الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحاكم هو الرسول صلى الله عليه وسلم أما نحن فلا ندري من الصواب معه! وإن كنا نرجح هذا، لكن لو قيل لك: تشهد أن هذا حكم الله؟ قلت علم اليقين لا أشهد لكن هذا الذي يترجح عندي أما أن أقول هذا هو الشرع علم اليقين لا لأن استدلالي إنما هو بعمومات وتعلمون أن العام دلالته على جميع أفراده ظنية لجواز التخصيص فالمسألة نفهمها نظرية ونقول لا يقع ونفهمها تطبيقيَّا، نقول من طلق ملتزمًا بذلك ومضت مدة فإننا نمضيه لكن لو أن إنسانًا طلق الآن في حيض أو في طهر جامع فيه ثم جاء يسأل، قلنا: لا طلاق عليك ويجب أن تردها؛ لأن الطلاق غير واقع فهي زوجتك وفي عصمتك.
1029 -
وفي روايٍة أخرى: قال عبد الله بن عمر: "فردَّها عليَّ، ولم يرها شيئًا، وقال: إذا طهرت فليطلِّق أو ليمسك".
قوله: "وفي رواية أخرى" ظاهر سياق المؤلف أنها في مسلم؛ لأنه قال: "وفي رواية لمسلم" ثم قال: "وفي رواية أخرى قال عبد الله: فردها عليَّ ولم يرها شيئًا"، ما معنى "ولم يرها شيئًا"؟ أي: لم يرها طلاقًا شرعيًا ولم يحتسبها طلقة هذا هو ظاهر اللفظ وهو نظير وهو نظير قول أم عطية كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الطهر شيئًا أي: حيضًا معتبرًا وهكذا نقول في هذه المسألة فردها علي ولم يرها شيئًا وكلمة "ولم يرها شيئًا" مرفوعًا صريحًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقوله- فيما سبق- "وحسبت تطليقه" فاعلها مجهول لا ندري من الحاكم؟ ولهذا رجَّح شيخ الإسلام هذه الرواية على الرواية الأولى، قال: لأن الرواية الأولى لا تقاومها لكونها مجهولة، أو لكون الحاسب فيها مجهولًا بخلاف هذا.
اختلاف حكم الطلاق ثلاثة مجموعة في عهد عمر رضي الله عنه:
1030 -
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكٍر، وسنتين من خلافة عمر، طلاق الثَّلاث واحدةٌ، فقال عمر: إن النَّاس قد استعجلوا في أمرٍ كانت لهم فيه أناةٌ، فلو أمضيناه عليهم؟ فأمضاه عليهم". رواه مسلٌم.
قوله: "كان الطلاق على عهد رسول الله" هذه الصيغة يعدها علماء المصطلح من المرفوع حكمًا؛ لأنها لم تنسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم إنما نسبت إلى عهده فهي مرفوعة حكمًا، وخلافة أبي بكر سنتان وأشهر، "وسنتين من خلافة عمر" أضافها إلى خلافة أبي بكر تكون أربع سنوات وأشهرًا، "طلاق الثلاث واحدة" الوجه النحوي أن يقال طلاق الثلاث واحدة، وتكون طلاق الثلاث بدلًا من الطلاق أو عطف بيان، يعني: كان طلاق الثلاث واحدة وما نوع هذا الطلاق
الذي يكون واحدة هل هو قول الرجل: أنت طالق ثلاثا، أو قول الرجل: أنت طالق أنت طالق أنت طالق؟ الظاهر الثاني، يعني: طلاق الثلاث أنه قال: أنت طالق أنت طالق أنت طالق كما لو قال سبح الله ثلاثًا، يعني قال: سبحان الله ثلاثًا أو قال: سبحان الله سبحان الله سبحان الله؟ الثاني، فالظاهر أن الصيغة التي كانت معروفة هي أنت طالق أنت طالق أنت طالق فكان واحدًا وبعد ذلك تتابع الناس في هذا الأمر؛ لأن هذا الأمر كان محرمًا، ووجه التحريم: أن الإنسان إذا قال لزوجته: أنت طالق طلِّقت، فإذا قال: أنت طالق الثانية فقد طلقها لغير عدة كيف ذلك؟ لأنها الآن لم تشرع في عدة جديدة حيث إنها في عدة الطلاق، فإذا قال: أنت طالق الثالثة زاد الطين بلة، فصار متعجلًا لحدود الله؛ حيث قال:{فطلقوهن لعدتهن} وهذا طلقها الثانية لغير العدة ولهذا قال الفقهاء: أنت طالق وبعد أن حاضت حيضة قال: أنت طالق بنت على العدة الأولى ولم تستأنف العدة بالطلقة الثانية وعلى هذا فيكون قد طلقها لغير عدة فيكون عاصيًا لله، كما قال ابن عمر في الحديث السابق للرجل: "أما أنت فقد عصيت ربك
…
