الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في مثل هذه الحال متعذرة لأن الصائل لا يمكن أن يصول على شخص وحوله أحد فالبينة إما أن تكون متعذرة أو متعسرة جدًا فإقامة البينة في مثل هذه الحال بعيدة وقال بعض أهل العلم بل ينظر في القرائن فإذا كان المقتول الذي اتهم بالصول أهلاً لذلك لكونه معروفًا بالشر والفساد وكان القاتل الذي ادعى الدفاع عن نفسه رجلاً صالحًا أهلاً للصدق فإننا نصدقه ولكن هل تجري القسامة في هذه الحال أو بدون قسامة؟ يرى بعض العلماء أنه لابد من القسامة وذلك لأنه توجد قرينة على صدق دعوى القاتل فهذه كالعداوة بل إننا قلنا: إن الراجح في مسألة القسامة أنه كلما يغلب على الظن صدق المدعي تجرى فيه القسامة وعلى هذا فتجرى القسامة فيحلف المدعي خمسين يمينًا أنه صال عليه وقيل: لا حاجة للقسامة لأن القسامة يدعيها أولياء المقتول ليأخذوا القصاص وهنا الذي يدعي أنه قتل بالحق هو القاتل حتى يسلم من الضمان وهذا هو ظاهر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في أنه يقبل قولاً معروفًا بالصدق في هذه المسألة، إذا قال قائل: هل له أن يقتله مبادرة أي المصول عليه هل للمصول عليه أن يقتل الصائل مبادرة أو يدافعه بالأسهل فالأسهل؟ الواجب: أن يدافعه بالأسهل فالأسهل لأن المقصود كف شره إلا إذا خاف أن يبدره بالقتل فله أن يبدره بالقتل لكن إذا أمكنه أن يكسر يده التي أشهر بها السلام فليفعل لأن كسر اليد ممكن يحصل بها المقصود.
سقوط الضمان في الدفاع عن النفس:
1153 -
وعن عمران بن حصين رضى الله عنهما قال: "قاتل يعلى بن أمية رجلاً، فعضَّ أحدهما صاحبه، فانتزع يده من فمه فنزع ثنيَّته، فاختصما إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: أيعضُّ أحدكم أخاه كما يعضُّ الفحل؟ لا دية له". متفقٌ عليه، واللَّفظ لمسلم.
القصة معروفة "قاتل يعلى بن أمية رجلاً"، والمقاتلة: المشادة والإمساك بالأيدي، ولا يلزم أن يكون بسلاح فهي أعم من أن تكون بالسلاح وغيره قد تكون بالأيدي كالملاكمة وبالعصا وبالأحجار فهي أعم من السيف والسلاح؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل إذا أراد أن يجتاز بين المصلي قال:"فليدفعه فإن أبي فليقاتله" ومعلوم أن المصلي ليس معه سلاح يقاتل به هذا المار، ولكن المراد أن يدفعه بشدة، يقول:"فعض" بالضاد مضارعها يعض ق الله تعالى: (ويوم يعضَّ الظَّالم على يديه)[الفرقان: 27]. قال: "فانتزع يده من فمه" الفاعل في قوله: "فانتزع" يعود على المعضوض، وكذلك الضمير في "يده من فمه" يعود على العاض؛ يعني: أن المعضوض لم يتحمل، وعادة لا يمكن أن يتحمل فنزع ثنيته؛ أي: ثنية العاضّ، فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم الخصم هو المحاكم المجادل الذي يريد أن يخصم صاحبه؛ أي: أن يغلبه في
الخصومة فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "يعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل" هذه الجملة خبرية ولكنها إنشائية، حذفت منها همزة الاستفهام الإنكاري والتقدير: أيعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل، والمراد من الاستفهام هنا: الإنكار والتوبيخ، ولهذا جاءت بوجهين الوجه الأول: وجه يقتضي الحنو والرفق والرأفة وهو قوله: "أخاه" والوجه الثاني: يقتضي التنفير والبعد عن هذا العمل المشين وهو قوله: "كما يعض الفحل" بالحيوان، والفحل هو الذكور من البهائم، لكن المراد به: الذكور من الإبل؛ لأن عضه شديد كما سيذكره، قلنا: إن الجملة هنا خبرية حذف منها همزة الاستفهام، ونظير ذلك قوله تعالى:(أم اتخذوا إلهة من الأرض هم ينشرون" [الأنبياء: 21]. جملة هم ينشرون ليست صفة لآلهة ولكنها جملة استئنافية إنشائية حذفت منها همزة الاستفهام والتقديم أهم ينشرون حتى يكون آلهة والاستفهام هنا للإنكار ولهذا يحسن للقارئ إذا قرأ هذه الآية (أم اتخذوا إلهة من الأرض) يحسن به أن يقف حتى يتبين معنى الكلام وكثير من القراء وهم قراء قد يُشار إليهم بالبنان يغفلون مثل هذه الأمور تجده يقرأ هذه الآيات ويصل بعضها ببعض فيختلف المعنى اختلافًا كبيرًا ومثل ذلك أيضًا قوله تعالى: (أفمن كان مؤمنًا كمن كان فاسقًا)[السجدة: 18]. سمعنا قراء يقولوا: (كمن كان فاسقًا لا يستوون)، وهذا غلظ بل تقف (أفمن كان مؤمنًا كمن كان فاسقًا) يحتاج إلى جواب الآن، الجواب (لا يستوون) فالجملة بعدها جواب لها فكيف توصل بها وهي جواب؟ فمثل هذه المسائل ينبغي للإنسان أن يتفطن لها حتى إن شيخ الإسلام رحمه الله انتقد الذين حزبوا القرآن ولم يراعوا الجمل والقواطع أو الفواصل المعنوية (لقد جئت شيئًا نكرًا * قال ألم أقل لَّك إنك لن تستطيع معى صبرًا) [الكهف: 74، 75]. كثير من المصاحف يجعلون منتهى الجزء (لقد جئت شيئًا نكرًا) ما تم الكلام، الصحابة لا يمكن أن يحزبوا القرآن هذا التخريب فيبترون المعاني أبدًا، لابد أن يكون الحزب على منتهى الكلام وقد ذكر هذا رحمه الله في التفسير الذي خرج أخيرًا بأن تحزيب الصحابة للقرآن ليس كالتحزيب الموجود الآن، يعني: من كل وجه، بل كانوا يراعون الكلام والمعاني المتصل بعضها ببعض، حتى إني رأيت بعض المصاحف جعل نصف القرآن (وليتلطف) قال: هذا نصف القرآن ويبدأ النصف الثاني من (ولا يشعرن بكم أحدًا)[الكهف: 19]. فإن أرادوا بالمعنى فهذا غير صحيح وإن أرادوا بالحروف أو الكلمات فهذا يرجع إلى الإحصاء المهم.
