المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المحرم من الطلاق: - فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام ط المكتبة الإسلامية - جـ ٥

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

- ‌7 - باب الطلاق

- ‌تعريف الطلاق لغة وشرعًا:

- ‌ذكر المفاسد المترتبة على الطلاق:

- ‌حكم طلاق الحائض

- ‌المحرم من الطلاق:

- ‌اختلاف حكم الطلاق ثلاثة مجموعة في عهد عمر رضي الله عنه:

- ‌مسألة: هل يقع الطلاق بحديث النفس أو الوسوسة

- ‌حكم الطلاق الخطأ وطلاق المكره:

- ‌ثبوت الطلاق يترتب على ثبوت النكاح:

- ‌حكم طلاق الصغير والمجنون والسكران:

- ‌كتاب الرجعة

- ‌حكم الإشهاد في الطلاق والرجعة:

- ‌1 - باب الإيلاء والظهار والكفارة

- ‌حكم الإيلاء:

- ‌مدة الإيلاء:

- ‌حكم المجامع في رمضان:

- ‌كفارة الظهار:

- ‌2 - باب اللعان

- ‌تعريف اللعان:

- ‌3 - باب العدة والإحداد والاستبراء وغير ذلك

- ‌عدة الوفاة

- ‌عدة الطلاق وفسخ النكاح:

- ‌حكم السكنى والنفقة للمطلقة البائنة وعدتها:

- ‌حكم التطيب والحناء في الحداد:

- ‌حكم الكحل في الحداد:

- ‌حكم خروج المعتدة المطلقة:

- ‌حكم خروج المعتدة بعد وفاة زوجها من بيتها:

- ‌طلاق الأمة وعدتها:

- ‌الاستبراء وأحكامه:

- ‌أحكام امرأة المفقود في العدة وغيرها:

- ‌التحذير من الحلوة بالأجنبية:

- ‌أحكام السبايا في الاستبراء:

- ‌4 - باب الرضاع

- ‌تعريف الرضاع:

- ‌مسألة إرضاع الكبير وأحكامها:

- ‌يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب:

- ‌صفة الرضاع الذي يثبت به التحريم:

- ‌النهي عن استرضاع الحمقى:

- ‌5 - باب النفقات

- ‌أسئلة ومناقشة:

- ‌النفقة على الزوجة والأولاد وأحكامها:

- ‌النفقة على المملوك وأحكامها:

- ‌حكم النفقة على الحامل المتوفى عنها زوجها:

- ‌مسألة طلب المرأة الطلاق عند عجز زوجها عن النفقة:

- ‌النفقة على الوالدين وأحكامها:

- ‌6 - باب الحضانة

- ‌تعريف الحضانة:

-

- ‌كتاب الجنايات

- ‌تعريف الجنايات لغة وشرعًا:

- ‌حرمة دماء المسلمين وتعظيمها:

- ‌المعتدي جان يفعل به كما فعل:

- ‌حالات إباحة قتل المسلم:

- ‌حرمة الدماء:

- ‌القصاص من الحر للعبد:

- ‌حكم قود الوالد بولده:

- ‌حكم قتل المسلم بكافر:

- ‌حكم قتل المؤمن بمعاهد:

- ‌الجناية على النفس:

- ‌جناية الصغير والمجنون:

- ‌ترك القصاص في الجروح قبل البرء:

- ‌الجناية على الحمل:

- ‌العفو عن الجناية:

- ‌الجناية على النفس وأنواعها:

- ‌الاشتراك في الجناية:

- ‌قتل الجماعة بالواحد:

- ‌التخيير بين الدية والقصاص وشروطه:

- ‌1 - باب الديات

- ‌مقادير الدية في الجروح:

- ‌دية القتل الخطأ:

- ‌دية قتل العمد وشبه العمد:

- ‌إلحاق دية شبه العمد بالقتل الخطأ:

- ‌دية الأصابع والأسنان:

- ‌ضمان الطبيب:

- ‌دية الشجاج:

- ‌دية أهل الكتاب:

- ‌دية المرأة والرجل:

- ‌تغليظ الدية وضوابطه:

- ‌2 - باب دعوى الدم والقسامة

- ‌3 - باب قتال أهل البغي

- ‌تعريف البغي، وبيان أهل البغي بالتفصيل:

- ‌قتال من حمل السلاح على المسلمين:

- ‌عقوبة مفارقة الجماعة:

- ‌ضوابط معاملة البغاة:

- ‌الحث على الاجتماع ونبذ الفرقة:

- ‌4 - باب قتال الجانب وقتل المرتدِّ

- ‌جواز قتل الصائل:

- ‌سقوط الضمان في الدفاع عن النفس:

- ‌سقوط الضمان للمتطلع لبيوت المسلمين:

- ‌ضمان ما أتلفته المواشي:

- ‌قتل المرتد:

- ‌شروط قتل المرتد:

- ‌قُتل من سب النبي أو زوجاته أو أصحابه:

- ‌كتاب الحدود

- ‌مفهوم الحدود وحكمه:

- ‌1 - باب حد الزاني

- ‌حد الزاني غير المحصن:

- ‌حكم الجمع بين الجلد والرجم:

- ‌ثبوت الزنا بالإقرار:

- ‌وجوب التثبت في إثبات الزنا:

- ‌طرق ثبوت الزنا

- ‌حد الأمة الزانية:

- ‌السيد يقيم الحد على مملوكه:

- ‌تأجيل إقامة حل الزنا على الحامل:

- ‌تخفيف الحد على المريض الضعيف:

- ‌عقوبة اللواط:

- ‌الجمع بين الجلد والتغريب للزاني البكر:

- ‌لعنة المخنثين والمترجلات:

- ‌درء الحدود بالشبهات:

- ‌وجوب إقامة حد الزنا عند ثبوته:

- ‌2 - باب حدِّ القذف

- ‌اللعان:

- ‌حد المملوك القاذف:

- ‌3 - باب حدِّ السَّرقة

- ‌نصاب السرقة الموجب للقطع:

- ‌جحد العارية:

- ‌المختلس والمنتهب:

- ‌اشتراط الحرز لوجوب القطع:

- ‌ثبوت السرقة بالإقرار:

- ‌لا ضمان على السارق:

- ‌حكم الجمع بين الضمان والقطع:

- ‌الشفاعة في الحدةد، ضوابطها:

- ‌الشبهة أنواعها وشروط انتفائها:

- ‌4 - باب حدِّ الشَّارب وبيان المسكر

- ‌عقوبة شارب الخمر:

- ‌تجنب الضرب على الوجه:

- ‌الخمر بين الطهارة والنجاسة:

- ‌كل مسكر خمر:

- ‌حكم مزج الزبيب بالماء أو اللبن:

- ‌حكم التداوي بالمحرم:

- ‌حكم التداوي بالخمر:

- ‌5 - باب التعزيز وحكم الصَّائل

- ‌التعزيز بين الوجوب والاجتهاد:

- ‌إقالة العثرات وضوابطها:

- ‌حكم الصائل:

- ‌الدفاع عن النفس:

-

- ‌كتاب الجهاد

- ‌تعريف الجهاد لغة وشرعًا:

- ‌أقسام الجهاد:

- ‌وجوب جهاد الدفاع وشروطه:

- ‌شرط القدرة على الجهاد وضوابطه:

- ‌الترغيب في الجهاد في سبيل الله:

- ‌جهاد النساء:

- ‌تقديم بر الوالدين على الجهاد:

- ‌حكم الإقامة في دار الكفر:

- ‌الهجرة من دار الكفار وأحكامها:

- ‌وجوب الإخلاص في الجهاد:

- ‌جواز الهدنة:

- ‌حكم الإغارة بلا إنذار:

- ‌وصايا الرسول صلي الله عليه وسلم لأمراء الجيوش:

- ‌فائدة جواز الجزية من مشركي العرب:

- ‌التورية عند الغزو:

- ‌القتال أول النهار وأخره:

