الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
125]. والشهادة على النفس صغير إقرار والشهادة على الغير للغير شهادة والشهادة للنفس على الغير دعوى هذه ثلاثة أشياء.
ومن فوائد الحديث: أنه لا يقتص من أحد عن أحد حتى الابن لا يتقص منه عن أبيه ولا الأب عن ابنه فلو أن الأب جنى على شخص وقطع يده عمدًا فإنها تقطع يده إذا تمت الشروط، فإذا قال: ابنه هذا أبي اقطعوا يدي بدله هل يمكن من ذلك؟ لا، لأن الأب لا يجني على الابن وكذلك بالعكس، لو أن الابن قطع يد شخص عمدًا وتمت شروط القصاص وأردنا أن نقتص منه فقال أبوه اقتصوا مني لأن ابني شاب وأنا شيخ كبير، فإنه لا يمكن ولقوله:"لا جني عليك ولا تجني عليه" هذا معنى الحديث.
* * * *
2 - باب دعوى الدم والقسامة
"القسامة" مأخوذة من القسم وهو الحلف وصورة القسامة أن يقتل قتيل لا يعلم قاتله فيدعي أولياؤه أن فلانًا قتله، فإذا طبقنا هذه الصورة على القاعدة الشرعية قلنا: لا ادعي رجال دماء قوم وأموالهم، ولكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر، فنقول للمدعي: ائت ببينة على أن فلانًا قتل قتيلكم وإلا فلا شيء لكم، يحلف المدعى عليه بأنه لم يقتل لكن إذا كان هناك قرينة تدل على صدق الدعوى وأن القاتل فلان فحينئذ يأتي دور القسامة، ولكن ما هذه القرينة التي تثبت فيها القسامة؟ القرينة التي تثبت فيها القسامة عند شيخ الإسلام ابن تيمية كل ما يُغلب على الظن صدق المدعي منها العداوة الظاهرة بين القبائل ومنها أن تجد شخصًا معه سكين أو سيف يقطر دمًا والقتيل بين يديه فهذه قرينة ظاهرة والقرائن كثيرة المهم القاعدة كل ما يغلب على الظن صدق الدعوى فهو قرينة أما المذهب فالقرينة خاصة بالعداوة الظاهرة التي تكون بين القبائل وإنما خصوها بهذا لأن الأصل في القاعدة الشرعية أن المدَّعي عليه البينة وأنها لا تقبل دعواه ولنفرضها فيما ذكره الفقهاء رحمهم الله في العداوة الظاهرة، وُجد قتيل عند قرية بين أهلها وبين قبيلة القتيل عداوة ظاهرة مناوشات دائمة حينئذٍ تُجري القسامة ونقول لأهل القتيل عينوا القاتل فإذا عينوه قلنا: هذا القاتل عندكم بينة قالوا ما عندنا بينة نقول
احلفوا خمسين يمينًا أن هذا هو الذي قتل صاحبكم وتوزع الأيمان على وارث الدم، يعني: على وارث المقتول فإذا كانوا خمسة كان على كل واحد عشرة وإذا كانوا ثلاثة كان على كل واحد ستة عشر ويجبر الكسر فتكون على كل واحد سبعة عشر فنقول احلفوا خمسين يمينًا على أن هذا قاتل صاحبكم فإذا حلفوا قلنا: خذوه اقتلوه فيقتلونه وفي هذه الحال تكون هذه القسامة خارجة عن قاعدة الدعاوي من وجوه ثلاثة الوجه الأول: أن اليمين صار في جانب المدعي والأصل أنها في جانب المدعى عليه.
ثانيًا: أن الأيمان كُررت والأصل أن الأيمان لا تكرر.
ثالثًا: كيف يحلف هؤلاء على شيء لم يروه ولهذا سيأتينا في الحديث أن الصحابة امتنعوا أن يحلفوا وقالوا كيف نحلف لم نرى فهذه ثلاثة أوجه خالفت فيها القسامة القواعد المعروفة في الدعاوى فما هو الجواب؟ نقول الجواب عن الأول وهو أنه كيف كانت الأيمان في جانب المدعي والأصل أنها في جانب المدعى عليه؟ نقول الأيمان ليست في جانب المدعي دائمًا الأيمان في جانب أقوي المتداعيين سواء كان المدعي أو المدعى عليه ولذلك لو ادعى شخص بشيء وأقام شاهدًا قلنا له: احلف مع الشاهد وخلده.
وقول المؤلف: دعوى الجم؛ يعني: أن يدعي الإنسان على شخص انه قتل صاحبه والقسامة مأخوذة من القسم وهو الحلف وهي عند الفقهاء أيمان مكررة في دعوى قتل معصوم وتكون في جانب المدعي وفي جانب المدعى عيه والقسامة كانت معروفة في الجاهلية يحكم بها الناس، فأقرها الإسلام على ما كانت عليه؛ لأن الإسلام لا يرد كل ما كان عليه المشركون، ولا يرد كل ما جاء به الكافرون، بل الإسلام دين العدل ودين الحق، فمتى كان الشيء حقًا وعدلاً فإنه عند الإسلام مقبول بقطع النظر عن قائله، وما كان باطلاً فهو مرفوض، بقطع النظر عن قائله؛ لأن الله يقول:(هو الذى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق).