إلخ"، عمر رضي الله عنه كان حازما وكان يسوس الناس في الغالب بأشد الأمور رأى من حكمته أن يلزم الناس بما التزموا به وإن كان محرما، وله في ذلك إمام أي: إلزام بما التزموا به وإن كان منهيًّا عنه له فيه إمام وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم أين الإمامة؟ الإمامة في الوصال نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال في الصوم وهو أن يقرن بين يومين فلا يفطر بينهما- نهاهم عن الوصال ولكنهم ظنوا أن نهيه رأفة بهم ورحمة فاستمروا عليه فواصل بهم يومًا ويومًا ويومًا حتى رؤي الهلال فأفطروا فقال لو تأخر الهلال لزدتكم كالمنكل لهم مع أن الوصال أصله إما حرام أو مكروه لكنه جعلهم يستمرون إلزامًا لهم بما التزموا به، فعمر رضي الله عنه قال: هؤلاء القوم الذين عصوا الله في الطلاق الثلاث ليلزموا به أنفسهم نحن نعاملهم بما التزموا به عقوبة لهم فمنعهم من استرجاع زوجاتهم إذا طلِّقوا ثلاثًا منعهم وقال ممنوع، إذا علم الإنسان أنه سيمنع من الرجوع إذا طلق الثلاث فهل يطلق؟ لا، فكان إمضاء الطلاق في عهد عمر من باب السياسة وأن الناس إذا أكثروا فينبغي أن يمنعوا من الرجوع أما إذا كانت المسألة نادرة فيمكن لهم.
إذن في الحديث كان طلاق الثلاث واحدة فقال عمر "إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة" يعني: تؤدة، وتأخير كيف استعجلوا؟ هو إذا قال: أنت طالق أنت طالق أنت طالق، يعني: من الآن بت الطلاق هذا الذي يريد وكان له في ذلك أناة أن يطلق الآن مرة واحدة فيكون بالخيار إن شاء راجع وإن شاء لم يراجع هل أحد يجبره على أن يراجع؟ لا إذن لماذا يطلق ثلاثًا، يطلق واحدة ثم إن شاء راجع وإن شاء تركها إذا انقضت عدتها ملكت نفسها، فهو إذا طلق الثلاث ضيق على نفسه وكان له في الأمر سعة.
يقول: "فلو أمضيناه فأمضاه" ما معنى "أمضاه" يعني: ألزمهم بمقتضاه بأن تكون الثلاث مبينة للزوجة لا تحل له إلا بعد زوج، وهذه المسألة مما اختلف فيه الأمة، فأكثر الأمة- ومنهم الأئمة- على أن الطلاق الثلاث ثلاث تبين به المرأة، فإذا قال: أنت طالق ثلاثًا بانت به وإذا قال: أنت طالق أنت طالق أنت طالق بانت به، لماذا؟ قالوا لأن الرجل طلق بنفسه قال: أنت طالق أنت طالق أنت طالق فكيف تقول واحدة، أيضًا عمر له سنة متبوعة:"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين"، فيتبع في هذا ماذا نصنع بحديث ابن عباس؟ بعضهم طعن في سنده وبعضهم طعن في دلالته فأوله وقال إن الطلاق الثلاث واحدة في غير المدخول بها كيف لأن غير المدخول بها إذا قال: أنت طالق بانت لأنه ليس لها عدة {يأيها الذين أمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها} [الأحزاب: 49] فإذا لم يدخل عليها ولم يخل بها وقال: أنت طالق- عند آخر القاف- طلَّقت وبانت منه، فإذا قال ثلاثًا ورد على غير زوجة وكذلك إذا قال: أنت طالق أنت طالق أنت طالق بانت للأولى ولا يلحقها ما بعدها فتكون الطلقة الثانية والثالثة واردة على غير زوجة فلا تحسب فحملوه على غير المدخول بها وسبحان الله أن يكون هذا التأويل لو سألتك أيهما أكثر أن يطلق الناس بعد الدخول أو قبل الدخول؟ بعد الدخول إذن معناه: حملنا الحديث على المسائل النادرة وتركنا المسائل الكثيرة، نقول: هذه الصورة التي زعمتم أنها مدلول الحديث صورة نادرة فكيف تحملون الحديث عليها وما هذا إلا كحديث آخر حمل على النادر وهو حديث عائشة الثابت في الصحيحين "من مات وعليه صيام صام عنه وليه"؟ ! حمل عن المراد به النذر، يعني: من مات وعليه صيام نذر صام عنه وليه لو سألنا أيهما أكثر أن يكون على الإنسان صوم النذر أو صوم رمضان؟ صوم رمضان؛ لأن النذر متى يكون؟ ! ! ورمضان يتكرر كل سنة فسبحان الله! أن يحمل على النذر وهو الأمر النادر ويترك الأمر الكثير! لكن هذا سببه العلة التي أشرنا إليها فيما سبق وهي أن يعتقد ثم يستدل إذا اعتقد الإنسان ثم استدل فالله يكفيه عن التحريف والتأويل لكن إذا استدل ثم اعتقد هذا هو السليم ولهذا كان القول الصحيح في مسالة الطلاق والقول الصحيح في الصيام عن الميت أنه يكون في الصوم الفريضة الواجب بأصل الشرع والنذر وكذلك في الطلاق الثلاث الصحيح؛ لأنه لا يكون إلا واحدة وأن حمله على غير المدخول بها حمل للحديث على الأمر النادر وترك للأمر الكثير.