- ‌جواز قتل النساء والذرية عند التبييت:

- ‌لا يستعان بمشرك في الحرب:

- ‌النهي عن قتل النساء والصبيان في الحروب:

- ‌جواز قتل شيوخ المشركين:

- ‌المبارزة في الحروب:

- ‌الحمل على صفوف الكفار وضوبطه:

- ‌إتلاف أموال المحاربين:

- ‌النهي عن الغلول:

- ‌سلب القاتل:

- ‌الرمي بالمنجنيق:

- ‌جواز قتل المرتد في الحرم:

- ‌القتل صبرًا:

- ‌الأسير وأحواله:

- ‌إسلام الكافر ونتائجه:

- ‌معرفة الجميل لأهله:

- ‌النهي عن وطء المسبية حتى تستبرأ أو تضع:

- ‌تنفيل المجاهدين بعد قسمة الفيء:

- ‌سهم الفارس والفرس والراجل:

- ‌حكم التنفيل:

- ‌حكم الأخذ من طعام العدو قبل القسمة:

- ‌وجوب المحافظة على الفيء:

- ‌يجير على المسلمين أدناهم:

- ‌إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب:

- ‌إجلاء بني النضير من المدين

- ‌تقسيم غنائم خيبر:

- ‌لا يحبس الرسول صلى الله عليه وسلم الرسل ولا ينقض العهد:

- ‌حكم الأرض المفتوحة:

- ‌1 - باب الجزية والهدنة

- ‌أخذ الجزية من المجوس:

- ‌أخذ الجزية من العرب:

- ‌مقدار الجزية عن كل حالم:

- ‌علو الإسلام بالوقوف عند العمل به:

- ‌السلام على الكفار وحكمه:

- ‌صلح الحديبية:

- ‌النهي عن قتل المعاهد:

- ‌2 - باب السبق والرمي

- ‌السباق على الخف والحافر والنصل:

- ‌محلل السبَّاق:

- ‌شرعية التدريب على القوة:

الفصل: ‌المحرم من الطلاق:

أيضًا لا يقع منه الطلاق لكن لو حاكمته المرأة ورجعنا إلى القاضي فإن القاضي يحكم بالطلاق اعتبارًا بظاهر اللفظ لئلا يقع التلاعب من أهل الفسق يطلق ألف مرة ويقول ما أردت الطلاق.

فإذا قال قائل: إذا كان الحكم يقع عليه الطلاق وليس لنا إلا الظاهر فهل يجب على المرأة أن تحاكم الزوج لإيقاع الطلاق أو لا يحل لها أن تحاكم الزوج خوفًا من أن يكون صادقًا؟

فالجواب على هذا أن نقول: يجب أن ننظر إلى هذا الزوج إن كان عند الزوج تقوى لله وخشية له وأنه لا يمكن أن يدَّعي أنه لم يرد الطلاق إلا وهو صادق فهنا لا يحل لها أن تحاكمه لأنها إذا حاكمته سوف يفرق بينهما وهي زوجته وإن كان الرجل من المتهاونين الذين لا يبالون وليسر له همٌّ إلا أن يشبع رغبته فيجب عليها أن تحاكمه من أجل أن يحكم القاضي بالطلاق ويفرق بينهما.

وقول المؤلف: وأما المدخول بها فإن كانت حائضًا أو نفساء، حرم طلاقها، أما الحائض فلا شك في تحريم الطلاق لما جرى من قصة ابن عمر فإن الرسول تغيظ فيه ورده، لكن إذا كانت نفساء ففي تحريم طلاقها نظر وفي عدم وقوعه أيضًا نظر؛ لأن من طلقها وهي نفساء فقد طلقها للعدة، النبي صلى الله عليه وسلم علَّل التحريم؛ لأنه مخالف للعدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء والنفساء إذا طلقها زوجها فقد طلقها للعدة لأنها تشرع في العدة من حين أن يطلقها كما لو طلق الآيسة والصغيرة التي لا تحيض لأنها تشرع في العدة من حين الطلاق فالظاهر لي أنا أن طلاق النفساء لا يحرم وأنه يقع؛ لأن المطلق قد امتثل أمر الله في قوله:{فطلقوهنّ لعدَّتهن} فهذه النفساء تشرع في العدة من حين الطلاق ويبقى حتى يأتيها الحيض ثلاث مرات بخلاف من طلقها في الحيض، فإذا طلقها في الحيض فإن الحيضة التي وقع فيها الطلاق لا تحسب من العدة فيكون قد طلق في غير العدة لأنها لا تحسب من العدة فهذا هو الفرق.

‌المحرم من الطلاق:

واختلفوا في وقوع المحرم من ذلك، وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: الطلاق في الحيض، أو في الطهر الذي واقعها فيه.

المسألة الثانية: في جمع الثلاث، ونحن نذكر المسألتين تحريرًا وتقريرًا، كما ذكرناهما تصويرًا، ونذكر حجج الفريقين، ومنتهى أقدام الطائفتين، مع العلم بأن المقلد المتعصب لا يترك من قلده ولو جاءته كل آية، وأن طالب الدليل لا يأتم بسواه، ولا يحكم إلا إيام، ولكل من

ص: 13

الناس مورد لا يتعداه، وسبيل لا يتخطاه، ولقد عذر من حمل ما انتهت إليه قوام، وسعى إلى حيث انتهت إليه خطاه.

فأما المسألة الأولى: فإن الخلاف في وقوع الطلاق المحرم لم يزل ثابتًا بين السلف والخلف، وقد وهم من أدعى الإجماع على وقوعه، وقال بمبلغ علمه، وخفي عليه من الخلاف ما اطلع عليه غيره، وقد قال الإمام أحمد: من ادعى الإجماع، فهو كاذب، وما يدريه لعل الناس اختلفوا.

كيف والخلاف بين الناس في هذه المسألة معلوم الثبوت عن المتقدمين والمتأخرين؟ قال محمد بن عبد السلام الخشني: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، حدثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع مولى ابن عمر، عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال في رجل طلق امرأته وفي حائض، قال ابن عمر، لا يعتد بذلك، ذكره أبو محمد أبن حزم في "المحلى" بإسناده إليه".

وقال عبد الرزاق في "مصنفه": عن ابن جريج، عن ابن طاوس، عن أبيه أنه قال: كان لا يرى طلاقًا ما خالف وجه الطلاق، ووجه العدة، وكان يقول: وجه الطلاق: أن يطلقها طاهرًا من غير إجماع وإذا استبان حملها.

وقال الخشني: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا همام بن يحيى، عن قتادة، عن خلاس بن عمرو أنه قال في الرجل يطلق امرأته وهي حائض: قال: لا يعتد بها قال أبو محمد ابن حزم: والعجب من جرأة من ادعى الإجماع على خلاف هذا، وهو لا يجد فيما يوافق قوله في إمضاء الطلاق في الحيض أو في طهر جامعها فيه كلمة عن أحد من الصحابة- رضي الله عنهم غير رواية عن ابن عمر قد عارضها ما هو أحسن منها عن ابن عمر، وروايتين ساقطتين عن عثمان وزيد بن ثابت رضي الله عنه، إحداهما: رويناها من طريق ابن وهب عن ابن سمعان عن رجل أخبره أن عثمان بن عفان رضي الله عنه كان يقضي في المرأة التي يطلقها زوجها وهي حائض أنها لا تعتد بحيضتها تلك، وتعتد بعدها بثلاثة قروء، قلت: وابن سمعان هو: عبد الله بن زياد بن سمعان الكذاب، وقد رواه عن مجهول لا يعرف، قال أبو محمد: والأخرى من طريق عبد الرزاق، عن هشام بن حسان، عن قيس بن سعد مولى أبي علقمة، عن رجل سماه، عن زيد بن ثابت أنه قال فيمن طلق امرأته وهي حائض: يلزمه الطلاق وتعتد بثلاث حيض سوى تلك الحيضة.