تعريف القسامة:
والقسامة، مثل: أن يأتي شخص ويقول: أنت الذي قتلت أخي! فيقول الآخر: ما قتلته، القاعدة أن نقول للمدَّعي: هات بينة، فإن كان عنده بينة فالبينة قائمة مقام الأيمان وإذا لم يكن عنده بينة نقول احلف فإذا حلف أن فلانًا قتل صاحبه عمدًا، قلنا: خذه برمته، يعني: بحبله فاقتله
ولكن لها شروط من أعظمها اللوث، واللوث مختلف في معناه عند الفقهاء، فمن الفقهاء من يقول: إن اللوث هو العداوة الظاهرة كالعداوات التي تكون بين القبائل دون العداوة الباطنة التي تكون بين شخص وآخر، لأن العداوة الظاهرة قرينة مرجحة لدعوى المدعي وهي ظاهرة، لكن العداوة الشخصية خفية ليست ظاهرة فلهذا نقول في تفسير اللوث إنه العداوة الظاهرة ومثالها ما يكون بين القبائل وقال بعض العلماء اللوث كل ما يكون مغلبًا للظن في صدق دعوى المدعي سواء كان عداوة ظاهرة أو كان هذا الذي ادعى عليه القتل بيده سكين متلطخة دمًا وإلى جنبه رجل يتشحط في دمه أو رؤي هاربًا ثم وجدنا خلفه قتيلاً أو سبق أن توعده وتهدده فالمهم أن كل شيء يوجب غلبة الظن في صدق دعوى المدعي سواء كان عداوة ظاهرة أو كان هذا الذي ادعى عليه القتل بيده سكين متلخطة دمًا وإلى جنبه رجل يتشحط في دمه أو رؤي هاربًا ثم وجدنا خلفه قتيلاً أو سبق أن توعده وتهدد فالمهم أن كل شيء يوجب غلبة الظن في صدق المدعي فهو لّوث وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وهو الحق وما وقع بين اليهود والأنصار فهو قضية عين تعتبر مثالاً على ما يبرر القسامة، وكنا قد ذكرنا أن القسامة مخالفة للدعاوي من ثلاثة أوجه:
الأول: أن اليمين في الدعاوي في جانب المدعى عليه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "واليمين على المدعى عليه"، أو قال:"على من أنكر"، وهنا كانت اليمين في جانب المدعي فيقال اليمين المرجحة وتكون في الجانب للراجح وإذا كانت الدعوى مجردة فمن المعلوم أن الراجح هو جانب المدعى عليه لأن الأصل براءته مما ادعى عليه فإذا قال زيد: أنا أطالب عمرًا مائة درهم فما هو الأصل؟ الأصل مع المدعى عليه لأن الأصل عدم ثبوت هذا الشيء، ولهذا صارت اليمين في جانب المدعى عليه لأن جانبه أقوى ويدل على أن اليمين في جانب أقوى المتداعيين وليست في جانب المدعي فقط ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قضى بالشاهد واليمين ومعنى الشاهد واليمين لو أن شخصًا ادعى على آخر شيئًا وأقام رجلاً واحدًا يسهد بما ادعى به فهنا نحكم له بما ادعى به إذا حلف مع شاهده فيجدون الآن أن اليمين في جانب المدعي لأنه قوي جانبه بالشاهد الذي معه لكن لما كان الشاهد ناقصًا عن النصاب احتيج إلى توكيده بيمين المدعى كذلك أيضًا قال الفقهاء لو أن رجلاً فارق زوجته وادعت أن هذا المتاع في البيت لها وادعى الرجل أنه له فهل نصدق المرأة أو نصدق الزوج؟
قالوا: إذا كان هذا المتاع مما يصلح النساء فالقول قول المرأة، لكن مع يمينها وإذا كان لا يصلح إلا للرجل فالقول قول الرجل فهما عملنا بالظاهر مع اليمين وجعلنا اليمين في جانب المدعي إذا كان الظاهر معه فتبين أن اليمين في القسامة لم تخرج عن قاعدة الدعاوي في هذه المسألة أي يكون الأيمان في جانب المدعي؛ لأن جانب المدعي قوي بوجود اللوث المغلب
للظن في صدق هذا المدعي، وأما كونها تكرر فإن تكرارها موافق للحكمة أيضًا لأن شأن الدماء عظيم والقسامة إذا ثبتت فيها الدعوى سوف يقتل المدعى عليه تقتل النفس وتنتقل من العصمة إلى الهدر فالأمر عظيم، ولهذا أوجب النبي صلى الله عليه وسلم أن يحلف المدعي خمسين يمينًا فإن لكل لم تقبل دعواه وأما كونهم يحلفون على شيء لم يروه فإن الحلف على غلبة الظن جائز شرعًا لا على مجرد هوى، ولهذا نجد الصحابة رضي الله عنهم كما سيأتي في الحديث، "أبوا أن يحلفوا لورعهم"، لكن إذا كان إنسان عنده من القرائن ما يغلب على ظنه أن الأمر حصل فله حلف بناء على غلبة الظن.
