ إذا كان قصاصًا قتل العبد، وإذا جنى جناية توجب المال قلنا للسيد: إما أن تدفع الجناية وإما أن تدفع العبد عوضًا عنها وإما أن يباع العبد ويؤخذ ثمنه ويجعل في الجناية.
بقي النظر: هل نقيس العبد على الأمة في تنصيف العذاب؟ أما الذين يمنعون القياس كالظاهرية فيقولون: لا قياس، وأما الذين يثبتون القياس فإنهم يقيسون العبد على الأمة ويقولون: إنه يتنصف على العبد، ولكن قد يعارض معارض في هذا القياس، ووجه المعارضة: أن من شرط القياس مساواة الفرع للأصل في العلة، والفرع هنا لا يساوي الأصل، وذلك لأن الإماء نساء مغلوبات على أمرهنّ، فربما يخدعن وربما يهددن، وبما يكرهن أسيادهن مع أن مع الإكراه ليس هناك حدٌّ بخلاف الرجل وحينئذٍ يمتنع القياس، فيقال: إذا زنى العبد يجلد على منع القياس مائة ويغرب عامًا، وإذا زنت الأمة فإنها ينص القرآن تجلد خمسين جلدة.
ومن فوائد الحديث: جواز التوكيل في إثبات الحدود وفي إقامة الحدود لقوله: "واغد يا أنيس إلى امرأة فإن اعترفت فارجمها"، "وإن اعترفت" هذا إثبات الحد، "فأرجمها" هذا إقامة الحد.
ومن فوائد الحديث: أنه لا بد من تعيين الوكيل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: ليغد أحدكم إلى امرأة هذا، بل قال:"اغد يا أنيس"، فلا بد من تعيين الوكيل في مثل هذه الأمور الخطيرة.
ومن فوائد الحديث: أنه لا تقبل دعوى الغير على الغير أو لا يقبل إقرار الغير على الغير، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل قول الرجل فزنى بامرأتي، بل قال:"اغد يا أنيس فإن اعترفت فارجمها".
ومن فوائده: أن القذف في مقام المحاكمة قبل ثبوت البراءة ليس فيه حد، يؤخذ من أن الرجل قال:"فزنى بامرأتي"، ولم يقم عليه النبي صلى الله عليه وسلم الحد.
فائدة في حكم استراط التكرار في الإقرار لثبوت الزنا:
ومن فوائد الحديث: أنه لا يشترط في الإقرار بالزنا تكرار الإقرار، وأنه إذا أقر مرة واحدة ثبت الفعل؛ لقوله:"فاعترفت"، والفعل يدل على الإطلاق فهو غير مقيد بعدد، ولو كان العدد واجبًا لبينة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرجل لم يعد إلى الرسول إلا وقد نفّذ الحد، وهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء، فمنهم من ذهب إلى هذا الحديث وقال: لا يشترط تكرار الإقرار، ومنهم من قال: إنه يشترطن وحمل هذا المطلق على المقيد، وذلك في حديث ماعز بن مالك الأسلمي رضي الله عنه حين جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأقر أنه زنى فأعرض عنه إلى الوجه الثاني، فجاء من الوجه الثاني، وقال: إنه زني فأعرض عنه حتى شهد على نفسه أربع مرات، وحينئذٍ استثبت النبي صلى الله عليه وسلم من الرجل قال:"أبك جنون" قال: لا، فأرسل إلى أهله وذرية هل الرجل غير عاقل؟ وفي بعض الروايات أنه أمر شخصًا يستنكهه، يعني: يشمه لعله سكران من الخمر، كل هذا لم يكن مجنونًا ولا سكران بل هو عاقل، لكن لماذا لم يقم النبي صلى الله عليه وسلم الحد إلا بعد التكرار؟ أما على القول بأنه شرط فالأمر ظاهر؛ لأنه لا يتم الحكم إلا بالتكرار، وأما على القول الثاني فأجابوا عن الحديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد تردد في صحة إقرار هذا الرجل بدليل أنه سأله أبك جنون؟ ثم سأله كيف زني، حتى قال له:
"أنكتها" قال: "نعم"، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت عنده الأمر وتردد فيه، والقول الصحيح أنه لا يشترط في الإقرار التكرار، لأن الله تعالى سمى الإقرار شهادة، والشهادة لا يشترط فيها التكرار، قال الله تعالى:{يأيها الذين امنوا كونوا قومين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم} [النساء: 135].
والشهادة على النفس هي الإقرار، فكما أن الشاهد لا يؤمر بتكرار شهادته فكذلك المقر لا يشترط لصحة إقراره تكرار إقراره، نعم إذا صار عند القاضي تردد في حال هذا الرجل أو تردد في علم هذا الرجل بما يسمى زنا فحينئذٍ نكرر عليه.
ومن فوائد الحديث: وجوب الرجم على من زنى إذا كان قد تزوج فإنه يجب رجمه لقوله "فإن اعترفت فارجمها" والرجم هو أن يرمي بالحجارة المتوسطة التي ليست صغيرة فيتأذى بها حتى يموت ولا كبيرة فيموت سريعًا بل حجارة متوسطة، يعني: مثل البيضة أو أقل هكذا الرجم.
ومن فوائد الحديث: أنه لا يجمع بين الجلد والرجم، وهذا هو آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يجمع بين الجلد والرجم، بل إذا كان الرجم اقتصرنا عليه: وهذا مقتضى النظر؛ لأنه ما دام سوف يقتله لم نستفد من جلده إلا مجرد التعذيب فلا فائدة، الجلد من أجل ردعه، والآن سوف يقتل فلا فائدة من الجلد بل الرجم.
فإن قال قائل: هل ثبت الرجم في القرآن؟
قلنا: نعم، وسيأتي في حديث عمر بن الخطاب
في هذا الحديث إشكال أولًا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل قول الرجل على ابنه ولم يقبل قوله على امرأة الرجل، فما الجواب؟ الجواب: إما أن يكون الابن حاضرًا فيكون عدم إنكاره على أبيه بمنزلة الإقرار، وإما أن يكون هذا على سبيل الاستفتاء، والاستفتاء لا يشترط فيه إقرار المدعي عليه ولهذا حكم النبي صلى الله عليه وسلم لهند بنت عتبة على زوجها أبي سفيان حين قالت: إنه شحيح لا يعطيني ما يكفيني، فقال:"خذي من ماله ما يكفيك ويكفي بنيك" ولكن هذا الجواب ضعيف؛ لأن الحديث صريح في أن المسألة من باب القضاء لا من باب الاستفتاء، لكن يقال: إما أن يكون الابن حاضرًا، وإما أن نجعل إقرار الأب على ابنه بمنزلة إقرار الابن، لأنه من المستحيل أن يقول الرجل: إن ابني زني وهو لم يزن بخلاف دعواه على المرأة.
الإشكال الثاني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "على ابنك مائة جلد مائة وتغريب عام" فهل التغريب مفيد لهذا الزاني؟ نعم فيه فائدة منها أنه يبتعد عن محل الفاحشة لئلا تحدثه نفسه بالعودة إليها، ومنها: أن الغريب يكون منشغل البال غير مطمئن، وهذه الحال تجعل نفسه تهدأ ويزول عنها ما فيها من الأشر والبطر وحب النكاح فترجع وتهدأ فكان في التغريب فائدة، ولكن إذا كانت امرأة هل تغرب؟ نقول: تغرب بشرط أن يوجد معها محرم يصاحبها حتى تعود إلى