ص: 14

قال أبو محمد: بل نحن أسعد بدعوى الإجماع هاهنا لو استجزنا ما يستجيزون، ونعوذ بالله من ذلك، وذلك أنه لا خلاف بين أحد من أهل العلم قاطبة، ومن جملتهم جميع المخالفين لنا في ذلك أن الطلاق في الحيض أو في طهر جامعها فيه بدعة نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم مخالفة لأمره، فإذا كان لا شك في هذا عندهم، فكيف يستجيزون الحكم بتجويز البدعة التى يقرون أنها بدعة وضلالة، أليس بحكم المشاهدة مجيز البدعة مخالفًا لإجماع القائلين بأنها بدعة؟ قال أبو محمد: وحتى لو لم يبلغنا الخلاف، لكان القاطع على جميع أهل الإسلام بما لا يقين عنده، ولا بلغه عن جميعهم كاذبًا على جميعهم.

قوله: "لكان القاطع .... إلخ". "القاطع": اسم كان، "وكاذبًا" خبره، معناه: أن الذي يقطع بالإجماع يكون كاذبًا على جميع الناس، والمسألة لم يرو فيها إلا عن عثمان بهذا السند الضعيف وزيد بن ثابت فكيف يدَّعى الإجماع بأنه يقع وابن حزم يقول: نحن أسعد بدعوى الإجماع هاهنا لو استجزنا ما يستجيزون، ما هو الذي يستجيزون؟ دعوى الإجماع.

قال المانعون من وقوع الطلاق المحرم: لا يزال النكاح المتيقن إلا بيقين مثله من كتاب، أو سنة، أو إجماع متيقن، فإذا أوجدتمونا واحدًا من هذه الثلاثة رفعنا حكم النكاح به، ولا سبيل إلى رفعه بغير ذلك، قالوا: وكيف والأدلة المتكاثرة تدل على عدم وقوعه، فإن هذا طلاق لم يشرعه الله تعالى ألبتة، ولا أذن فيه، فليس من شرعه، فكيف يقال بنفوذه وصحته؟

قالوا: وإنما يقع من الطلاق ما ملكه الله تعالى للمطلق، ولهذا لا يقع به الرابعة؛ لأنه لم يملكها إياه، ومن المعلوم انه لم يملكه الطلاق المحرم، ولا أذن له فيه، فلا يصح، ولا يقع.

قالوا: ولو وكل وكيلًا أن يطلق امرأته طلاقًا جائزًا، فطلق طلاقًا محرمًا، لم يقع؛ لأنه غير مأذون له فيه، فكيف كان؟ ! إذن المخلوق معتبرًا في صحة إيقاع الطلاق دون إذن الشارع، ومن المعلوم أن المكلف إنما يتصرف بالإذن، فما لم يأذن به الله ورسوله لا يكون محلًّا للتصرف ألبتة.

قالوا: وأيضًا فالشارع قد حجر على الزوج أن يطلَّق في حال الحيض أو بعد الوطء في الطهر، فلو صح طلاقه لم يكن لحجر الشارع معنى، وكان حجر القاضي على من منعه التصرف أقوى من حجر الشارع حيث يبطل التصرف بحجره.

قالوا: وبهذا أبطلنا البيع وقت النداء يوم الجمعة؛ لأنه بيع حجَّر الشارع على بائعه هذا الوقت، فلا يجوز تنفيذه وتصحيحه.

ص: 15

قالوا: ولأنه طلاق محرم منهي عنه، فالنهي يقتضي فساد المنهي عنه، فلو صححناه لكان لا فرق بين المنهي عنه والمأذون فيه من جهة الصحة والفساد.

قالوا: وأيضًا فالشارع إنما نهى عنه وحرمه؛ لأنه يبغضه، ولا يحب وقوعه، بل وقوعه مكروه إليه، فحرمه لئلا يقع ما يبغضه ويكرهه، وفي تصحيحه وتنفيذه ضد هذا المقصود.

قالوا: وإذا كان النكاح المنهي عنه لا يصح لأجل النهي، فما الفرق بينه وبين الطلاق، وكيف أبطلتم ما نهى الله عنه من النكاح، وصححتم ما حرمه ونهى عنه من الطلاق، والنهي يقتضي البطلان في الموضعين؟

قالوا: ويكفينا من هذا حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم العام الذي لا تخصيص فيه برد ما خالف أمره وإبطاله وإلغائه، كما في والصحيح عنه، من حديث عائشة رضي الله عنه:"كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد" وفي رواية: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد". وهذا صريح أن هذا الطلاق المحرم الذي ليس عليه أمره صلى الله عليه وسلم مردود باطل، فكيف يقال: إنه صحيح لازم نافذ؟ ! فأين هذا من الحكم برده؟ !

قالوا: وأيضًا فإنه طلاق لم يشرعه الله أبدًا، وكان مردودًا باطلًا كطلاق الأجنبية، ولا ينفعكم الفرق بأن الأجنبية ليست محلًّا للطلاق بخلاف الزوجة، فإن هذه الزوجة ليست محلًّا للطلاق المحرم، ولا هو مما ملكه الشارع إياه.

قالوا: وأيضًا فإن الله سبحانه إنما أمر بالتسريح بإحسان، ولا أسوأ من التسريح الذي حرمه الله ورسوله، وموجب عقد النكاح أحد أمرين: إما إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان، والتسريح المحرم أمر ثالث غيرهما، فلا عبرة به ألبتة.

قالوا: وقد قال الله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن" [الطلاق: 1]، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم المبين عن الله مراده من كلامه، أن الطلاق المشروع المأذون فيه هو الطلاق في زمن الطهر الذي لم يجامع فيه، أو بعد استبانة الحمل، وما عداهما فليس بطلاق للعدة في حق المدخول بها، فلا يكون طلاقًا، فكيف تحرم المرأة به؟ !

قالوا: وقد قال الله تعالى: {الطلاق مرتان} [البقرة: 229]. ومعلوم أنه إنما أراد الطلاق المأذون فيه، وهو الطلاق للعدة، فدل على أن ما عداه ليس من الطلاق، فإنه حصر الطلاق المشروع المأذون فيه الذي يملك به الرجعة في مرتين، فلا يكون ما عداه طلاقًا، قالوا: ولهذا كان الصحابة- رضي الله عنهم يقولون: إنهم لا طاقة لهم بالفتوى في الطلاق المحرم، كما روى ابن وهب، عن جرير بن حازم، عن الأعمش، ان ابن مسعود رضي الله عنه قال: "من طلَّق كما أمره الله

ص: 16

فقد بين الله له، ومن خالف، فإنا لا نطيق خلافه" ولو وقع طلاق المخالف لم يكن الإفتاء به غير مطاق لهم، ولم يكن للتفريق معنى إذ كان النوعان واقعين نافذين.

وقال ابن مسعود رضي الله عنه أيضًا: من أتى الأمر على وجهه فقد بين الله له، وإلا فوالله ما لنا طاقة بكل ما تحدثون.

وقال بعض الصحابة- وقد سئل عن الطلاق الثلاث مجموعة-: من طلق كما أمر، فقد بين له، ومن لباس، تركناه وتلبيسه.

قالوا: ويكفي من ذلك كله ما رواه أبو داود بالسند الصحيح الثابت: حدثنا أحمد ابن صالح، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا ابن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير أنه سمع عبد الرحمن بن أيمن مولى عروة يسأل أبن عمر قال أبو الزبير وأنا أسمع: كيف ترى في رجل طلق أمرأته حائضًا؟ فقال: طلق ابن عمر امرأته حائضًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عمر عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن عبد الله بن عمر طلق امرأته وهي حائض، قال عبد الله: فردها علي ولم يرها شيئًا، وقال:"إذا طهرت فليطلق أو ليمسك"، قال ابن عمر: وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن} في قبل عدتهن، قالوا: وهذا إسناد في غاية الصحة، فإن أبا الزبير غير مدفوع عن الحفظ والثقة، وإنما يخشى من تدليسه، فإذا قال: سمعت، أو حدثني، زال محذور التدليس، وزالت العلة المتوهمة، وأكثر أهل الحديث يحتجون به إذا قال:"عن" ولم يصرح بالسماع، ومسلم يصحح ذلك من حديثه، فأما إذا صرح بالسماع فقد زال الإشكال، وصح الحديث، وقامت الحجة.