فإذا قال قائل: هل لديكم دليل يدل على جواز اليمين على غلبة الظن؟
قلنا: نعم، قصة الرجل المجامع في رمضان ثم جاء يستفتي النبي صلى الله عليه وسلم وأفتاه بأن يعتق رقبة فقال لا أجد قال فصم شهرين متتابعين قال لا أستطيع قال أطعم ستين مسكيناً قال لا أجد ثم جيء بتمر فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم الرجل وقال تصدق به فقال أعلى أفقر مني والله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر مني، أقسم فقال "والله" ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم مع احتمال أن يوجد بيت أفقر منه حتى لو فرض أن الرجل ليس عنده أي طعام يوجد أفقر منه يكون عليه دين مثلاً، يعني: لو قال قائل: بأن هذا الرجل حلف على أمر معلوم بأنه ليس عنده شيء فلا أحد أفقر منه قلنا: بل ربما تكون أحد أفقر منه يكون ما عنده شيء أيضًا عليه دين فيكون أفقر منه فالحاصل أن هذا يدل على أنه يجوز الحلف على غلبة الظن؛ ولهذا لو قال قائل: والله ليقدمن زيد غدًا ثم لم يقدم هل عليه كفارة؟ بناء على ظنه ليس عليه شيء إذا لم يقدر وإن كان المشهور من المذهب أن عليه كفارة لكن لا كفارة عليه لأنه حلف على شيء يعتقده، لكن لو قال والله ليقدمن بناء على أن أمر زيد بيده سيحظله ولم يحظله فعليه لأنه حلف على الفعل ولم يفعل، ومن ذلك أيضًا لو حلف على أمر ماض يظنه كذلك ولم يكن فهل عليه إثم؟ ليس عليه إذن تكون القسامة أو يكون الحلف في القسامة بناء على غلبة الظن لم يخرج عن قاعدة الأيمان؛ لأن القاعدة في الأيمان أنه يجوز الحلف على غلبة الظن.
1145 -
عن سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه، لكن رجالٍ من كبراء قومه: "أن عبد الله بن سهلٍ ومحيِّضة بن مسعودٍ خرجا إلى خيبر من جهدٍ أصابهم، فأتي محيِّصة فأخبر أن عبد الله بن سهل قد قُتل، وطرح في عينٍ، فأتى يهود، فقال: أنتم والله قتلتموه. قالوا: والله ما قتلناه، فأقبل هو وأخوة حويصة وعبد الرحمن بن سهلٍ، فذهب محيصة ليتكلَّم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كبِّر
كبِّر، يريد: السنَّ، فتكلَّم حويِّصة ثمَّ تكلَّم محيَّصة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمَّا أن يدوا صاحبكم، وأمَّا أن يأذنوا بحربٍ. فكتب إليهم في ذلك، فكتبوا: إمَّا والله ما قتلناه، فقال لحويِّصة، ومحيِّصة، وعبد الرحمن بن سهل: أتحلفون، وتستحقون دم صاحبكم؟ قالوا: لا، قال: فتحلف لكم يهود؟ قالوا: ليسوا مسلمين، فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده، فبعث إليهم مائة ناقةٍ. قال سهلٌ: فلقد ركضتني منها ناقةٌ حمراء". متَّفقٌ عليه.
"سهل"، صحابي و"رجال من كبراء قومه" أيضًا الظاهر أنهم صحابة؛ لأنه لا يهم في مثل هذه القصة عن يهودي أو عن إنسان غير مسلم، وقوله:"جهد" هي المشقة والجوع وقوله: "أصابهم" ولم يقل: أصابهما، يعني: أصاب أهلهم وهم من الأهل، وقوله:"خيبر" لأن خيبر مزارع نخيل يوجد فيها ما يسد جوعهم فخرج إلى ذلك، قوله:"قد قتل وطرح في عين"، العين هي منبع الماء، وهي البئر وخيبر كانت عيونًا تجري، بل إننا شاهدنا نحن وأدركنا أن أحدًا عيونٌ تجري تنبع من الأرض وتمشي لكن نضب الماء وقلَّ، فقال: "أنتم والله قتلتموه قالوا
…
إلخ" حويصة أخو محيصة، وعبد الرحمن بن سهل أخو عبد الله بن سهل القتيل.
