المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مسألة إرضاع الكبير وأحكامها: - فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام ط المكتبة الإسلامية - جـ ٥

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

- ‌7 - باب الطلاق

- ‌تعريف الطلاق لغة وشرعًا:

- ‌ذكر المفاسد المترتبة على الطلاق:

- ‌حكم طلاق الحائض

- ‌المحرم من الطلاق:

- ‌اختلاف حكم الطلاق ثلاثة مجموعة في عهد عمر رضي الله عنه:

- ‌مسألة: هل يقع الطلاق بحديث النفس أو الوسوسة

- ‌حكم الطلاق الخطأ وطلاق المكره:

- ‌ثبوت الطلاق يترتب على ثبوت النكاح:

- ‌حكم طلاق الصغير والمجنون والسكران:

- ‌كتاب الرجعة

- ‌حكم الإشهاد في الطلاق والرجعة:

- ‌1 - باب الإيلاء والظهار والكفارة

- ‌حكم الإيلاء:

- ‌مدة الإيلاء:

- ‌حكم المجامع في رمضان:

- ‌كفارة الظهار:

- ‌2 - باب اللعان

- ‌تعريف اللعان:

- ‌3 - باب العدة والإحداد والاستبراء وغير ذلك

- ‌عدة الوفاة

- ‌عدة الطلاق وفسخ النكاح:

- ‌حكم السكنى والنفقة للمطلقة البائنة وعدتها:

- ‌حكم التطيب والحناء في الحداد:

- ‌حكم الكحل في الحداد:

- ‌حكم خروج المعتدة المطلقة:

- ‌حكم خروج المعتدة بعد وفاة زوجها من بيتها:

- ‌طلاق الأمة وعدتها:

- ‌الاستبراء وأحكامه:

- ‌أحكام امرأة المفقود في العدة وغيرها:

- ‌التحذير من الحلوة بالأجنبية:

- ‌أحكام السبايا في الاستبراء:

- ‌4 - باب الرضاع

- ‌تعريف الرضاع:

- ‌مسألة إرضاع الكبير وأحكامها:

- ‌يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب:

- ‌صفة الرضاع الذي يثبت به التحريم:

- ‌النهي عن استرضاع الحمقى:

- ‌5 - باب النفقات

- ‌أسئلة ومناقشة:

- ‌النفقة على الزوجة والأولاد وأحكامها:

- ‌النفقة على المملوك وأحكامها:

- ‌حكم النفقة على الحامل المتوفى عنها زوجها:

- ‌مسألة طلب المرأة الطلاق عند عجز زوجها عن النفقة:

- ‌النفقة على الوالدين وأحكامها:

- ‌6 - باب الحضانة

- ‌تعريف الحضانة:

-

- ‌كتاب الجنايات

- ‌تعريف الجنايات لغة وشرعًا:

- ‌حرمة دماء المسلمين وتعظيمها:

- ‌المعتدي جان يفعل به كما فعل:

- ‌حالات إباحة قتل المسلم:

- ‌حرمة الدماء:

- ‌القصاص من الحر للعبد:

- ‌حكم قود الوالد بولده:

- ‌حكم قتل المسلم بكافر:

- ‌حكم قتل المؤمن بمعاهد:

- ‌الجناية على النفس:

- ‌جناية الصغير والمجنون:

- ‌ترك القصاص في الجروح قبل البرء:

- ‌الجناية على الحمل:

- ‌العفو عن الجناية:

- ‌الجناية على النفس وأنواعها:

- ‌الاشتراك في الجناية:

- ‌قتل الجماعة بالواحد:

- ‌التخيير بين الدية والقصاص وشروطه:

- ‌1 - باب الديات

- ‌مقادير الدية في الجروح:

- ‌دية القتل الخطأ:

- ‌دية قتل العمد وشبه العمد:

- ‌إلحاق دية شبه العمد بالقتل الخطأ:

- ‌دية الأصابع والأسنان:

- ‌ضمان الطبيب:

- ‌دية الشجاج:

- ‌دية أهل الكتاب:

- ‌دية المرأة والرجل:

- ‌تغليظ الدية وضوابطه:

- ‌2 - باب دعوى الدم والقسامة

- ‌3 - باب قتال أهل البغي

- ‌تعريف البغي، وبيان أهل البغي بالتفصيل:

- ‌قتال من حمل السلاح على المسلمين:

- ‌عقوبة مفارقة الجماعة:

- ‌ضوابط معاملة البغاة:

- ‌الحث على الاجتماع ونبذ الفرقة:

- ‌4 - باب قتال الجانب وقتل المرتدِّ

- ‌جواز قتل الصائل:

- ‌سقوط الضمان في الدفاع عن النفس:

- ‌سقوط الضمان للمتطلع لبيوت المسلمين:

- ‌ضمان ما أتلفته المواشي:

- ‌قتل المرتد:

- ‌شروط قتل المرتد:

- ‌قُتل من سب النبي أو زوجاته أو أصحابه:

- ‌كتاب الحدود

- ‌مفهوم الحدود وحكمه:

- ‌1 - باب حد الزاني

- ‌حد الزاني غير المحصن:

- ‌حكم الجمع بين الجلد والرجم:

- ‌ثبوت الزنا بالإقرار:

- ‌وجوب التثبت في إثبات الزنا:

- ‌طرق ثبوت الزنا

- ‌حد الأمة الزانية:

- ‌السيد يقيم الحد على مملوكه:

- ‌تأجيل إقامة حل الزنا على الحامل:

- ‌تخفيف الحد على المريض الضعيف:

- ‌عقوبة اللواط:

- ‌الجمع بين الجلد والتغريب للزاني البكر:

- ‌لعنة المخنثين والمترجلات:

- ‌درء الحدود بالشبهات:

- ‌وجوب إقامة حد الزنا عند ثبوته:

- ‌2 - باب حدِّ القذف

- ‌اللعان:

- ‌حد المملوك القاذف:

- ‌3 - باب حدِّ السَّرقة

- ‌نصاب السرقة الموجب للقطع:

- ‌جحد العارية:

- ‌المختلس والمنتهب:

- ‌اشتراط الحرز لوجوب القطع:

- ‌ثبوت السرقة بالإقرار:

- ‌لا ضمان على السارق:

- ‌حكم الجمع بين الضمان والقطع:

- ‌الشفاعة في الحدةد، ضوابطها:

- ‌الشبهة أنواعها وشروط انتفائها:

- ‌4 - باب حدِّ الشَّارب وبيان المسكر

- ‌عقوبة شارب الخمر:

- ‌تجنب الضرب على الوجه:

- ‌الخمر بين الطهارة والنجاسة:

- ‌كل مسكر خمر:

- ‌حكم مزج الزبيب بالماء أو اللبن:

- ‌حكم التداوي بالمحرم:

- ‌حكم التداوي بالخمر:

- ‌5 - باب التعزيز وحكم الصَّائل

- ‌التعزيز بين الوجوب والاجتهاد:

- ‌إقالة العثرات وضوابطها:

- ‌حكم الصائل:

- ‌الدفاع عن النفس:

-

- ‌كتاب الجهاد

- ‌تعريف الجهاد لغة وشرعًا:

- ‌أقسام الجهاد:

- ‌وجوب جهاد الدفاع وشروطه:

- ‌شرط القدرة على الجهاد وضوابطه:

- ‌الترغيب في الجهاد في سبيل الله:

- ‌جهاد النساء:

- ‌تقديم بر الوالدين على الجهاد:

- ‌حكم الإقامة في دار الكفر:

- ‌الهجرة من دار الكفار وأحكامها:

- ‌وجوب الإخلاص في الجهاد:

- ‌جواز الهدنة:

- ‌حكم الإغارة بلا إنذار:

- ‌وصايا الرسول صلي الله عليه وسلم لأمراء الجيوش:

- ‌فائدة جواز الجزية من مشركي العرب:

- ‌التورية عند الغزو:

- ‌القتال أول النهار وأخره:

- ‌جواز قتل النساء والذرية عند التبييت:

- ‌لا يستعان بمشرك في الحرب:

- ‌النهي عن قتل النساء والصبيان في الحروب:

- ‌جواز قتل شيوخ المشركين:

- ‌المبارزة في الحروب:

- ‌الحمل على صفوف الكفار وضوبطه:

- ‌إتلاف أموال المحاربين:

- ‌النهي عن الغلول:

- ‌سلب القاتل:

- ‌الرمي بالمنجنيق:

- ‌جواز قتل المرتد في الحرم:

- ‌القتل صبرًا:

- ‌الأسير وأحواله:

- ‌إسلام الكافر ونتائجه:

- ‌معرفة الجميل لأهله:

- ‌النهي عن وطء المسبية حتى تستبرأ أو تضع:

- ‌تنفيل المجاهدين بعد قسمة الفيء:

- ‌سهم الفارس والفرس والراجل:

- ‌حكم التنفيل:

- ‌حكم الأخذ من طعام العدو قبل القسمة:

- ‌وجوب المحافظة على الفيء:

- ‌يجير على المسلمين أدناهم:

- ‌إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب:

- ‌إجلاء بني النضير من المدين

- ‌تقسيم غنائم خيبر:

- ‌لا يحبس الرسول صلى الله عليه وسلم الرسل ولا ينقض العهد:

- ‌حكم الأرض المفتوحة:

- ‌1 - باب الجزية والهدنة

- ‌أخذ الجزية من المجوس:

- ‌أخذ الجزية من العرب:

- ‌مقدار الجزية عن كل حالم:

- ‌علو الإسلام بالوقوف عند العمل به:

- ‌السلام على الكفار وحكمه:

- ‌صلح الحديبية:

- ‌النهي عن قتل المعاهد:

- ‌2 - باب السبق والرمي

- ‌السباق على الخف والحافر والنصل:

- ‌محلل السبَّاق:

- ‌شرعية التدريب على القوة:

الفصل: ‌مسألة إرضاع الكبير وأحكامها:

‌مسألة إرضاع الكبير وأحكامها:

1085 -

وعنها رضي الله عنه قالت: "جاءت سهلة بنت سهيل. فقالت: يا رسول الله، إنَّ سالمًا مولى أبي حذيفة معنا في بيتنا، وقد بلغ ما يبلغ الرِّجال. فقال: أرضعيه، تحرمي عليه". رواه مسلم.

قولها رضي الله عنها: "سهلة بنت سهيل" هي زوجة أبي حذيفة بن اليمان، وكان له مولى يقال له:

سالم تبناه، أي: وجعله أبنا له، وكانوا في الجاهلية يتبنى الواحد منهم من ليس له أحد من الموالي، بأن يتخذه ابنًا له كابنه من النسب، فنسخ الله عز وجل ذلك بقوله:{وما جعل أدعياءكم أبناءكم} ، وقال:{ادعوهم لأباءهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا أباءهم فإخوانكم في الدين وموليكم} [الأحزاب: 5]. فلا يجوز في الإسلام أن يتبنى أحد أحدا من الناس، وكانوا قال جعلوا هذا الرجل بمنزلة الابن يدخل عليهم ويخرج ويقضي حوائجهم، فلما تبين في الشرع أن الرضاعة لا تكون إلا بزمن معين جاءت تشتكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت:"إنه معنا في بيتنا وقد بلغ ما يبلغ الرجال"، فكأنها تقول: ما الحل لهذه المشكلة؟ فقال: "أرضعيه تحرمي عليه"، أي: تحرمي عليه نكاحا فتكوني من محارمه، وفي قوله:"تحرمي عليه" من حيث الاعراب نقول: إنه حذفت النون؛ لأنها مجزومة على أنها جواب الأمر في قوله: "أرضعيه".