ذكرنا أن طلاق الثلاث على عهد النبي صلى الله عليه وسلم واحدة وأنه لا فرق بين أن يقول: أنت طالق ثلاثًا وأن يقول: أنت طالق أنت طالق أنت طالق وذلك لأن الطلقة الثانية تقع على رجعية فلا تكون طلاقًا للعدة ولهذا لا تستأنف العدة إذا طلقها ثانية بعد الطهر الأول مثلًا تستمر، فلا يكون هذا الطلاق شيئًا فيقع طلاقًا لغير العدة وقد قال الله تعالى:{فطلقوهن لعدتهن} وهي الآن في عدة، فلو فرض أن رجلًا طلق زوجته وحاضت مرتين وبقي عليها حيضة ثم طلقها فإنها لا تستأنف العدة بل إذا حاضت الحيضة الثالثة انتهت عدتها. إذن يكون الطلاق الراجح لطلاق سابق طلاقًا لغير العدة فلا يقع وهذا السر في أن الطلاق الثلاث يحسب واحدة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر ومعلوم أن الطلاق لغير العدة حرام فيقع مردودًا؛ ولهذا لما رأى عمر أن الناس لا ينتهون عنه إلا بأن يلزموا به ألزمهم به ومنه الإنسان من الرجوع إلى زوجته إذا طلقها ثلاثًا، وهذا الحديث صريح جدًا في أن الطلاق الثلاث إنما نفذ في عهد عمر، ولهذا قال بعض العلماء لما قيل له: إن القول بأن الطلاق الثلاث واحدة قال: هذا خلاف الإجماع فقيل له: بل الطلاق الثلاث إذا جعل ثلاثًا فهو خلاف الإجماع لأنه ما دام في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر وسنتين من خلافة عمر كل هذه المدة وطلاق الثلاث واحدة ليس فيه خلاف. إذن فهذا هو الإجماع القديم وهذا هو الذي يجب أن يعتد به، لكن لما اجتهد عمر هذا الاجتهاد تبعه الناس وصار أرباب المذاهب على هذا وبقي الخلاف في هذه المسألة غير معروف بين الناس حتى إن شيخ الإسلام رحمه الله أوذي من جهته إيذاء كبيرًا وحبس هو وتلميذه ابن القيم رحمه الله طيف به على جمل في الأسواق يشهر به لماذا يفتي بما يخالف رأي السلطان، ولكن الحق أحق أن يتَّبع، الجمهور ليس لهم جواب على هذا الحديث جوابًا يغني من الحق شيئًا؛ فمنهم من قال: إن هذا فيمن لم يدخل بها- يقصد حديث ابن عباس- لأنه إذا طلق من لم يدخل بها مرة بانت منه ليس لها عدة لأن الإنسان إذا طلَّق امرأة لم يدخل عليها وإنما عقد عليها ثم طلقها فإنه بمجرد ما يقول هي طالق تطلق وليس لها عدة تبين منه فإذا جاء الكلمة الثانية أنت طالق وردت على أجنبية لأنها بانت منه فقالوا هذا في غير المدخول بها وهذا في الحقيقة حمل مستكره لأننا لو سئلنا أيهما أكثر الطلاق قبل الدخول أو بعد الدخول؟ بعد الدخول كيف نحمل الحديث على المسألة النادرة القليلة ونوع المسألة الكثيرة؟ ! هذا حمل مستكره وهو إلى التحريف أقرب منه إلى التأويل وقال آخرون: بأن هذا الحديث فيما إذا قصد المطلق بالجملة الثانية التأكيد؛ لأنه إذا قال: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، وقال: أردت التوكيد لم يقع إلا واحدًا، فقالوا: إنهم كانوا يريدون بذلك التوكيد في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وزمن أبي بكر وسنتين في خلافة عمر فلما ساءت نيات الناس وصاروا يريدون التأسيس
ويدعون أنهم أرادوا التوكيد أمضاه عمر لسوء المقاصد والنيات وهذا أيضًا تأويل مستكره؛ لأن عمر لم يقل: أرى الناس قد فسدت نياتهم فكانوا يدعون التوكيد بما يريدون به التأسيس بل قال: "أراهم استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة" فيكون هذا التأويل تأويلًا باردًا لا فائدة منه، ونحن وأنتم إلى الآن نقول: إن من أراد توكيد الجملة الأولى بالثانية لم تقع عليه الثانية، لأن المؤكد هو المؤكد، فالجملة واحدة ولا إشكال في هذا، فتبين بهذا أن رد الجمهور لهذا الحديث لا وجه له، وأنه لا يقع الطلاق الثلاث إلا واحدة وأنه لا فرق بين قوله: أنت طالق ثلاثًا وقوله: أنت طالق أنت طالق أنت طالق؛ وذلك لأن الجملة الثانية تقع لغير العدة فتكون مردودة وهذا وجه جعل الثلاث واحدة، لو قال المطلق: أنا أردت الثانية هل تقع عليه الثانية؟ على القول الذي رجعنا لا تقع، أما إذا لم يرد الثانية وإنما قالها توكيدًا أو إحجامًا ظن أن الزوجة لم تسمع فهذا ليس فيه إشكال.