وقوله: "ذهب محيصة يتكلم" لأنه شاهد القضية، وأخوه محيصة أكبر منه فقال النبي صلى الله عليه وسلم "كبر كبر" يريد السن، فتكلم حويصة وحويصة لا شك أنه قد بلغه خبر القوم، وإلا ما كان ليتكلم بشيء لا يعلمه ثم تكلم محيصة، يعني: بعد ما تكلم حويصة ولعلة أتم ما لم يأت به حويصة وقوله: يدوا صاحبكم، يعمي: يؤدوا ديته إن قبلتم الدية أو يقتل القاتل إن عينتموه وإما أن يأذنوا بحرب؛ لأنهم نقضوا العهد، فإن الذمي إذا نقض العهد بقتل أحد من المسلمين أو اعتداء عليه بزنا او لواط أو ما أشبه ذلك فإن عهدهم ينتقض فكتب إليهم يعني: قال لهم: "إما أن تدوا صاحب القوم وإما أن تأذنوا بحرب"، فكتبوا: إنا والله ما قتلناه، قوله:"فكتب إليهم في ذلك" هل المراد أن الرسول صلى الله عليه وسلم باشر الكتابة ولكن أمر من يكتب ثم إن الظاهر أنه كتب إليه باللغة العبرية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر زيد بن ثابت أن يتعلم لغة اليهود ليترجم الرسائل التي تأتي منهم والتي تذهب إليهم إلى لغتهم، فكتبوا: إنا والله ما قتلناه، فقال لحويصة، ومحيصة، وعبد الرحمن بن سهل -أخو القتيل- وحويصة ومحيصة:"عمّاه أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم" أتحلفون؛ يعني: على أن اليهود قتلته وتستحقون دم صاحبكم، فقالوا: لا، لا نحلف. وفي لفظ آخر أنهم قالوا:"كيف نحلف ولم نشهد ولم نر" يعني: بينوا سبب امتناعهم عن اليمين؛ لأنهم ما شهدوا ولا علموا بذلك. قال: "فتحلف لكم يهود بأنهم لم
يقتلوا صاحبكم" فقالوا: ليسوا بمسلمين، ومن ليس بمسلم فإنه غير مأمون أن يحلف على الكذب، ولا سيما اليهود فغنهم من مصادر الكذب فوداه الرسول؛ أي: أدى ديته من عنده صلى الله عليه وسلم أي: مما تحت ولايته، وليس المراد: أنه وداه من ماله؛ لأن من المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يبقى المال عنده، حتى إنه جاءه مال ذهب أو فضة فجعل صلى الله عليه وسلم يهتمُّ بذلك حتى فرقه كله، فكان صلى الله عليه وسلم لا يدخر لنفسه شيئًا، فبعث إليهم مائة ناقة. "سهل
…
إلخ" سهل الظاهر أنه ابن أبي حثمة الراوي، وقوله: "ركضتني"؛ أي ضربتني برجلها "ناقة حمراء" وأراد بذلك توكيد القضية وأن النبي صلى الله عليه وسلم وداه من عنده.
هذا الحديث أصل في القسامة؛ وفيه ألفاظ متعددة غير هذا؛ ولهذا ينبغي أن يُعتنى به من جميع الجوانب، وتذكر القصة بجميع رواياتها، أولاً ما هي خبير؟ هي عبارة عن مزارع وحصون اليهود وسكن بعضهم المدينة وسبب ذلك أنهم كانوا قرأوا أنه سيبعث رسول يكون مهاجره المدينة فسكنوا فيها ترقبًا لهذا الرسول وكانوا كما قال الله عز وجل:(وكانوا من قبل يستفتحتون على الذين كفروا) أي: يستنصرون عليهم بهذا الرسول الذي يترقبونه وقوله جهد بالفتح المشقة والجهد بالضم الطاقة قال تعالى (والذين لا يجدون إلا جهدهم) أي: طاقتهم وفي حديث الوحي: "ضمني حتى بلغ مني الجهد" أي: المشقة.
وقوله: "خرجوا إلى خيبر" لأنها كثيرة الثمر فهم إما خرجوا يقتاتون أو خرجوا يمتارون أو خرجوا لأن لهم فيها سهمًا المهم ليس لنا شأن لماذا خرجوا إنما هم خرجوا للحاجة، وقوله: أتي محيصة
…
إلخ هذا يدل على أن معهما أحد لأن اليهود لا يمكن أن يأتوا إلى محيصة يخبرونه بذلك والواقع كذا؛ أي: ان معهم جماعة من قومهم ولعل منهم الكبراء الذين أشار إليهم سهل بن أبي حثمة، وقول فأتى يهود الفاعل محيصة، فقال أنتم والله قتلتموه قالوا والله ما قتلناه فهنا مدع ومدعى عليه وكل منهما حلف أما الأول محيصة فحلف على غالب ظنه، وأما اليهود فحلفوا إما صدقًا وإما كذبًا، يعني: قد يكون غيرهم قتله لأن خيبر فيها أناس من غير اليهود أو أنهم كذبوا واليهود معروفون بالكذب فأقبل هو وأخوه
…
إلخ قوله "كبر" يريد السن، وظاهر سياق الحديث ان الثلاثة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبروه الخبر فأراد محيصة أن يتكلم؛ لأنه صاحب القصة ولم يتكلم عبد الرحمن بن سهل لأنه ليس حاضراً أو لأنه أصغر القوم أو لأن المقصود ذكر القضية دون المطالبة، وإلا لكان الأحق أن يتكلم عبد الرحمن إما لصغره أو لأنه