ففي هذا الحديث: دليل على أن الرضاع محرم حتى الكبار؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أرضعيه تحرمي عليه"، وقد أخذ بذلك الظاهرية وقالوا: إن الرضاع محرم بلا عدد ولا زمن لإطلاقه في الآية: {وأمهاتكم الاتي أرضعنكم} ، ولحديث سالم مولى أبي حذيفة، وكانت عائشة إذا أرادت من أحد أن يدخل عليها تأمر أختها أسماء بنت أبي بكر أن ترضعه من أجل أن تكون عائشة خالة له فلا يجب عليها الحجاب عنه ولكن جمهور العلماء ومنهم أمهات المؤمنين سوى عائشة يقولون: إن هذا خاصٌّ بسالم مولى أبي حذيفة، ومنهم من يرى أنه منسوخ، ولكن تعلمون أن هاتين الدعويين تحتاجان إلى دليل، أما الخصوصية فالأصل تساوي الناس في الأحكام الشرعية ولا تقبل دعوى الخصوصية إلا بدليل فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو النبي- لا يقبل دعوى الخصوصية فيه في أي حكم من الأحكام إلا بدليل فما بالك بمن سواه؟ ! والنسخ كذلك يحتاج إلى دليل، لأنه لا بد أن نعلم أن هذا الحديث الناسخ متأخر، ومن يقول: إن قوله:

ص: 147

"إنما الرضاعة من المجاعة" متأخر عن قوله: "أرضعيه تحرمي عليه"؟ ومن يقول: إنه قال: "لا تحرم المصة والمصتان" بعد قوله: "أرضعيه تحرمي عليه"؟ حتى نقول: إن هذا الحديث يدل على أنه لا يشترط عدد ولا زمن ولكن ذهب بعض أهل العلم إلى أنه خاصٌّ بمولى أبي حذيفة على وجه دقيق وقال: إنه إذا وجد من حاله كحال هذا الرجل فإن حكم هذا الرجل يثبت له؛ لأن الأحكام الشرعية لا يمكن أن تخصص لأحد بعينه إلا بسبب، فإذا وجد هذا السبب في غيره ثبت للغير حكم التخصيص وقالوا: إن الحاجة تبيح إرضاع الكبير ليكون محرمًا، وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام أبن تيمية رحمه الله في موضع من كلامه، وقال: إن المرأة إذا احتاج الرجل إلى الدخول عليها دائمًا فإنها ترضعه ويكون ولذا لها؛ لأن سهلة بنت سهيل شكت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الحاجة وقال في موضع من كلامه إنه إذا وجدت حالة مثل حالة سالم من كل وجه ثبت الحكم وإلا فلا وهذا الأخير هو الصحيح وقوله: الأول أنه مطلق الحاجة مردود بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إياكم والدخول على النساء" قالوا: يا رسول الله، أرأيت الحمو؟ قال:"الحمو الموت"، ولو كان الإرضاع المطلق الحاجة مثبتًا للمحرمية لقال: الحمو ترضعه زوجة قريبه ويزول المحذور فلما لم يقل ذلك مع دعاء الحاجة إليه علم أن مطلق الحاجة لا يثبت به حكم الرضاع إذا أخذنا بالقول الثاني من قولي شيخ الإسلام رحمه الله، فإن الحالة التي صارت لسالم لا يمكن أن توجد؛ لأن سالمًا كان متبنَّى ومتخذًا ابنا كابن النسب لا يحتشمون عنه بأي شيء من الأشياء وكان قد داخلهم مداخلة كاملة ففي هذه الحال يكون من الصعب جدًّا أن يحرم من الدخول إلى البيت والخلوة بالمرأة وما أشبه ذلك، فمن أجل هذه الحاجة الشديدة ووجود السبب المقتضي لها قال النبي صلى الله عليه وسلم:"أرضعيه تحرمي عليه" وبهذا تجتمع الأدلة ونسلم من القول بأن إرضاع الكبير لمطلق الحاجة جائز ومثبت للحكم.

ومن فوائد هذا الحديث: أولًا أنه قد تقرر عندهم أن إرضاع الكبير لا أثر له، وجه الدلالة: أنها جاءت تشتكي الحال التي هي عليها، ولو كان مقررًا عندهم أن رضاع الكبير كرضاع الصغير ما سألت.

ومن فوائد الحديث: جواز مخاطبة المرأة وأن كلامها مع الرجل ليس بمحرم، لأن سهلة

ص: 148

خاطبت النبي صلى الله عليه وسلم وخاطبها لكن هذا مشروط بما لم تكن فتنة فإن كان فتنة فإن الأدلة الأخرى تدل على منع ذلك وإذا قلنا بجواز مخاطبة المرأة للرجل فهل هو على إطلاقه؟ لا بل عند الحاجة، وشرط آخر ألا تخضع بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض، أما مع عدم الحاجة فإن المخاطبة سبب للفتنة فتجتنب وأما الخضوع فإنه محرم لأنه وسيلة لطمع من في قلبه مرض.

ومن فوائد الحديث: حرص الصحابة- رضي الله عنهم على تعلم العلم رجالا ونساءً وجه ذلك أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه القضية.

ومن فوائد الحديث: أن صوت المرأة ليس بعورة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينهها عن ذلك.

ومن فوائد الحديث: جواز إرضاع الكبير وأنه، مؤثر لقوله:"أرضعيه تحرمي عليه".

ومن فوائد الحديث: أن ارتكاب المحرم لغيره إذا دعت الحاجة إليه فلا بأس لقوله: "أرضعيه" فإنه قبل أن يكون ولدًا لها لا يحل له أن يمس ثديها مثلًا، وهنا إذا أرادت الرضاعة فلا بد أن يمس ثديها ويرضع منه لكن للحاجة جاز فهذا وسيلة لأمر يحتاج إليه وأصل تحريم مس المرأة أنه وسيلة إلى الفاحشة والزنا وما حرِّم تحريم الوسائل فإن القاعدة عند أهل العلم أنه يباح للحاجة ونظير ذلك من بعض الوجوه: إذا أصاب المخرم طيبًا فلا حرج عليه أن يمسه من أجل إزالته، ومن ذلك أيضًا أن الإنسان يمس الخبث في الاستنجاء بيده من أجل إزالته، ومن ذلك أيضًا أن الغاصب يخرج من الأرض المغصوبة فيمشي فيها من وسطها إلى طرفها وهو مشي محرم لأنه في غير ملكه لكن من أجل التخلص من هذا فالتخلص من الشيء المحرم إذا سار الإنسان فيه فإنه لا يعتبر محرمًا؛ لأنه للخلاص منه، وكذلك ما حرِّم تحريم الوسائل فإنه تبيحه الحاجة.