قالوا: ولا نعلم في خبر أبي الزبير هذا ما يوجب رده، وإنما رده من رده استبعادًا واعتقادًا أنه خلاف الأحاديث الصحيحة، ونحن نحكي كلام من رده، ونبين أنه ليس فيه ما يوجب الرد.

قال أبو داود: والأحاديث كلها على خلاف ما قال أبو الزبير.

وقال الشافعي: ونافع أثبت عن ابن عمر من أبي الزبير، والأثبت من الحديثين أولى أن يقال به إذا خالفه.

وقال الخطابي: حديث يونس بن جبير أثبت من هذا يعني: قوله: "مره فليراجعها"، وقوله:"أرأيت إن عجز واستحمق؟ " قال: "فمه".

قال ابن عبد البر: وهذا لم ينقله عنه أحد غير أبي الزبير، وقد رواه عنه جماعة أجلة، فلم يقل ذلك أحد منهم، وأبو الزبير ليس بحجة فيما خالفه فيه مثله، فكيف بخلاف من هو أثبت منه؟ !

ص: 17

وقال بعض أهل الحديث: لم يرو أبو الزبير حديثًا أنكر من هذا.

فهذا جملة ما ردَّ به خبر أبي الزبير، وهو عند التأمل لا يوجب رده ولا بطلانه.

أما قول أبي داود: الأحاديث كلها على خلافه، فليس بأيديكم سوى تقليد أبي داود، وأنتم لا ترضون ذلك، وتزعمون أن الحجة من جانبكم، فدعوا التقليد، وأخبرونا أين في الأحاديث الصحيحة ما يخالف حديث أبي الزبير؟ فهل فيها حديث واحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتسب عليه تلك الطلقة، وأمره أن يعتد بها، فإن كان ذلك، فنعم والله هذا خلاف صريح لحديث أبي الزبير، ولا تجدون إلى ذلك سبيلًا، وغاية ما بأيديكم "مره فليراجعها"، والرجعة تستلزم وقوع الطلاق، وقول ابن عمر، وقد سئل: أتعتد بتلك التطليقة؟ فقال: "أرأيت إن عجز واستحمق"، وقول نافع أو من دونه:"فحسبت من طلاقها"، وليس وراء ذلك حرف واحد يدل على وقوعها والاعتذاد بها، ولا ريب في صحة هذه الألفاظ ولا مطعن فيها، وإنما الشأن كل الشأن في معارضتها، لقوله:"فردها علي ولم يرها شيئا"، وتقديمها عليه، ومعارضتها لتلك الأدلة المتقدمة التي سقناها، وعند الموازنة يظهر التفاوت، وعدم المقاومة، ونحن نذكر ما في كلمة كلمة منها.

أما قوله: "مره فليراجعها"، فالمراجعة قد وقعت في كلام الله ورسوله على ثلاثة معان: أحدها: ابتداء النكاح، كقوله تعالى:{فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله} [البقرة: 230]. ولا خلاف بين أحد من أهل العلم بالقرآن أن المطلق هاهنا: هو الزوج الثاني، وأن التراجع بينها وبين الزوج الأول، وذلك نكاح مبتدأ.

وثانيهما: الرد الحسي إلى الحالة التي كان عليها أولًا، كقوله: لأبي النعمان بن بشير لما نحل ابنه غلامًا خصه به دون ولده: "رده"، فهذا رد ما لم تصح فيه الهبة الجائزة التي سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم جور، وأخبر أنها لا تصلح، وأنها خلاف العدل، كما سيأتي تقريره إن شاء الله تعالى.

ومن هذا قوله لمن فرق بين جارية وولدها في البيع، فنهاه عن ذلك وردَّ البيع، وليس هذا الرد مستلزمًا لصحة البيع، فإنه بيع باطل، بل هو رد شيئين إلى حالة اجتماعهما كما كانا، وهكذا الأمر بمراجعة ابن عمر امرأته ارتجاع ورد إلى حالة الاجتماع كما كانا قبل الطلاق، وليس في ذلك ما يقتضي وقوع الطلاق في الحيض ألبتة.

وأما قوله: "أرأيت إن عجز واستحمق"، فيا سبحان الله! أين البيان في هذا اللفظ بأن تلك الطلقة حسبها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والأحكام لا تؤخذ بمثل هذا، ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حسبها عليه، واعتد عليه بها لم يعدل عن الجواب بفعله وشرعه إلى: أرأيت، وكان ابن عمر أكره ما إليه "أرأيت"، فكيف يعدل للسائل عن صريح السنة إلى لفظة "أرأيت".

الدالة على نوع من الرأي سببه عجز المطلق وحمقه عن إيقاع الطلاق على الوجه الذي أذن الله

ص: 18

له فيه، والأظهر فيما هذه صفته أنه لا يعتد به، وأنه ساقط من فعل فاعله، لأنه ليس في دين الله تعالى حكم نافذ سببه العجز والحمق عن امتثال الأمر، إلا أن يكون فعلًا لا يمكن رده بخلاف العقود المحرمة التي من عقدها على الوجه المحرم، فقد عجز واستحمق، وحينئذٍ، فيقال: هذا أدل على الرد منه على الصحة واللزوم، فإنه عقد عاجز أحمق على خلاف أمر الله ورسوله، فيكون مردودًا باطلًا، فهذا الرأي والقياس أدل على بطلان طلاق من عجز وأستحمق منه على صحته واعتباره.

وأما قوله: "فحسبت من طلاقها"، ففعل مبني لما لم يسم فاعله، فإذا سمي فاعله ظهر وتبين، هل في حسبانه حجة أو لا؟ وليس في حسبان الفاعل المجهول دليل ألبتة، وسواء كان القائل:"فحسبت" ابن عمر أو نافعًا أو من دونه، وليسري فيه بيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي حسبها حتى تلزم الحجة به، وتحرم مخالفته، فقد تبين أن سائر الأحاديث لا تخالف حديث أبي الزبير، وأنه صريح في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرها شيئًا، وسائر الأحاديث مجملة لا بيان فيها.

قال الموقعون: لقد ارتقيتم أيها المانعون مرتقى صعبًا، وأبطلتم أكثر طلاق المطلقين، فإن غالبه طلاق بدعي، وجاهرتم بخلاف الأئمة، ولم تتحاشوا خلاف الجمهور، وشذذتم بهذا القول الذي أفتى جمهور الصحابة ومن بعدهم بخلافه، والقرآن والسنن تدل على بطلانه، قال تعالى:{فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره} ، وهذا يعمُّ كل طلاق، وكذلك قوله:{والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروءٍ} [البقرة: 238]، ولم يفرق، وكذلك قوله تعالى:{الطلاق مرتان} ، وقوله:{وللمطلقات متاع} [البقرة: 241]. وهذه مطلقة وهي عمومات لا يجوز تخصيصها إلا بنص أو إجماع.

قالوا: وحديث ابن عمر دليل على وقوع الطلاق المحرم من وجوه:

أحدها: الأمر بالمراجعة، وهي لمُّ شعث النكاح، وإنما شعته وقوع الطلاق.

الثاني: قول ابن عمر: "فراجعتها، وحسبت لها التطليقة التي طلقها".

وكيف يظن بابن عمر أنه يخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحسبها من طلاقها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرها شيئًا؟ !

الثالث: قول ابن عمر لما قيل له: أيحتسب بتلك التطليقة؟ قال: أرأيت إن عجز واستحمق، أي: عجزه وحمقه لا يكون عذرًا له في عدم احتسابه بها.