اكتفى بكلام محيصة لشهودة القصة أو لأن المقصود ذكر القضية لا المطالبة وإلا لو كان المقصود المطالبة لكان أحق الناس أن يتكلم عبد الرحمن فتكلم حُويصة يقال حُويصة ويقال حُويِّصة، يعني: بتخفيف الياء وتشديدها والتشديد أشهر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إما أن يدوا صاحبكم وإما أن يأذنوا بحرب ومعلوم أن هذا ليس بحكم ولكنه فتيّا لأن الرسول لا يحكم على غائب فكتب إليهم في ذلك لينظر ماذا عندهم لأنه حتى الآن لم يُسأل المدعى عليه فكتبوا والله ما قتلناه كما قالوا لمحيصة فقال لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن بن سهل
…
إلخ القائل هو الرسول صلى الله عليه وسلم قال لهؤلاء الثلاثة الذين جاءوا يقصون عليه القصة "أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم"، قوله:"أتحلفون" ظاهره أن الخطاب موجه للثلاثة وتوجيهه لعبد الرحمن واضح؛ لأنه وارث الدم لكن المشكل توجيهه لحويصة ومحيصة لأنهما ليس لهما حق في الدم؟ فيقال: إن هذا من باب التغليب ولأنهما لما جاءا يطالبان بالدم صح توجيه الخطاب إليهما، ثم إنه عندما يوجه التحليف فعلا فالذي يحلف هم ورثة عبد الله بن سهل وهو أخوه وإذا كان هناك وارث آخر وبهذا يزول الإشكال هذا ما ذكره العلماء وقروه ويحتمل أن القضية أصبحت ليست قضية عين أو شخصية، قضية بين قبيلة وقبيلة بدليل أن القوم جاءوا مع عبد الرحمن بن سهل وأن الذين اتهموا في القتل قبيلة يهود فيحتمل أنه إذا كانت المسألة هكذا أن يحلف من كبراء القوم من هؤلاء وهؤلاء ما يجب عليهم من الأيمان هذا ما يظهر، لكن عندما نريد أن نحقق حسب القواعد الفقهية نقول إن الذي يحلف هو من يرث الدم وحينئذ يكون الخطاب كما أشرنا إليه أولاً أنه خاطب الجميع، لأنهم جاءوا يطالبون بالدم وعندما يراد التحليف يتوجه الحلف إلى ورثة عبد الله بن سهل قالوا: لا لا نحلف وقد عللوا ذلك في رواية أخرى: أنهم لم يروا ولم يشهدوا، فكيف نحلف فتركوا اليمين لأنهم ليس عندهم شيء يعتمدون عليه، فأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال يحلف لكم يهود وهنا لم يذكر كم يحلف اليهود لكن في رواية أخرى أنهم يحلفون خمسين يمينًا بأنهم ما قتلوا قالوا ليسوا مسلمين، يعني: وإذا كانوا غير مسلمين فإنهم لا يؤمنون أن يحلفوا وهم كاذبون، "فوداهم النبي صلى الله عليه وسلم من عنده"، وداه يعني: أدى ديته؛ أي: دية القتيل، وذلك لأنه لم يثبت القتل على أحد؛ لأن المدعيين أبوا أن يلفوا وأبوا أن يرضوا بأيمان المدعى عليهم، فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم أن يهدر دمه فوداه من عنده فبعث إليهم مائة ناقة
…
إلخ.
بقي أن يقال متى كان هذا؟ الذهاب إلى خيبر؟ نقول: كان بعد فتحها ذهبوا إليها وهي يومئذ صلح لكن هل هو في أول سنة هذا لا يهم المهم أن القضية وقعت بعد أن فتحت خيبر.
1146 -
وعن رجلٍ من الأنصار رضي الله عنه: "أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرَّ القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية، وقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ناسٍ من الأنصار في قتيلٍ ادَّعوه على اليهود". رواه مسلم.
قوله: "أقر القسامة"، أولاً: الرجل من الأنصار مجهول، لكن لا يضر جهالته؛ لأنه صحابي؛ والصحابي لا تضر جهالته لأن الصحابة كلهم عدول، وقوله: أقرها، يعني: حكم بها، وقوله:"على ما كانت عليه في الجاهلية ننظر كيف كانت القسامة في عهد الرسول وتكون القسامة في الجاهلية كما كانت عليه في عهد الرسول، وهي أن يوجد قتيل عند قبيلة أعداء، لكون هذا القتيل تتهم به هذه القبيلة فتشرع القسامة، وقوله: "وقضى بها
…
إلخ" هل هي قصة عبد الله بن سهل أو غيره؟ هي هي، هذا هو الظاهر.
وعلى كل حال يستفاد من هذا الحديث فوائد: أولاً: الحكم بالقسامة وهذا هو الذي عليه جمهور العلماء وأنكرها بعض العلماء، من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ووجه إنكارهم إياها أنها خارج عن قواعد الدعاوي، وقد أشرنا قبل هذا الدرس إلى الوجوه التي خرجت بها عن قاعدة الدعاوي وأجبنا عن ذلك بما فيه الكفاية وسبق وأما الجمهور فحكموا بها ولكن أما على وفق ما جاء به النص فمتفق عليه بين الاثنين، يعني: في دعوى قتل قتيل قُتل عند قبيلة معادية هذا لا أحد من الجمهور يخالفه، لكن فيه بعض مسائل سيأتي التنبيه عليها.