ومن فوائد الحديث: أن إرضاع الكبير مؤثر لقوله صلى الله عليه وسلم: "أرضعيه تحرمي عليه" وهذه المسألة اختلف فيها أهل العلم على ثلاثة أقوال: القول الأول: أنه لا عبرة برضاع الكبير، والقول الثاني: أنه معتبر والقول الثالث: أنه معتبر عند الحاجة إليه لا إذا لم يكن هناك حاجة، أما الذين قالوا: إنه مؤثر فاحتجُّوا بهذا الحديث: "أرضعيه تحرمي عليه" مع أنها تقول: إنه بلغ ما يبلغ الرجال واستدلوا أيضًا بعموم قوله تعالى: {وأمهاتكم الاتي أرضعناكم} وهذا مطلق لم يقيد بزمن ولا بحال فيكون الإرضاع مؤثرًا مطلقًا وأما القائلون بأنه لا يؤثر ولا عبرة به فاستدلوا بأدلة منها قول النبي صلى الله عليه وسلم، "إنما الرضاعة من المجاعة" وسبق معنى الحديث، ومنها الأحاديث الآتية:"لا رضاع إلا ما أنشز العظم"، وكان قبل الفطام ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والدخول

ص: 149

على النساء"، قالوا: أرأيت يا رسول الله الحمو؟ قال: "الحمو الموت"، ولم يقال: الحمو ترضعه المرأة حتى يكون محرمًا لها مع أن الحاجة داعية إلى أن ترضعه ليدخل البيت ويسلم من الشر، وحينئذٍ تثبت دعواهم أنه لا يؤثر رضاع الكبير، لكن يحتاجون إلى الجواب عن أدلة القائلين بأنه مؤثر فأجابوا عن إطلاق الآية بأن هذه ليست أول آية أطلقت ثم قيدت بالسُّنة فقوله تعالى: {وءاتوا حقه يوم حصاده} مقيد بقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقته"، والأمثلة على هذا كثيرة والسُّنة تبين القرآن وتفسره وتقيد مطلقه وتخصص عامه، وليس هذا بغريب فالآية مطلقة ويكون المراد: أرضعنكم، أي: إرضاعًا محرمًا حسب ما تقتضيه السُّنة وأما حديث سالم فأجابوا عنه بأنه خاصٌّ بسالم وهذا مبني على جواز تخصيص الشخص لعينه قالوا: فهو خاص به فلا يلحق به غيره وأجاب بعضهم بأنه منسوخ بالأحاديث الدالة على أنه لا بد أن يكون الرضاع بالحولين أو في زمن المجاعة أو قيل أن يفطم، فقالوا: إن هذا منسوخ بها، وأما الذين قالوا: إنه جائز للحاجة فجمعوا بين الأدلة وقالوا: إن قضية سالم حاجة للضرورة فلهذا أرشدها النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن ترضعه ولم يرشد غيرها إلى ذلك؛ لأنه لا يوجد فيه مثل حاجة هذا الرجل إذ إن هذا كان كالابن لهم تمامًا قد تبناه أبو حذيفة وصار عندهم بمنزلة الولد ويشقُّ عليهم كثيرًا أن يحتجبوا منه، فلهذا أذن فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، وما أكثر الأحكام التي تثبت عند الحاجة التي تشيه الضرورة لقوم وتمنع من قوم آخرين لم يتحقق لهم مثل ذلك، وهذا الأخير اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وبه تجتمع الأدلة ونجيب عن دعوى التخصيص بأنه ليس هناك حكم يخص به أحد لعينه؛ لأن الناس عند الله سواء فلا يمكن أن يخص زيدًا دون عمرو لغير سبب معنوي يقتضي التخصيص. ولو تأملت هذا لوجدته لا يوجد في الشريعة من خصَّ بالحكم لعينه أي: لأنه فلان ابن فلان حتى الرجل الذي ضحى قبل الصلاة وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "شاتك شاة لحم"، قال: إن عندي عناقًا- يعني: ماعزا لها- أربعة أشهر أو نحو ذلك هي أحب إلينا من شاتين فأذن له أن يضحى بها وقال: "إنها لن تجزئ عن أحد بعدك"، والحديث في الصحيحين، وهذا يدل على أن الر جل خص بذلك بعينه، ولكن شيخ الإسلام أبى ذلك وقال هذا الرجل لا يخص بعينه بل يقال من كانت حاله مثل حاله فحكمه حكمه، فلو وجد رجل جاهل ضحى بأضحيته قبل الصلاة ولم يكن عنده ما يضحي إلا مثل هذه العناق قلنا إنها تجزئ عنك ولو كانت لم تبلغ السن أي: لم تكن ثنية، وهذا الذي قاله هو المتعين، حتى خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم لم يخصص بها لأنه محمد بن عبد الله لكنه خص بها لأنه رسول الله، فلو وصف لا يكون لغيره فلهذا خص بما يقتضيه هذا الوصف، وما قاله رحمه الله هو الراجح بمعنى: أنه لا تخصيص لأحد بعينه في حكم من أحكام الشريعة لأن الشريعة معلقة بالحكم والأسرار والمعاني والعلل لا بالأشخاص. وعلى هذا فنقول القول الراجح في هذا ما قاله شيخ الإسلام.