الرابع: أن ابن عمر قال: وما يمنعني أن أعتاد بها، وهذا إنكار منه لعدم الاعتداد بها، وهذا يبطل تلك اللفظة التي رواها عنه أبو الزبير، إذ كيف يقول ابن عمر: وما يمنعني أن أعتد بها، وهو يرى رسول الله قد ردها عليه ولم يرها شيئا؟ !

ص: 19

الخامس: أن مذهب ابن عمر الاعتداد بالطلاق في الحيض، وهو صاحب القصة، وأعلم الناس بها، وأشدهم اتباعًا للسنن، وتحرجًا من مخالفتها، قالوا: وقد روى ابن وهب في "جامعه"، حدثنا ابن أبي ذئب، أن نافعًا أخبرهم عن ابن عمر، أنه طلق امرأته وهي حائض، فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: ومره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد ذلك، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء وهي واحدة". هذا لفظ حديثه.

قالوا: وروى عبل الرزاق، عن ابن جريج قال: أرسلنا إلى نافع وهو يترجل في دار الندوة ذاهبًا إلى المدينة، ونحن مع عطاء: هل حسبت تطليقة عبد الله بن عمر امرأته حائضًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم.

قالوا: وروى حماد بن زيد، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من طلق في بدعة ألزمناه بدعته"، رواه عبد الباقي بن قانع، عن زكريا الساجي حدثنا إسماعيل بن أمية الذارع حدثنا حماد فذكره.

قالوا: وقد تقدم مذهب عثمان بن عفان، وزيد بن ثابت في فتواهما بالوقوع.

قالوا: وتحريمه لا يمنع ترتب أثره وحكمه علية كالظهار، فإنه منكر من القول وزور، وهو لا محرم بلا شك، وترتب أثره عليه وهو تحريم الزوجة إلى أن يكفر، فهكذا الطلاق البدعي محرم، ويترتب عليه أثره إلى أن يراجع، ولا فرق بينهما.

قالوا: وهذا ابن عمر يقول للمطلق ثلاثًا: حرمت عليك حتى تنكح زوجا غيرك، وعصيت ربك فيما أمرك به من طلاق أمرأتك، فأوقع عليه الطلاق الذي عصى به المطلق ربه عز وجل.

قالوا: وكذلك القذف محرم، وترتب عليه أثره من الحد، ورد الشهادة وغيرهما.

قالوا: والفرق بين النكاح المحرم، والطلاق المحرم: أن النكاح عقد يتضمن حل الزوجة وملك بضعها، فلا يكون إلا على الوجه المأذون فيه شرعًا، فإن الأبضاع في الأصل على التحريم، ولا يباح منها إلا ما أباحه الشارع، بخلاف الطلاق، فإنه إسقاط لحقه، وإزالة لملكه، وذلك لا يتوقف على كون السبب المزيل مأذونًا فيه شرعًا، كما يزول ملكه عن العين بالإتلاف المحرم، وبالإقرار الكاذب، وبالتبرع المحرم كهبتها لمن يعلم أنه يستعين بها على المعاصي والآثام

ص: 20

قالوا: والإيمان أصل العقود وأجلها وأشرفها، يزول بالكلام المحرم إذا كان كفرًا، فكيف لا يزول عقد النكاح بالطلاق المحرم الذي وضع لإزالته؟ !

قالوا: ولو لم يكن معنا في المسألة إلا طلاق الهازل، فإنه يقع مع تحريمه؛ لأنه لا يحل له الهزل بآيات الله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"ما بال أقوام يتخذون آيات الله هزوًا: طلقتك راجعتك، طلقتك راجعتك" فإذا وقع طلاق الهازل مع تحريمه، فطلاق الجاد أولى أن يقع مع تحريمه.

قالوا: وفرق آخر بين النكاح المحرم، والطلاق المحرم، أن النكاح نعمة، فلا تستباح بالمحرمات، وإزالته وخروج البضع عن ملكه نقمة، فيجوز أن يكون سببها محرمًا.

قالوا: وأيضًا فإن الفروج يحتاط لها، والاحتياط يقتضي وقوع الطلاق، وتجديد الرجعة والعقد.

قالوا: وقد عهدنا النكاح لا يدخل فيه إلا بالتشديد والتأكيد من الإيجاب والقبول، والولي والشاهدين، ورضا الزوجة المعتبر رضاها، ويخرج منه بأيسر شيء، فلا يحتاج الخروج منه إلى شيء من ذلك، بل يدخل فيه بالعزيمة، ويخرج منه بالشبهة، فأين أحدهما من الآخر حتى يقاس عليه؟ !

قالوا: ولو لم يكن بأيدينا إلا قول حملة الشرع كلهم قديمًا وحديثًا: طلق امرأته وهي حائض، والطلاق نوعان: طلاق سنة، وطلاق بدعة، وقول ابن عباس رضي الله عنه: الطلاق على أربعة أوجه: وجهان حلال، ووجهان حرام، فهذا الإطلاق والتقسيم دليل على أنه عندهم طلاق حقيقة، وشمول اسم الطلاق له كشموله للطلاق الحلال، ولو كان لفظا مجردًا لغوا لم يكن له حقيقة، ولا قيل: طلق امرأته، فإن هذا اللفظ إذا كان لغوًا كان وجوده كعدمه، ومثل هذا لا يقال فيه: طلق، ولا يقسم الطلاق- وهو غير واقع- إليه وإلى الواقع، فإن الألفاظ اللاغية التي ليس لها معان ثابتة لا تكون هي ومعانيها قسمًا من الحقيقة الثابتة لفظًا، فهذا أقصى ما تمسك به الموقعون، وربما ادعى بعضهم الإجماع لعدم علمه بالنزاع.

قال المانعون من الوقوع: الكلام معكم في ثلاث مقامات بها يستبين الحق من المسألة:

المقام الأول: بطلان ما زعمتم من الإجماع، وأنه لا سبيل لكم إلى إثباته ألبتة، بل العلم بانتفائه معلوم.

وقد ذكر رحمه الله من قبل أسماء من خالف في وقوع الطلاق وقالوا: إنه لا يصح.

المقام الثاني: أن فتوى الجمهور بالقول لا يدل على صحته، وقول الجمهور ليس بحجة.

ص: 21

من أين يؤخذ؟ من قوله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول

} [النساء: 59]. ولم يقل- سبحانه وتعالى فإن تنازعتم في شيء فخذوا بالأكثر قال: {فردوه إلى الله والرسول

} وعلى هذا لو كان عشرة في المائة وافقوا ما قال الله ورسوله والتسعون في المائة خالفوا فالحق مع العشرة.

المقام الثالث: أن الطلاق المحرم لا يدخل تحت نصوص الطلاق المطلقة التي رتب الشارع عليها أحكام الطلاق، فإن ثبتت لنا هذه المقامات الثلاث، كنا أسعد بالصواب منكم في المسألة.

وهذا الوصف هذا هو الذي اتفق عليه الفقهاء أن المطلق الشرعي لا يدخل في المجرم؛ ولهذا قالوا: إذا حلف ألا يبيع فباع بيعًا محرمًا كالخمر فإنه لا يحنث مع أن بيع الخمر يسمى بيعًا لغة لكن المطلق ينصرف إلى الشيء الصحيح وكذلك لو باع ميتةً أو خنزيرًا وما أشبه ذلك، أو مجهولًا أو فيه غرزٌ فإنه لا يدخل في قوله تعالى:{وأحل الله البيع} [البقرة: 275]. وأن المطلق في لسان الشرع يحمل على الصحيح ولا يتناول المحرم فالطلاق الذي أباحه الله عز وجل رتب عليه أحكامًا إنما يحمل على الطلاق الصحيح المباح، أما المحرم فلا تترتب عليه أحكام وهذه القاعدة متَّفقٌ عليها لكن قد يختلف العلماء في بحض مسائلها لاختلاف وجهات النظر.