ومن فوائد الحديث: أننا لا نأمن من اليهود، يعني: معناه أن اليهود ليسوا أمناء ودليل ذلك أن ظاهر الحال أنهم هم الذين قتلوا عبد الله بن سهل ولا غرابة أن يغدروا، فهم عاهدوا الرسول، القبائل الثلاثة بنو النضير وبنو قينقاع وبنو قريظة كلهم عاهدوا الرسول حين جاء المدينة وكلهم نقضوا العهد، وهم من أغدر الناس، وأكذب الناس، وهم الطائفة التي وصفها ابن القيم ي كتابه:"إغاثة اللهفان" بالأمة الغضبية؛ يعني: المغضوب عليهم.
ومن فوائد الحديث: أنه إذا قُتل شخص ولم يُعلم عن قاتله وليس هناك عداوة توجب التهمة فإنه لا قسامة، وجه ذلك: أن العداوة بين الأنصار واليهود ظاهرة فمن أجلها أُجريت القسامة، أما إذا لم يكن عداوة فإننا لا نقبل من المدعي دعوة القتل إلا ببينة أو اعتراف من المدعى عليه وهل يحلف، يعني: في غير موضع القسامة هل يحلف المدعى عليه أو لا، يعني: رجل ادعى أن قاتل أبيه فلان بدون عداوة وبدون لوث فهل يُحلَّف المدعى عليه؟ قال العلماء: إن كانت الدعوى في القتل الخطأ فإنه يحلف المدعى عليه وإن كانت في قتل عمد
فإنه لا يُحلَّف، يعني: إذا قال فلان هذا الرجل دعس والدي خطأ فأنكر صاحب السيارة قال ما فعلت فهنا يُحلف صاحب السيارة وأما إذا قال إنه قتل والدي عمدً برصاص أو بالسيف وأنكر المدعى عليه القتل فإنه لا يحلف ويُخلى سبيله ولا يتعرض له والأول يؤتى به ويُحلف فإن حلف وإلا قضى عليه بالنكول، قد يقول قائل: إن ادعاء العمد أولى بالتحليف من ادعاء الخطأ لكن العلماء قالوا: مدعي العمد يريد القصاص والقصاص لا يقضى عليه بالنكول ومدعي الخطأ يريد المال والمال يقضى على المدعى عليه بالنكول، والنكول هو الامتناع عن اليمين نكمل المثال ادعى شخص على آخر بأنه دعس والده فأنكر صاحب السيارة وقال: ما فعلت قطُّ. نقول: احلف، قل: والله ما دعسته، فإذا حلف خلينا سبيله؛ لأنه لو ثبت ذلك كان الواجب الدية وهي مال كما لو ادعيت على شخص فقلت: هذا الرجل أتلف مالي فأنكر فهل يُحلف أو لا يحلف؟ يُحلف فإن نكل وقال لا أحلف قلنا: يُقضى عليك بالنكول تضمن المال، قالوا دعوى قتل الخطأ توجب المال فيحلف المدعى عليه أنه ما قتل فإن لم يفعل ونكل ضمناه الدية كما لو قال شخص لآخر هذا الرجل أتلف مالي فأنكر نقول له احلف إن أبى أن يحلف وهذا هو النكول قضينا عليه قلنا: اضمن المال وإلا ما الذي يضرك إذا حلفت في باب العمد إذا ادعى شخص على آخر أنه قتل أباه عمداً عدواناً الذي يضرك إذا حلفت في باب العمد إذا ادعى شخص على آخر أنه قتل أباه عمدًا عدوانًا فقال المدعى عليه ما قتلته هل نحلفه؟ لا، لأنه لو قال لا أحلف لم نقتص منه إذ القصاص لا يقصى فيه بالنكول، لأن القصاص أعظم حرمة من المال فلا يقضي فيه بالنكول هكذا المشهور عند العلماء أنه إذا كانت الدعوى في قتل عمد فإن المدعى عليه لا يلزم باليمين وإذا نكل لا يقضى عليه بالنكول وإن كانت في خطأ فإنه يلزم باليمين فإن نكل قضي عليه بالنكول وقال بعض العلماء يحلف في العمد لاحتمال صدق دعوى العلماء يحلف في العمد لاحتمال صدق دعوى المدعي فإن حلف نجا وغن نكل قضي علبه بالدية دون القصاص لأنه إذا نكل لم يثبت أن دمه الآن صار حلالاً فهو محرم الدم لكن المال يثبت خصوصًا إذا قلنا: إن قتل العمد يثبت به أحد أمرين إما القصاص وإما الدية وأنه ليس الواجب القصاص عينًا والدية لا تجب اليمين في القسامة واحدة إذن الراجح يحلف في العمد فغن حلف نجا وإن لم يحلف قضي عليه بالدية لا بالقصاص.
ومن فوائد الحديث: أن اليهود يعظمون الله لكونهم يحلفون به، والحلف تعظيم للمحلوف به ولكن تعظيمهم لله تعظيم لا فائدة منه؛ لأنهم لو عظموا الله لصدقوا رسله ولكنهم مكذبون للرسل.