على كل حال: أن قوله: "يعض أحدكم" الجملة خبرية لكنها إنشائية حذفت منها همزة الاستفهام الدالة على الإنكار وقوله: "كما يعض الفحل"، قلنا: إن هذا للتقبيح لينفر الإنسان من هذا الحال لأن الفحل عضه شديد والإبل من أكثر الحيوان حقدًا، ولا ننسى أبدًا أنه قد ذكر لنا
أن رجلاً كان هنا في عنيزة تُباع الإبل عند الجامع كان فيه متسع يُسمى المجلس وهو سوق للغنم وللإبل وكان مع الناس واقفًا ليشتري بعيرًا فإذا بجمل جاء منصبًا إلى دماغ هذا الرجل فأمسكه بفمه وضرب به الأرض وبرك عليه لولا أن الله سبحانه يسر أن عادة الناس الذين يبتاعون الإبل يكون معهم عصى جيدة، فضربوا هذا الجمل حتى مات وإلا لمات الرجل فقيل له ما السبب قال إني مرة من المرات أراد الناقة فمنعته عنها! فجعل هذا الجمل الحقد في قلبه حتى وجده، فالفحل عضه شديد، ثم قال:"لا دية له" الدية هي العوض المدفوع عن الجناية عن النفس الكاملة ولكن تطلق الدية حتى على دية الأعضاء والجروح تسمى دية وأما ما يدفع ضمانًا لغير النفس والأعضاء والجروح فإنه لا يسمى دية، فلو أن إنسانًا أتلف بعيرًا أو شاة أو بقورة لشخص ودفع قيمتها فإن ذلك لا يسمى دية ولكن يسمى قيمة.
هذا الحديث فيه فوائد: أولاً: أن الشيطان ينزغ بين بني آدم حتى يلحقهم بالبهائم لكون هذين الرجلين عض أحدهما الآخر كما بعض الفحل.
من فوائد الحديث: أن من أتلف شيئًا لدفع أذاه فلا ضمان عليه لأن هذا الرجل اتلف الثنية لدفع أذاه هي التي عضت يده، ولهذا لم يجعل فيها النبي صلى الله عليه وسلم صمانًا وهذه قاعدة من قواعد الفقه ذكرها ابن رجب في القواعد الفقهية قال من أتلف شيئًا لدفع أذاه لم يضمنه وإن أتلفه لدفع أذاه به ضمنه الدليل مثل هذا الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدر دية الثتية التي تلفت بانتزاع هذا الرجل يده من بينها وبين الثنية الأخرى لأن الرجل إنما أراد دفع الأذى ومن ذلك ما سبق في الحديث الذي قبله أن من صال عليك فدفعته فإن لم يندفع إلا بالقتل فقتلته فإنه ليس له دية لأنك أتلفته لدفع أذاه، أما إذا أتلفت الشيء لدفع أذاك به فإنك تضمنه ودليل ذلك قوله تعالى: (فمن كان منكم مريضًا أو به أذًى من رأسه ففديةٌ من صيامٍ أو صدقةٍ أو نسكٍ
…
) الآية نزلت في كعب بن عجرة حين جيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهه من رأسه لمرض كان به فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم أن يحلق رأسه وأن يفدي فهنا أتلف الشعر لدفع أذى الشعر أو لدفع أذاه به؟ الثاني؛ لأن الذي أذاه هو هوام رأسه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "لعلك أذاك هوام رأسك" والقمل عادة يكون تحت الشعر فإذن له أن يحلق رأسه وأن يفدي وهذا أتلف الشعر لدفع أذاه به أي بإتلاف الشعر ومن ذلك أيضًا لو أن شخصًا في سفينة محملة وفيها بضائع للناي وخيف الغرق فإننا نلقي من البضائع في البحر خوفًا من الغرق فهل تضمن هذه البضائع التي ألقياها في البحر؟ نعم، لأننا نريد أن ندفع الأذى بذلك فنضمن لصاحبها قيمتها أو مثلها حسب ما هو معروف في الفقه.