فالطلاق المحرم إذا أجريناه على هذه القاعدة انطبق تمامًا على قول من يرى أنه لا يقع لأن إيقاعنا إياه شبه مضادة لله عز وجل فإن الله لم ينه عنه إلا من أجل أن نتجنبه وألا نعتد به، فإذا نحن اعتدادنا به وقلنا إنه يقع فهل انتهينا؟ ما انتهينا، بل إننا نفذنا خلاف مقصود الشرع بإعدامه وعدم الالتفات إليه، وسيذكر ابن القيم رحمه الله تتمة البحث.

فنقول: أما المقام الأول، فقد تقدم من حكاية النزاع ما يعلم معه بطلان دعوى الإجماع، كيف ولو لم يحلم ذلك، لم يكن لكم سبيل إلى إثبات الإجماع الذي تقوم به الحجة، وتنقطع معه المعذرة، وتحرم معه المخالفة، فإن الإجماع الذي ذلك هو الإجماع القطعي المعلوم.

الإجماع الذي يوجب ذلك، يعني: يوجب أن يكون حجة وأن تحذروا مخالفته هو ما جمع هذه الألفاظ: القطعي المعلوم وإذا أخذنا بهذا الإنكار نجد مسائل مجمعًا عليها إلا مسائل نادرة يسيرة، ثم إن الإجماع الذي على هذا الشكل أي أنه قطعي معلوم لا بد أن يكون فيه

ص: 22

نصوص فيكون معتمدًا على هذه النصوص لكن أحيانًا يغيب عن المستدل النص أو لا يطلع عليه فيكتفي بالإجماع المعلوم القطعي ويكون هذا دليله.

وأما المقام الثاني: وهو أن الجمهور على هذا القول، فأوجدونا في الأدلة الشرعية أن قول الجمهور حجة مضافة إلى كتاب الله وسنة رسوله، وإجماع أمته.

ومن تأمل مذاهب العلماء قديمًا وحديثًا من عهد الصحابة وإلى الآن، واستقرأ أحوالهم وجدهم مجمعين على تسويغ خلاف الجمهور، ووجد لكل منهم أقوالًا عديدة انفرد بها عن الجمهور، ولا يستثنى من ذلك أحد قط، ولكن مستقلٌّ ومستكثر، فمن شئتم سميتموه من الأئمة تتبعوا ما له من الأقوال التي خالف فيها الجمهور، ولو تتبعنا ذلك وعددناه، لطال الكتاب به جدًّا، ونحن نحيلكم على الكتب المتضمنة لمذاهب العلماء واختلافهم، ومن له معرفة بمذاهبهم وطرائقهم يأخذ إجماعهم على ذلك من اختلافهم، ولكن هذا في المسائل التي يسوع فيها الاجتهاد، ولا تدفعها السنة الصحيحة الصريحة، وأما ما كان هذا سبيله، فإنهم كالمتفقين على إنكاره ورده، وهذا هو المعلوم من مذاهبهم في الموضعين.

وأما المقام الثالث: وهو دعوكم دخول الطلاق المحرم تحت نصوص الطلاق، وشمولها للنوعين إلى آخر كلامكم، فنسألكم: ما تقولون فيمن ادعى دخول أنواع البيع المحرم، والنكاح المحرم تحت نصوص البيع والنكاح، وقال: شمول الاسم للصحيح من ذلك والفاسد سواء، بل وكذلك سائر العقود المحرمة إذا ادعى دخولها تحت ألفاظ العقود الشرعية، وكذلك العبادات المحرمة المنهي عنها إذا ادعى دخولها تحت الألفاظ الشرعية، وحكم لها بالصحة لشمول الاسم لها.

البيوع" مثلنا لها مثل: بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام والغرر، أما العبادات فلو صادف يوم العيد يوم الاثنين، وقال شخص: إن النبي صلى الله عليه وسلم حثَّ على صوم يوم الإثنين فأصوم فهل يدخل في هذا؟ نقول: إن صمت لا يصح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يوم العيد كذلك الطلاق لو طلقت في الحيض لم يقع لأن الله قال: {فطلقوهن لعدتهن} .

هل تكون" دعواه صحيحة أو باطلة؟ فإن قلتم: صحيحة ولا سبيل لكم إلى ذلك، كان قولًا معلوم الفساد بالضرورة من الدين، وإن قلتم: دعواه باطلة تركتم قولكم ورجعتم إلى ما قلناه، وان قلتم: تقيل في مواضع وترد في موضع قيل لكم: ففرقوا بفرقان صحيح مطرد منعكس،

ص: 23

معكم به برهان من الله بين ما يدخل من العقود المحرمة تحت ألفاظ النصوص، فيثبت له حكم الصحة، وبين ما يدخل من تحتها، فيثبت له حكم البطلان، وإن عجزتم عن ذلك، فاعلموا أنه ليس بأيديكم سوى الدعوى التي يحسن كل أحد مقابلتها بمثلها، أو الاعتماد على من يحتج لقوله لا بقوله.

كلمة عظيمة من يحتج لقوله لا بقوله، فإذا قال الإنسان هذا قول الإمام أحمد قلنا الإمام أحمد يحتج لقوله ولا يحتج بقوله ليس أحد من البشر يحتج بقوله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من أمرنا باتباعه كالخلفاء الراشدين مثلًا.

وإذا كشف الغطاء عما قررتموه في هذه الطريق وجد عين محل النزاع فقد جعلتموه مقدمة في الدليل، وذلك عين المصادرة على المطلوب، فهل وقع النزاع إلا في دخول الطلاق المحرم المنهي عنه تحت قوله:{والمطلقات متاع} ، وتحت قوله:{والمطلقات يتربصن بأنفسهنّ ثلاثة قروء} ، وأمثال ذلك، وهل سلم لكم منازعوكم قط ذلك حتى تجعلوه مقدمة لدليلكم؟

قالوا: وأما استدلالكم بحديث ابن عمر، فهو إلى أن يكون حجة عليكم أقرب منه إلى أن يكون حجة لكم من وجوه:

أحدها: صريح قوله: فردها عليَّ ولم يرها شيئا، وقد تقدم بيان صحته.

قالوا: فهذا الصريح الصحيح ليس بأيديكم ما يقاومه في الموضعين، بل جميع تلك الألفاظ إما صحيحة غير صريحة، وإما صريحة غير صحيحة كما ستقفون عليه.

الثاني: أنه قد صح عن ابن عمر رضي الله عنه بإسناد كالشمس من رواية عبيد الله، عن نافع عنه، في الرجل يطلق امرأته وهي حائض، قال: لا يعتد بذلك وقد تقدم.

الثالث: أنه لو كان صريحًا في الاعتداد به، لما عدل به إلى مجرد الرأي، وقوله للسائل: أرأيت؟

الرابع: أن الألفاظ قد اضطربت عن ابن عمر في ذلك اضطرابًا شديدًا، وكلها صحيحة عنه، وهذا يدل على أنه لم يكن عنده نص صريح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقوع تلك الطلقة والاعتداد بها، وإذا تعارضت تلك الألفاظ نظرنا إلى مذهب ابن عمر، وفتواه، فوجدناه صريحًا في عدم الوقوع، ووجدنا أحد ألفاظ حديثه صريحًا في ذلك، فقد اجتمع صريح روايته وفتواه على عدم الاعتداد، وخالف في ذلك ألفاظ مجملة مضطربة، كما تقدم بيانه.

ص: 24

وأما قول ابن عمر رضي الله عنه: "وما لي لا أعتد بها"، وقوله:"أرأيت إن عجز واستحمق"، فغاية هذا أن يكون رواية صريحة عنه بالوقوع، ويكون عنه روايتان.

وقولكم: كيف يفتي بالوقوع وهو يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ردها عليه ولم يعتد عليه بها؟ فليس هذا بأول حديث خالفه راويه، وله بغيره من الأحاديث التي خالفها راويها أسوة حسنة في تقديم رواية الصحابي ومن بعده على رأيه.