ومن فوائد الحديث: أن مرجع الصحابة في الأحكام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا جاءوا إليه يخبرونه بالقضية من أجل الحكم فيها.
ومن فوائد الحديث: اعتبار تقدم السن في الكلام؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "كبر كبر"، وحينئذٍ نسأل هل هذا على إطلاقه أو نقول هذا إذا تساوى الشخصان في البيان والتعريف، وأما إذا كان الكبير لا يكاد يبين فإنه يقدم الصغير عند الحكومة والخصومة لأنه إذا تكلم الكبير وهو لا يكاد يبين ضاع الحق فيقال يرجع إلى كبر السن عند التساوي أو التقارب في الأوصاف المعتبرة للقضية ولهذا يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله وإن كان أصغرهم سنًا.
ومن فوائد الحديث: جواز الفتيا في حق الغائب؛ لن النبي صلى الله عليه وسلم أفتى هؤلاء في حكم اليهود الذين اتهموا بقتل صاحبهم، وادعى بعضهم أن هذا من باب الحكم على الغائب وليس بصحيح، وهذا نظير ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع عند امرأة أبي سفيان حيث شكت إليه أن أبا سفيان لا يعطيها ما يكفيها، فأذن لها أن تأخذ من ماله ما يكفيها.
ومن فوائد الحديث: أن أهل الذمة إذا اعتدوا على المسلم بقتل فإن عهدهم ينتقض لقوله: "وإما أن يأذنوا بحرب".
ومن فوائده: أن الذمي إذا اعتدى على مسلم ثم أراد أن يضمن موجب عداونه فإنه يبقى على عهده لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إما أن يدوا صاحبكم
…
إلخ"، وقيل: بل ينتقض العهد مطلقًا بمجرد العدوان لأن مجرد الاعتداء على المسلم انتهاك لحرمة المسلمين وإهدار للعهد.
ومن فوائد الحديث: جواز المكاتبة في القضاء؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كتب إلى اليهود في القضية فردوا عليه فكتبوا، فدل هذا على جواز المكاتبة لإثبات الحكم وإثبات القضية، ومن هنا أخذ الفقهاء ما يسمى بكتاب القاضي إلى القاضي.
ومن فوائد الحديث: أنه يبدأ في القسامة بأيمان المدعي لقوله: "أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم".
فإن قال قائل: كيف كانت اليمين من جانب المدعي والنبي صلى الله عليه وسلم جعلها في جانب المنكر؟
قلنا: إن اليمين لا تكون في جانب المدعى عليه وهو منكر دائمًا وإنما تكون اليمين في جانب أقوى المتداعيين فمن قوي جانبه شرعت اليمين في حقه.
ومن فوائد الحديث: أن القسامة يؤخذ فيها بالقصاص؛ لقوله: "وتستحقون دم صاحبكم" وهذا هو الصحيح الذي عليه جمهور العلماء، وقال بعض العلماء: إنه لا تنتهك بها الدماء، وأنها إذا تمت تجب الدية تعظيمًا لشأن الدماء، والصحيح أنها إذا تمت واكتملت الشروط فإنه يثبت القصاص إن اختاره أولياء المقتول أو الدية أو العفو.
ومن فوائد الحديث: الاعتداد بحلف الخصم وإن كان كافراً لقوله سيحلف لكم يهود وهو كذلك فلو ادعى مسلم على كافر بأنه أخذ ماله وأنكر الكافر وحلف فإنه يبرأ.
ومن فوائد الحديث: أنه لو لم يرض المدعون بأيمان المدعى عليهم فإنهم لا يلزمون بذلك وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يلزم عبد الرحمن بن سهل وحويصة ومحيصة أن يقبلوا أيمان اليهود.
ومن فوائد الحديث: أنه إذا جرت القضية على مثل ما جاء به الحديث فإنه يجب دفع ديته من بيت المال فوداه النبي صلى الله عليه وسلم من عنده ووجه الوجوب ألا يضيع دم مسلم هدرًا.
ومن فوائد الحديث: أن الأصل في الدية الإبل لقوله: "فبعث إليهم مائة ناقة"، والحديث هنا يقول:"مائة ناقة"، وقد سبقت أنها من أربعة أصناف منها ذكور فما الجمع بين هذا وما سبق؟ يقال: في بيان الواجب و"ما" هنا على سبيل التبرع.
ومن فوائد الحديث: جواز تأكيد الخبر لما يصحبه من حادثة لقول سهل: "فلقد ركضتني منها ناقة حمراء"، ومن هنا أخذ المحدثون باب المسلسل وهو حكاية الراوي الحال التي كان عليها حيت التحديث أو أن يذكر كلمة قالها شيخه حين التحدث، هذا ما يتعلق بالفوائد، ولكن هنا مسائل.