ص: 150

بقينا في الجواب عن دعوى النسخ دعوى النسخ لا تقبل إلا بشرطين الشرط الأول: عدم إمكان الجمع، والشرط الثاني: العلم بالتاريخ، فإذا أمكن الجمع فلا نسخ؛ لأن النسخ يستلزم إبطال أحد النصين، وإبطال النص ورد النص ليس بالأمر الهيِّن، يعني: كثير من العلماء- عفا الله عنهم- إذا عجزوا عن الجمع بين النصين قالوا: منسوخ، هذا لا يجوز؛ لأن حكمك بأن هذا الحكم منسوخ، يعني: رده وعدم اعتداده من الشرع فليس بالأمر الهين فلا يجوز أن يتساهل في ادعاء النسخ، نقول: النسخ لا يمكن دعوى قبوله إلا بشرطين أولًا: تعذر الجمع، والثاني: العلم بالمتأخر؛ لأن الناسخ هو المتأخر، فإذا أمكن الجمع حرم العدول عنه وإذا تعذر الجمع نظرنا إذا علمنا التاريخ قلنا المتأخر الناسخ، وإذا لم نعلم وجب علينا أن نتوقف، فنأخذ الحكم الذي لا يتعارض فيه النَّصَّان، وندع ما تعارض فيه النصان هذا هو الواجب اتباعه في نصوص الشرع وعلى هذا فتكون دعوى النسخ في حديث سالم مردودة غير مقبولة فيبقى عندنا يصح دعوى التخصيص لكن لا بشخصه لكن بحاله تخصيص بالحال لا بالشخص، فمن كانت حاله مثل حال هذه الرجل فإننا نفتيه بما أفتى به النبى صلى الله عليه وسلم بما أفتى به سهلة.

ومن فوائد الحديث: التكنية عن الشيء بلازمه؛ لقولها: "وقد بلغ ما يبلغ الرجال"، لم تقل: إنه

بلغ أن ينظر للمرأة بشهوة، تكنية طيبة وتفيد المعنى.

ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للمستفتي أن يذكر جميع أوصاف القضية من أجل أن يفتيه المفتي على بصيرة، مثل قولها:"معنا في بيتنا"؛ لأن هذا وصف يقتضي ترتب الحكم عليه، فلا ينبغي للمستفتي أن يأتي بالشيء المجمل، بل يأتي بالشيء البيَّن حتى يكون المفتي على بصيرة، ومن ذلك لو قال لك قائل: هلك هالك عن بنت وأخ وعم شقيق فهنا لا يجب عليك أن تسأل عن البنت لكن يجب أن تسأل عن الأخ إن قال لك لأم فما بقي بعد البنت للعام؟ لأن الأخ من الأم يسقط بالفرع الوارث، وإن قال: أخ لأب أو شقيق يأخذ الباقي ويسقط العام.

وهنا نسأل: هل يجب على المفتي أن يسأل عن الموانع؟ لا، يجب فلا يجب عليه أن يقول: هل البنت موافقة لأبيها في الدين هل يجب عليه أن يقول هل البنت رقيقة وأبوها حر؟ لا يجب لأن الأصل عدم المانع وكذلك لو جاء رجل يقول: إنه طلق زوجته هل يجب أن نقول بأي شرط ثبت أنها زوجته هل أنت تزوجتها بشهود وبولي وبرضا وبتعيين أولا يجب؟ لا يجب؛ لأن الأصل الصحة وثبوته على وجه شرعي، هل يجب أن يقول هل هي حائض أو لا؟ لا يجب؛ لأن هذا سؤال عن مانع اللهم إلا أن يكون المانع خفيًّا على الناس فهنا ربما نقول: نسأل هل هي حائض؟ هل طلقتها في طهر جامعتها فيه؟ لكن الأصل أنه يسأل عن المانع.

ص: 151

ومن فوائد الحديث: أن الرضاع لا يشترط له عدد لقوله: "أرضعيه" ولم يحدد، فلا يشترط له عدد، ولا يشترط له كيفية، بمعنى: أنه لا يشترط أن يروي فلا كمية ولا كيفية لقوله: "أرضعيه"، ولكن يقال: إن هذا الإطلاق مقيد بالأحاديث الأخرى الدالة على أنه لا بد من عدد، ففي الحديث الذي روته عائشة في أول الباب:"لا تحرم المصة والمصتان" فيكون هذا المطلق محمولا على المقيد.

فإن قال قائل: أفلا يمكن أن يكون مثل هذه الحال يكفي فيها رضاع واحد؟

قلنا: لا؛ لأن السنة يقيد بعضها بعضًا فلا بد من العدد المشترط.

ومن فوائد الحديث: أن من حرمت عليه المرأة فله أن ينظر إليها وأن إباحة النظر وتحريم النكاح متلازمان لقوله: "أرضعيه تحرمي عليه" ولم يقل أرضعيه يحل له النظر إليك، مع أن المشكلة ليس في أنها تحرم عليه لأنه لا يمكن أن يتزوجها وهي مع زوج المشكلة في النظر والخلوة، لكن لما كان تحريم النكاح يلزم منه إباحة النظر والخلوة قال:"أرضعيه تحرمي عليه" وكأن النبي صلى الله عليه وسلم عدل إلى هذا الحكم لأنه موافق للقرآن، قال الله تعالى:{حرمت عليّكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم الاتي أرضعناكم} [النساء: 23]. فعدل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذاك إلى هذا؛ لأنه موافق لكتاب الله عز وجل.

1086 -

وعنها رضي الله عنه: "أن أفلح أخا أبي المقعيس جاء يستأذن عليها بعد الحجّاب. قالت: فأبيت أن أذن له، فلمَّا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرته بالذي صنعته، فأمرني أن آذن له عليّ.