وهذه قاعدة مضطردة عند العلماء أن العبرة بما روى لا بما رأى وذلك لأن ما رواه خبر عن معصوم وهو ممن يقبل خبره وما رآه فهو رأي قابل للخطأ وقابل للصواب فلذلك كان العبرة بما روى لا بما رأى وأظنه قد ألف بعض العلماء كتابًا سماه: "مخالفة الصحابي فيما رأى لمًا روى".

وقد روى ابن عباس حديث بريرة، وأن بيع الأمة ليس بطلاقها، وأفتى بخلافه، فأخذ الناس بروايته، وتركوا رأيه، وهذا هو الصواب، فإن الرواية معصومة عن معصوم، والرأي بخلافها، كيف وأصرح الروايتين عنه- أي: عن ابن عمر- موافقته لما رواه من عدم الوقوع على أن في هذا فقهًا دقيقًا إنما يعرفه من له غور على أقوال الصحابة ومذاهبهم، وفهمهم عن الله ورسوله، واحتياطهم للأمة، ولعلك تراه قريبًا عند الكلام على حكمه صلى الله عليه وسلم في إيقاع الطلاق الثلاث جملة.

وأما قوله في حديث ابن وهب عن ابن أبي ذئب في آخره: "وهي واحدة"، فلعمر الله لو كانت هذه اللفظة من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قدمنا عليها شيئًا، ولصرنا إليها بأول وهلة، ولكن لا ندري أقالها ابن وهب من عنده، أم ابن أبي ذئب، أم نافع؟ ! فلا يجوز أن يضاف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا يتيقن أنه من كلامه، ويشهد به عليه، وترتب عليه الأحكام، ويقال: هذا من عند الله بالوهم والاحتمال، والظاهر أنها من قول من دون ابن عمر رضي الله عنه، ومراده بها: أن ابن عمر إنما طلقها طلقة واحدة، ولم يكن ذلك منه ثلاثًا، أي: طلق ابن عمر رضي الله عنه امرأته واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره.

وأما حديث ابن جريج عن عطاء عن نافع، أن تطليقة عبد الله حسبت عليه، فهذا غايته أن يكون من كلام نافع، ولا يعرف من الذي حسبها، أهو عبد الله نفسه، أو أبوه عمر، أو رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ولا يجوز أن يشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوهم والحسبان، وكيف يعارض صريح قوله:"ولم يرها شيئًا" بهذا المجمل؟ والله يشهد- وكفى بالله شهيدًا- أنا لو تيقنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي حسبها عليه، لم نتعد ذلك، ولم نذهب إلى سواه.

ص: 25

وأما حديث أنس: "من طلق في بدعة ألزمناه بدعته"، فحديث باطل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نشهد بالله أنه حديث باطل عليه، ولم يروه أحد من الثقات من أصحاب حماد بن زيل، وإنما هو من حديث إسماعيل بن أمية الذارع الكذاب الذي يذرع ويفصل، ثم الراوي له عند عبد الباقي بن قانع، وقد ضعَّفه البرقاني وغيره، وكان قد اختلط في آخر عمره، وقال الدارقطني: يخطئ كثيرًا، ومثل هذا إذا تفرد بحديث لم يكن حديثه حجة.

وأما إفتاء عثمان بن عفان وزيد بن ثابت رضي الله عنه بالوقوع، فلو صح ذلك- ولا يصح أبدًا-، فإن أثر عثمان، فيه كذاب عن مجهول لا يعرف عينه ولا حاله، فإنه من رواية ابن سمعان، عن رجل، وأثر زيد: فيه مجهول عن مجهول: قيس بن سعد، عن رجل سمَّاه عن زيد، فيالله العجب، أين هاتان الروايتان من رواية عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، عن عبيد الله حافظ الأمة، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال: لا يعتد بها، فلو كان هذا الأثر من قبلكم لصلتم به وجلتم.

وأما قولكم: إن تحريمه لا يمنع ترتب أثره عليه، كالظهار فيقال أولًا: هذا قياس يدفعه ما ذكرناه من النص، وسائر تلك الأدلة التي هي أرجح منه، ثم يقال ثانيًا: هذا معارض بمثله سواء معارضة القلب بأن يقال: تحريمه يمنع ترتب أثره عليه كالنكاح، ويقال ثالثًا: ليسر للظهار جهتان: جهة حل وجهة حرمة، بل كله حرام، فإنه منكر من القول وزور، فلا يمكن أن ينقسم إلى حلال جائز، وحرام باطل، بل هو بمنزلة القذف من الأجنبي والرِّدة، فإذا وجد لم يوجد إلا مع مفسدته، فلا يتصور أن يقال: منه حلال صحيح، وحرام باطل، بخلاف النكاح والطلاق والبيع، فالظهار نظير الأفعال المحرمة التي إذا وقعت قارنتها مفاسدها فترتبت عليها أحكامها، وإلحاق الطلاق بالنكاح، والبيع والإجارة والعقود المنقسمة إلى حلال وحرام، وصحيح وباطل أولى.

قالوا: إن الطلاق المحرم تترتب عليه آثاره كالظهار، الظهار محرم منكر من القول وزور تترتب عليه أحكامه، قالوا: فالطلاق المحرم تترتب عليه آثاره كالظهار، ابن القيم يقول: المحرم الذي تترتب عليه آثاره ليس له إلا جهة واحدة جهة التحريم، وأما ما له جهتان: جهة حل وجهة حرمة وجهة صحة وجهة فساد؛ فهذا إن وقع على الوجه الذي يكون حلالًا صحيحًا نفذ، وإن وقع على الذي يكون حرامًا باطلًا بطل؛ لأننا لو لم نقل في ترتب أثر الظهار عليه لم يبق له حكم هو جهة واحدة فقط، كالقذف إذا قذف رجلٌ رجلًا بالزنا فحله حل القذف، ولا نقول: هذا حرام ولا يترتب عليه أثره، نقول: ليس فيه جهة حلال حتى نحمل الحلال على الصحة والحرام على البطلان وهذا واضح، ولكن عند المناظرات ولا سيما إذا كان المناظر قويًّا وصرخ في وجه صاحبه فإن الثاني يسقط في يده ويخاف ويعجز أن يأتي بالفروق الدقيقة كهذه.

ص: 26

وأما قولكم: إن النكاح عقد يملك به البضع، والطلاق عقد يخرج به، فنعم، من أين لكم برهان من الله ورسوله بالفرق بين العقدين في اعتبار حكم أحدهما، والإلزام به وتنفيذه، وإلغاء الاخر وإبطاله؟

وأما زوال ملكه عن العين بالإتلاف المحرم، فذلك ملك قد زال حسًّا، ولم يبق له محل، وأما زواله بالإقرار الكاذب، فأبعد وأبعد، فإنا صدقناه ظاهرًا في إقراره، وأزلنا ملكه بالإقرار المصدق فيه وإن كان كاذبا.

وأما زوال الإيمان بالكلام الذي هو كفر، فقد تقدم جوابه، وأنه ليس في الكفر حلال وحرام.

وأما طلاق الهازل فإنما وقع؛ لأنه صادف محلًّا، وهو طهر لم يجامع فيه فنفذ، وكونه هزل به إرادة منه ألا يترتب أثره عليه، وذلك ليس إليه، بل إلى الشارع، فهو قد أتى بالسبب التام، وأراد ألا يكون مسببه، فلم ينفعه ذلك، بخلاف من طلق في غير زمن الطلاق، فإنه لم يأت بالسبب الذي نصبه الله سبحانه مفضيا إلى وقوع الطلاق، وإنما أتى بسبب من عنده، وجعله هو مفضيًا إلى حكمه، وذلك ليس إليه.