مسائل مهمة تتعلق بالقسامة:
المسألة الأولى: الحديث ورد في قتل النفس فهل يلحق بها الجراح، يعني: لو أننا وجدنا رجلاً مقطوعة يده أو رجله عند قبيلة معادية فهل تجري القسامة؟ في هذا خلاف بين العلماء منهم من قال: إنها تُجرى القسامة لأن ما ثبت في النفس ثبت في الطرف لقوله تعالى: (والجروح قصاص) والعدو ربما لا يقتل عدوه ولكن يقطع يديه ورجليه وموته أهون عنده من قتل يديه ورجليه والصحيح أنها تجرى القسامة في الأطراف والتعليل أن ما جرى في النفس يجري في الطرف وأما قول بعضهم إن القسامة خرجت عن الأصل وما خرج عن الأصل لا يقاس عليه وهذه قاعدة معروفة عند العلماء ولكن يقال هذه لم تخرج عن الأصل لما سبق بيانه لكم قبل هذا الدرس.
المسألة القانية: هل تجري القسامة في الأموال أو لا؟ بمعنى: لو أن شخصًا أوقف سيارته في قرية وأهل القرية أعداء لقبيلة صاحب السيارة، فجاء فوجد سيارته مكسرة فهل تجرى القسامة في هذه الحال أو نقول: هذه كسائر الدعاوي يقال للمدعي ائت بالبينة وإلا فليس لك لا يمين من ادعيت عليه في هذا أيضًا خلاف لكنه أقل من الخلاف الأول فمنهم من قال: إنها تجرى القسامة في الأموال كما تجرى في الدماء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام"، ولم يفرق بين المال والدم ولكن الجمهور على خلاف
ذلك أنها لا تُجرى في الأموال قالوا وإنما أُجريت في الدماء حقنًا للدماء وحماية لها ولئلا يجترئ مجترئ على القتل ويذهب دم المقتول هدرًا إذا لم يكن بينة والراجح والله أعلم أنها لا تجرى في الأموال أن يقال من ادعى إتلاف ماله عند أعداءً له أقم البينة وإلا فلا لكن في هذه الحال يجب على القاضي أن يتحرى؛ لأن صدق المدعي قريب فيجب عليه أن يتحرى أكثر مما وقع هذا الإتلاف من غير عدو.
المسألة الثالثة: إذا أجرينا القسامة سواء في النفس أو في المال أو في الطرف فهل تكرر فيما الأيمان أو لا؟ نقول تكرر فيها الأيمان وذلك لأجل أن يقوى جانب المدعي فإن الأصل أن المدعي يلزمه البينة فإذا أخذنا بيمينه قلنا: تكرر اليمين من أجل أن يقوى جانبك كما أنها إذا كانت في الدماء من أجل تعظيم الدماء.
المسألة الرابعة: إذا كان الورثة -ورثة القتيل- كلهم نساء فهل تجرى القسامة؟
يقول العلماء: لا تُجرى؛ لأم الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "يحلفون خمسين يمينًا"، وفي بعض الألفاظ:"يحلف خمسين يمينًا رجلُ منكم" والنساء ليس لهن أيمان في القسامة لكن يوجد قول لبعض العلماء: أن النساء يحلفن، لا سيما إذا لم يوجد رجال فإن لهن الحلف.
المسألة الخامسة: هل يشترط تعيين المدعى عليه، أو يجوز أن يدعي على جماعة؟ الجمهور على أنها لابد أن تكون على واحد بعينه، أو يجوز أن يدعي على جماعة؟ الجمهور على أنها لابد أن تكون على واحد بعينه؛ لقوله في بعض ألفاظ الحديث:"يحلف خمسون رجلاً منكم على رجل منهم"، ولأن القتيل واحد فلا نقتل به أكثر إلا ببينة، ومجرد دعوى المدعين نقول: نعم لكم الحق بأن تقتلوا بدعواكم واحدًا، أما أن تدعوا على جماعة فإننا لا نقبل هذا ولا قسامة؛ إما أن تأتوا ببينة أو يقر هؤلاء وإلا فلا حق لكم، وهذا أقرب إلى الصواب، وقيل: إنه يجوز أن يدعي أهل القتيل على جماعة لكن يعينونه، وقيل: يجوز أن يدَّعوا على القبيلة كلها ويختارون منهم خمسين رجلاً يحلفون إذا أنكرت القبيلة.
وهذه المسائل سبب الخلاف فيها: أن القضية وقعت مرة واحدة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم واختلف فيها الروايات ثم اختلفت فيها أوجه النظر بين العلماء؛ هل المسألة خارجة عن القياس فلا يقاس عليها أو موافقة للقياس فيقاس عليها، وهل يقاس الجزء على الكل، وهل يقال المال على الدم وهلم جرًّا.
المسألة السادسة: هل نقول: كل ما يغلب على الظن يُجرى مجرى العداوة، مثل: أن يكون رجل قد تهدد رجلاً بالقتل، أو مثل ما يكون بين السيد وعبده من المنازعات والمخاصمات، وتعرفون أن العبيد في الغالب سريعو الغضب ربما يغضب على سيده ثم يكون قويًّا فيأخذه ويطرحه على الأرض، ولهذا يقولون: احذر العبد إذا صاج، والفحل إذا