قوله: "أن أفلح أخا أبي القعيس" نريد إعراب أخا؟ هي أسم إن فهل نقول صفة، تدخل في إشكال لأن الصفة لا بد أن تكون مشتقة قال ابن مالك:

وانعت بمشقٍّ كصعبٍ وذرب

وشبهه كذا وذي والمنتسب

نقول: يكون بدلًا أو عطف بيان، قالت:"جاء يستأذن علي بعد الحجاب" وكان أخا لأبيها من الرضاع، وقولها:"بعد الحجاب"؛ لأن الحجاب في الشريعة الإسلامية له حالان، الحال الأولى: في أول الإسلام أو في أول الهجرة على الأصح كانت النساء لا تحتجب عن الرجال تكشف وجهها ويديها وقدميها وربما يرتفع الثوب إلى الساقين، المهم أنه ليس فيه حجاب ثم بعد ذلك أنزل الله الحجاب وفرضه على النساء، وبهذا نعلم أن كثيرا من الأحاديث التي ظاهرها

ص: 152

جواز كشف المرأة عين وجهها وكفيها واختلاطها بالرجال تكون محمولة على ما قبل الحجاب؛ لأن ما قبل الحجاب ست سنوات كلها قبل الحجاب، فالناس لا بد أن يعملوا أعمالًا في هذه المدة الطويلة، ولا بد أن تكون النساء مع الرجال، وأن تكون النساء غير محجبات، ثم بعد ذلك نزل الحجاب، ولكن هنا سؤال هل حجاب أمهات المؤمنين أخص من حجاب عموم النساء؟ الظاهر هذا أن حجابهن أخص، وأنهن يلزمن أن يحتجبن حتى بأشخاصهنَّ، ولهذا كنَّ إذا حججن يكنَّ في الهوادج، يعني: شيء مثل البيت يعمل من الخشب ويكسى بالثياب حتى لا ترى المرأة، وسيأتي مزيد بحث لهذه المسالة.

وقولها "يستأذن، أي: يطلب الإذن بالدخول بعد الحجاب، أي: بعد أن فرض الله الحجاب

على أمهات المؤمنين في قوله تعالى: {وإذا سألتموهن متاعا فسئلوهن من وراء حجاب} [الأحزاب: 53].

قالت: "فأبيت أن آذن له"، أبت يحتمل أن إباءها هذا لجهلها بالحال أو لجهلها بالحكم، لجهلها بالحال، يعني: لم تعلم أن أفلح أخا لأبيها أو لجهلها بالحكم لم تعلم أن الرضاع يحرم ما تحرمه الولادة، وأيا كان الاحتمالان فإنها معذورة بمنعه؛ لأن الأصل عدم الحل حتى يوجد الدليل على الحل، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرته بالذي صنعته، يعني: قالت إنه استأذن عليَّ وإني أبيت عليه، "وأمرني أن آذن له"، الأمر هنا ليس للاستحباب ولا للوجوب، ولكنه للإباحة لأن إخبارها إياه بما صنعت كأنها تستأذنه والأمر بعد الاستئذان للإباحة وليس للوجوب ولا للاستحباب كما لو قلت لشخص: جئت إلى بيته أأدخل؟ قال: نعم، أو قال: ادخل، فهنا ليس أمرًا على سبيل الإلزام ولا على سبيل الاختيار ولكنه أمر إباحة فأمرني أن آذن له، يعني: في الدخول عليها، وقال:"إنه عمك"، هذا تعليل للحكم، الحكم الإذن لها بالإذن له والتعليل "إنه عمك من الرضاع".

يستفاد من هذا الحديث عدة فوائد: أولًا. أنه لا دخول على بيت أحد إلا باستئذان لأن هذا هو عهد الصحابة لقولها جاء يستأذن، والاستئذان للدخول واجب لقول الله تعالى:{يا أيها الذين ءامنوا لا تدخلوا بيوتًا غير بيوتكم حتَّى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خبرٌ لكم لعلكم تذكرون} [النور: 27]. وقوله: {حتى تستأنسوا} أخص من قوله: حتى تستأذنوا، من وجه وأعم من وجه آخر فإن قوله: "حتى تستأنسوا} أي: يحصل لكم الأنس وعدم الوحشة، وهذا يقتضي أنك إذا أتيت إلى بيت قد دعاك صاحبه فوجدته مفتوحًا فادخل لأن دعوته إياك في هذا الوقت وفتح الباب يدل على الإذن، لكن دلالة حالية يستفاد من قوله:{حتى تستأنسوا} وفها قراءة {حتى تستأذنوا} فيكون ذكر الاستئذان أخص من الاستئناس؛ لأن الاستئناس قد يكون باستئذان وبغيره.

ص: 153

ومن فوائد الحديث: حزم عائشة رضي الله عنها وقوتها وعدم مبالاتها بما ترى أنه حق؛ لأنها أبت أن تخله ولم تستحي منه، والله لا يستحي من الحق.

ومن فوائد هذا الحديث: حسن خلق الرسول صلى الله عليه وسلم مع أهله وتحثه إليهم وإخبارهم بما صنعوا بعده على سبيل التبسط والأنس. وهكذا ينبغي للإنسان مع أهله أن يكون خيَّرًا، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي"، لا ينبغي للإنسان أن يكون عند أهله كالخشبة لا يتكلَّم ولا يكلَّم، وإنما ينبغي أن يستأنس معهم حتى لو فرض أنهم لم يتكلموا هيبة له أو لسبب من الأسباب فليفتحهم بالكلام من أجل إدخال السرور عليهم والأنس.

ومن فوائد الحديث: حرص عائشة رضي الله عنها على الفقه في الدين؛ لأن الذي يظهر أنها أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم بما صنعت من أجل أن تستلهمه الصواب في الحكم.

ومن فوائد الحديث/ حسن تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث قرن الحكم بالحكمة، فأمرها أن تأذن له وقال:"إنه عمك".

ومن فوائد الحديث: أن الرضاع تثبت به محرمية كمحرمية النسب، ولكن لا شك أن محرمية النسب أقوى؛ وذلك لأن محرمية النسب فيها التحريم وفيها الشفقة والحنان والعطف والغيرة، وهذا لا يوجد في الرضاع فإن كل أحد يعرف الفرق بين الأخ من الرضاع والأخ من النسب والأب من الرضاع والأب من النسب، وبناء على ذلك أو يتفرع على هذا النوع من الفائدة أننا لو لم نثق بالمحرم من الرضاع فللمرأة أن تمتنع منه؛ لأنه قد يوجد بعض الناس الذين بينهم وبين المرأة محرمية بالرضاع قد يوجد منه فتنة لا سيما إذا كان عنده إيمان ضعيف وفي المرأة داع قوي للفتنة كالجمال والتجمل فإن ذلك يخشى منه الشر فلو امتنعت فإنه لا حرج في هذه الحال.