وأما قولكم: إن النكاح نعمة، فلا يكون سببه إلا طاعة بخلاف الطلاق فإنه من باب إزالة النعم، فيجوز أن يكون سببه معصية، فيقال: قد يكون الطلاق من أكبر النعم التي يفك بها المطلق الغل من عنقه، والقيل من رجله، فليس كل طلاق نقمة، بل من تمام نعمة الله على عباده أن مكنهم من المفارقة بالطلاق إذا أراد أحدهم استبدال زوج مكان زوج، والتخلص ممن لا يحبها ولا يلائمها، فلم ير للمتاحبين مثل النكاح، ولا للمتباغضين مثل الطلاق، ثم كيف يكون نقمة والله تعالى يقول:{لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن} [البقرة: 236]. ويقول: {يأيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق: 1]؟ !

وأما قولكم: إن الفروج يحتاط لها، فنعم، وهكذا قلنا سواء، فإنا احتطنا، وأبقينا الزوجين على يقين النكاح حتى يأتي ما يزيله بيقين، فإذا أخطأنا فخطؤنا في جهة واحدة، وإن أصبنا فصوابنا في جهتين: جهة الزوج الأول، وجهة الثاني، وأنتم ترتكبون أمرين: تحريم الفرج على من كان حلالًا له بيقين، وإحلاله لغيره، فإن كان خطأ، فهو خطأ من جهتين، فتبين أنَّا أولى بالاحتياط منكم، وقد قال الإمام أحمد في رواية أبي طالب: في طلاق السكران نظير هذا الاحتياط سواء، فقال: الذي لا يأمر بالطلاق: إنما أتى خصلة واحدة، والذي يأمر بالطلاق أتى خصلتين حرمها عليه، وأحلها لغيره، فهذا خير من هذا.

ص: 27

يعني إذا قلنا: إن الطلاق لا يقع فقد احتطنا من جهتين: من جهة أننا أبقيناها لزوجها الأول والأصل بقاء النكاح، ومن جهة أنِّا حرمناها على غيره، لكن لو أوقعنا احتطنا من جهة واحدة أننا حرمناها على زوجها لكن أحللناها لغيره وهذا انتهاك فرج، ونظير هذا طلاق السكران كان الإمام أحمد يرى أن السكران يقع طلاقه فقال: كنت أقول بوقوع طلاق السكران حتى تبينته يعني تأملته وتبين لي الأمر فرأيت أني إذا قلت بوقوع الطلاق أتيت خصلتين حرمتها على زوجها والثاني أحللتها لغيره وإني إذا قلت بعدم الوقوع أتيت خصلة واحدة وهي إحلالها لزوجها الذي هو الأصل خير من إحلالها لغير الذي هو خلاف الأصل وعلى هذا يكون الإمام أحمد رجع عن القول بوقوع طلاق السكران، ولعلكم تذكرون أننا قلنا: إن المذهب ينسب إلى الإنسان شخصيًّا وينسب إليه اصطلاحًا فما هو مذهب الإمام أحمد الاصطلاحي في هذه المسألة؟ وقوع طلاق السكران هذا هو مذهب الحنابلة لكن مذهبه الشخصي عدم الوقوع وقد صرح بالرجوع لو قال لا يقع وسكت لكان هذه رواية ثانية لكن صرح بالرجوع.

وأما قولكم: إن النكاح يدخل فيه بالعزيمة والاحتياط، ويخرج منه بأدنى شيء، قلنا: ولكن لا يخرج منه إلا بما نصبه الله سببَّا يخرج به منه، وأذن فيه: وأما ما ينصبه المؤمن عنده، ويجعله هو سببا للخروج منه، فكلا، فهذا منتهى أقدام الطائفتين في هذه المسألة الضيقة المعترك، الوعورة، المسلك، التي يتجاذب أعنة أدلتها الفرسان، وتتضاءل لدى صولتها شجاعة الشجعان، وإنما نبهنا على مأخذها وأدلتها ليعلم الغُّر الذي بضاعته من العلم مزجاة، أن هناك شيئًا آخر وراء ما عنده، وأنه إذا كان ممن كثر في العلم باعه، فضعف خلف الدليل، وتقاصر عن جني ثماره ذراعه، فليعذر من شمر عن ساق عزمه، وحام حول آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحكيمها، والتحاكم إليها بكل همة، وإن كان غير عاذر لمنازعة في قصوره ورغبته عن هذا الشأن البعيد، فليعذر منازعه في رغبته عما ارتضاه لنفسه من محض التقليد، ولينظر مع نفسه أيهما هو المعذور، وأي السعيين أحق بأن يكون هو السعي المشكور، والله المستعان وعليه التكلان، وهو الموفق للصواب، الفاتح لمن أمِّ بابه طالبًا لمرضاته من الخير كل باب.

ص: 28

ولكن يبقى النظر في مسألة يتلاعب بها الناس الآن: إذا طلق الإنسان زوجته آخر طلقة من الثلاث وجاء يبحث: يقول لعلي طلقتها أول طلقة وهي حائض من أجل أن يلغي الطلقة الأولى ويبقي له طلقة لأجل أن يرجع هذا أنا لا أعتبره ولا أقبله، وأقول: ما دمت طلقت أولًا على أن الطلاق نافذ بدليل أن المرأة التي طلقتها لو انقضت عدتها وتزوجت لم تذهب إلى زوجها وتقول: أرجع لي زوجتي فهذا هو الواقع بين الناس فأنت الآن لما ضاقت بك الأمور جئت تبحث عن الطلاق هل هو في حيض أو في طهر جامعتها؟ وهذا كما قال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين مفتي الديار النجدية في وقته قال: إن الإنسان إذا طلَّق ثلاثًا، ثم عجز عن مخارج ذهب يبحث عن عقد النكاح لعله مختل الشروط لعل أحد الشهود يشرب الدخان ولا كذا، ولا كذا لأجل أن يكون غير عدل ويكون النكاح بغير شهود فلا يكون صحيحًا وإذا لم يصح النكاح لم يصح الطلاق؛ لأن الطلاق لا يصح إلا بعد صحة النكاح، وحينئذ تكون الطلقة هذه لاغيه ويتزوجها من جديد يقول: هكذا يفعل بعض الناس يتحايلون فهذا الرجل الذي طلق زوجته قبل عشر سنوات في حيض وانقضت عدتها ثم تزوجها ثانيًا ثم طلقها في حيض أو في طهر جامع فيه، ثم انتهت عدتها ثم تزوجها بعقد جديد يشهدون الناس عليه ويحضر دون محفلًا ثم طلقها تمت الطلقات الثلاث جاء يسأل أنا طلقت الطلقة الأولى قبل عشر سنوات في حيض، طلقتها وانقضت العدة وعقدت عليها، كيف تعقد على امرأة وهي زوجتك؟ إذا كنت صادقا ففي هذه لا نفتي بأن الطلاق الأول لاغ أولًا: لأن قول الجمهور هو هذا، والثاني: أن هذا الرجل ملتزم بهذا القول، كيف الآن لما ضاقت به لحيل جاء يقول: أنا غير ملتزم وهذه من الأمور التي ينبغي للمفتي أن ينتبه لها سياسة الخلق بالحق، وهو أن الإنسان إذا ضاقت عليه الحيل ذهب يتطلب الرخص لعله يتخلص وإلا فشيء التزمت به ونحن نعلم علم اليقين أن زوجتك هذه لو تزوجت بعد انقضاء العدة ما طالبت الزوجة، فأنا على أنني أرى أن الطلاق في الحيض لا يقع إذا جاءني مثل هذه الحال أقول طلاقك نافذ وإذا كانت هذه آخر طلقة فلا رجوع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما رد زوجة ابن عمر لأنها في عدتها ما انتهت ثم إن زمن التشريع غير الوقت الحاضر زمن الوقت الحاضر ما نعلم هل الشرع حقيقة مع الجمهور أو مع شيخ الإسلام ابن تيمية؟ لكن في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم الشرع معلوم؛ لأن

ص: 29