عدد الرضعات التي يثبت بها التحريم:

1087 -

وعنها رضي الله عنها قالت "كان فيما أنزل من القرآن: عشر رضعاتٍ معلوماتٍ يحرِّمن، ثمَّ نسخن بخمسٍ معلوماتٍ، فتوفِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي فيما يقرأ من القرآن". رواه مسلمٌ.

قولها: "كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات"، "أنزل" من المنزل؟ الله، ولا مانع أن نبني الإنزال للمجهول وذلك للعلم بالفاعل، وقد قال الله تعالى في التاب العزيز:{شهر رمضان الَّذي أنزل فيه القرءان} (البقرة: 85). وقال: {إنَّا أنزلنه في ليلة القدر} (القدر: 1). فالذي أنزل

ص: 154

القرآن هو الله عز وجل {كتبٌ أنزلنه إليك مبركٌ} (ص: 29). والذي نزل به "جبريل" أفضل الملائكة وأقواهم وأشدهم أمانة وكلهم أمناء وأقوياء، لكن الخلق يتفاوتون نزل به جبريل على قلب النبي صلى الله عليه وسلم، قالت:"عشر رضعات معلومات يحرمن هل حسَّا أو حكما، بمعنى: أنه لابد أن نعلم أن العشر حصلت أو معلومات بالشرع؟ الاثنان بالشرع وبالحس، الشرع معلوم بما جاءت به السنة، ثم نسخن بخمس معلومات يعني: رفع حكمهن، بل ولفظهن أيضًا؛ لأننا لا نجد في القرآن شيئا في ذلك، فنسخ اللفظ ونسخ الحكم، "بخمس معلومات" يعني: يحرمن، "فتوفي رسول الله. إلخ".

"توفي" أي: قبض، والذي توفاه الله عز وجل وحذف الفاعل للعلم به، ويقال: توفي ولا يقال توفى كما قال تعالى: {الله يتوفَّى الأنفس حين موتها} (الزمر: 42){قل يتوفَّكم مَّلك الموت} (السجدة: 11). {حتَّى إذا جاء أحدكم الموت توفَّته رسلنا} (الأنعام: 61). فالإنسان متوفَّى وأما قول بعض الناس: توفى فلان، فهو ليس بصحيح وإن كان له وجه بعيد على أنه توفى بمعنى: استوفى أجله ورزقه، كما قال صلى الله عليه وسلم "لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها" لكن هذا بعيد.

قالت: توفي رسول الله وهي - أي: الخمس - فيما يقرأ من القرآن"، أي: أن الناس يقرءونها بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، هذا الحديث كما علمتهم خبر آحاد انفرد به مسلم عن البخاري، وفيه نوع من الغرابة أو النكارة في متنه، ولهذا طعن فيه كثير من المتأخرين وقالوا: هذا الحديث لا يصح، كيف ذلك؟ قالوا: كيف يثبت أنها من القرآن بعد وفاة الرسول ثم تنسخ ولا نسخ بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم؟ ! وكون مدلول الحديث هذا يطعن في صحته علة معللة؛ لأنه كيف يموت الرسول صلى الله عليه وسلم وهي فيما يقرأ من القرآن وقد قال الله تعالى: {إنَّا نحن نزَّلنا الذِّكر وإنَّا له لحفظون} (الحجر: 9). والآن ابحث في القرآن من أوله إلى آخره فلا تجد شيئا، إذن فالحديث منكر؛ لأنه مخالف لما يعلم بالضرورة من الدين، القرآن محفوظ وهذا الحديث مدلوله أن هذا الحكم باق وهي قراءتها في الكتاب العزيز حتى توفي الرسول صلى الله عليه وسلم ولا شك أن هذا علةٌ معلَّلةٌ مؤثرة، ولكن جمهور العلماء أجابوا عنها فقالوا: إن معنى قولها: "توفي وهي فيما يقرأ" بمعنى: الجملة حال إما أن النسخ كان متأخرًا ولم يعلم به كثير من الناس فصاروا يقرءون القرآن على أنها محكمة ثابتة فيه ولم يعلموا بالنسخ ثم بعد ذلك علم الناس، وعند جمع المصحف في عهد أبي بكر ثم في عهد عثمان أزيلت؛ لأنها منسوخة لفظا. فإن قال قائل نسخ اللفظ مشكل؛ لأن الله يقول:{إنَّا نحن نزَّلنا الذِّكر وإنَّا له لحفظون} فكيف ينسخ اللفظ؟ والجواب: أنه ينسخ اللفظ لأن الله قال: {وإنَّا له لحفظون} فحافظه هو الذي نسخه، وقد ثبت في الصحيحين من حديث عمر رضي الله عنه أنه قال معلنا على المنبر: كان فيما أنزل الله من القرآن آية الرجم فقرآناها ووعيناها

ص: 155

وحفظناها ورجم النبي صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده وهذا متفق عليه ولا إشكال فيه، فالذي قال:{إنَّا نحن نزَّلنا الذِّكر وإنَّا له لحفظون} هو الذي ينسخ ما يشاء {يمحوا الله ما يشاء ويثبت} (الرعد: 39). وحينئذٍ لا إشكال في نسخ اللفظ لن الخبر الذي معنا فيه أنها قالت: "توفي وهي فيما يقرأ من القرآن".

وأما نسخ اللفظ فمعهود، والجواب عند الجمهور كما قلنا هو: ان النسخ كان متأخرًا ولم يعلم به كثير من الناس، فكانوا يتلون الآية على أنها محكمة باقية ثم تبيَّن بعد ذلك أنها منسوخة.

في هذا الحديث فوائد منها: أولاً: إثبات نزول القرآن والنزول لا يون إلا من اعلى والقرآن نزل من عند الله فيدل ذلك على علو الله سبحانه وتعالى علو مكان ومكانة، ولهذا نقول: أن أقسام علو الله اثنان علو ذات وعلو صفة، أما علو الصفة فقد اتفق المسلمون الذين يستقبلون قبلتنا على ثبوته، وأما علو المكان فقد خالف فيه أهل البدع من الحلولية والمعطلة، فمنهم من قال: إن الله سبحانه وتعالى بذاته في كل مكان وليس بعال على الخلق، ومنهم من قال: إن الله لا يوصف بالعلو، بل قالوا: يجب أن تعتقد أنه - سبحانه - لا فوق ولا تحت ولا يمين ولا يسار ولا متصل ولا منفصل، ولا مباين ولا مداخل، فهؤلاء معطلون والآخرون ممثلون؛ لأنهم جعلوا الله مثل الخلق في كل مكان، أما أهل السنة والجماعة فيقولون:"إن الله فوق عرشه عال على كل شيء بائن من خلقه" ويقولون: إن دليلنا على ذلك الكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة، ويقولون: إنه حتى العجائز إذا دعون الله يرفعن أيديهن إلى السماء ولا نزاع في ذلك ولا يخالف في هذا إلا مهوِّس غير عاقل، أما علوُّ المكانة وهو علوُّ الصفة فهذا متفق عليه.

ومن فوائد بنفسها حتى نقول إنه كقوله تعالى: {وأنزلنا من السَّماء ماء} (المؤمنون: 18). او كقوله تعالى: {وأنزل لم من الأنعم ثمنية أزوج} (الزمر: 6). أو كقوله تعالى: {وأنزلنا الحديد فيه بأس شديدٌ} (الحديد: 25). لأن هذه الأشياء أعيان قائمة بنفسها مخلوقة، أما القرآن فإنه كلام صفة للمتكلم به وعلى هذا فإذا قيل نزل من عند الله لزم أن يكون كلامه وأنه صفة من صفاته غير مخلوق.

من فوائد الحديث: إثبات النسخ، والعلماء مجمعون على ثبوته من حيث الحقيقة والمعنى، لكنهم شذ منهم من قال: إنه لا نسخ في القرآن كأبي مسلم الأصبهاني فإنه قد قال: ليس في القرآن نسخ، وما جاء نسخا في القرآن فهو تخصيص ولا يصلح أن نسميه نسخًا؛ لأن النسخ إبطال لأي الحكمين؟ الأول والله عز وجل يقول:{لَّا يأتيه البطل من بين يديه ولا من خلفه} (فصّلت: 42) فلا نسخ في القرآن وهذا الذي ادعيتم أنه نسخ مثل قوله: {الئن خفَّف الله عنكم

} (الأنفال: 66). الآية.

ص: 156

هذا ليس بنسخ هذا تخصيص؛ لأن الحكم الأول ممتد إلى القيامة لو بقي، فإذا نسخ حكم فمعناه أننا خصصنا الزمن الذي بعد النسخ أخرجناه من الحم العام الأول فيكون هذا تخصيصًا لكنه يقر بالمعنى، يقر بأن الحكم قد يرفع بعد ثبوته فنقول له: لقد اتفقنا نحن وإياك على المعنى، والحقيقة أنت إن شئت سمه تخصيصًا ونحن نسميه نسخًا فالخلاف الآن في التسمية، ولذلك أجمع المسلمون على ثبوت النسخ من حيث المعنى والحكم لكن الصحيح ثبوت النسخ وأننا نسميه نسخًا لأن الله قال في الكتاب:{ما ننسخ من ءايةٍ أو ننسها نأت بخيرٍ منها أو مثلها} (البقرة: 106). وهذا صريح في أن النسخ جائز وإلا لم يكن للكلام فائدة، وأما استدلال أبي مسلم يقول:{لَّا يأتيه البطل من بين يديه ولا من خلفه} فنقول: لا يأتيه ما يبطله ومعلوم أن النسخ ليس إبطالاً، لكنه انتقال من حكم إلى حكم، حسب ما تقتضيه الحكمة والمصلحة كما سنبين إن شاء الله.

ومن فوائد الحديث: أن النسخ يكون باللفظ والحكم ويكون باللفظ فقط دون الحكم، فبالنسبة لعشر رضعات معلومات النسخ في اللفظ والحكم، وبالنسبة للخمس النسخ في اللفظ فقط أما الحكم فباق وقد يكون النسخ في الحكم دون اللفظ فمثلًا قوله تعالى:{يأيُّها النَّبيُّ حرِّض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صبرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفًا من الَّذين كفروا بأنَّهم قومٌ لا يفقهون} (الأنفال: 65). في هذه الآية أنه لا يتحقق الصبر إلا إذا ثبت الواحد لعشرة {إن يكن منكم عشرون صبرون يغلبوا مائتين} وأن من فر من تسعة وهو واحد فليس من الصابرين لكن الله قال: {الئن خفَّف الله عنكم وعلم أنَّ فيكم ضعفًا

ْ} الآية. فتبين الآن أن الآية الأولى نسخت حكمًا وبقي اللفظ.

ق يقول قائل: ما الفائدة من بقاء اللفظ وقد نسخ الحكم؟

نقول: له فوائد كثيرة منها: التعبد لله بتلاوة هذه الآية المنسوخة وزيادة الأجر بتلاوتها.

ومنها: التذكير بنعمة الله حيث خفف عن عباده وهذه توجب للإنسان كلما تلاها أن يشكر الله وبحمده على هذا، يوجد نسخ اللفظ دون الحكم مثل آية الرجم، وهذا الحديث ما فائدة نسخ اللفظ وبقاء الحكم؟ الفائدة التي هي من أهم ما يكون بيان فضل هذه الأمة وشدة امتثالها لأمر الله، ففي آية الرجم يحكم آخر الأمة بالرجم مع أنهم لا يجدون شيئا بين أيديهم في كتاب الله، واليهود رفعوا الحكم بالرجم مع أنه موجود في التوراة؛ ليتبين فضيلة هذه الأمة حيث إنها امتثلت لأمر لا تشاهده في كتابها، لكن ورثته من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم التي بينت أن هذه الآية منسوخة، وهنا تنبيه وهو أنكم ربما تجدون في عبارات السلف كلمة نسخ مثل: هذه الآية نسخت الآية وهم يريدون بذلك التخصيص، مثل قول بعضهم في قوله تعالى: {إلَّا على

ص: 157