يستفاد من هذا الحديث فوائد: منها: وقوع الطلاق الثلاث يعني: أنه طلاق معتبر لكن هل يعتبر بوصفه أو يعتبر بأصله؟ يعتبر بأصله فيقع الطلاق لكن واحدة وقالت الرافضة: الطلاق الثلاث لا يقع أصلًا وأن الإنسان إذا طلق زوجته وقال: أنت طالق ثلاثًا لم يقع عليه شيء لا واحدة ولا ثلاثًا، وعلَّلوا ذلك بأن هذا الطلاق منهي عنه والمنهي عنه يكون مردودًا، أرأيتم لو باع صاعًا من البرِّ بصاعين من البرِّ هل تقولون ببطلان الزيادة وهي الصاع أو ببطلان البيع كله؟ الثاني قالوا فهذا أيضًا كذلك لا تبطلوا الثلاث فقط أبطلوا الكل؛ لأنه وقع على غير ما أمر الله به ورسوله فيكون مردودًا:"من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد"، والتحريم في الوصف وأنتم تجعلون ما عاد على الوصف كالذي عاد على الأصل وحينئذ يلزمكم أن تقولوا بآن الطلاق الثلاث غير واقع أصلًا، الحجة قوية لكن لا حجة تصادم النص، فحديث ابن عباس صريح بأنه يقع واحدة فيلغي الوصف ويبقي الأصل وإذا كان عندنا نص في المسالة بطل القياس فكم تبين لنا الآن من قول؟ ثلاثة أقوال، الرابع: أن هذا في غير المدخول بها الطلاق الثلاث يقع واحدة في غير المدخول بها ويقع ثلاثًا في المدخول بها لكن هذا لا يخرج عن قول الجمهور؛ لأن غير المدخول بها تبين بالأول ويقع ما بعده على أجنبية فهو بمعنى القول الأول وإن كان بعضهم يجعله قولًا، فعلى كل حال: نحن نقول: إن القول الراجح الذي دلت عليه السنة هو اعتبار الأصل وإلغاء الوصف فيعتبر الطلاق أصله ويلغي وصفه وهو الثلاث إذا قال: أنت طالق ثلاثًا أو يلغي ما بعد الجملة الأولى لأنه وقع على غير ما أمر الله به ورسوله فيلغي.
ومن فوائد الحديث: أن الطلاق الثلاث يكون واحدة سواء وقع بلفظ: أنت طالق أنت طالق أنت طالق أو بلفظ: أنت طالق ثلاثًا؛ لقوله: كان طلاق الثلاث واحدة.
ومن فوائد الحديث: أن كون الطلاق الثلاث لو ادعى مدعٍ أنه إجماع قديم لكان قوله صحيحًا متوجهًا؛ لأنه مضى عليه عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر وسنتين من خلافة عمر.
ومن فوائد الحديث: أن لولي الأمر أن يعذر بحرمان الإنسان ما يستحق، كما أن له أن يعذر بإيقاع العقوبة على من يستحق فهنا عذرهم عمر بمنعهم مما يستحقون، والذي يستحقونه المراجعة بالطلاق الثلاث، لكن منعهم لئلا يستعجلوا في أمر فيه أناة.
ومن فوائد الحديث: أن إرداف الطلاق بالطلاق سفه واستعجال؛ لقوله: "استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة" والأناة عقل وحلم، وضدها العجلة والسفه، ووجه ذلك: أن الإنسان إذا طلق زوجته واحدة هل يجبر على إرجاعها؟ لا يجبر، بل يتركها حتى تنقضي عدتها، وحينئذ تبين منه ولا تطالبه لا بنفقة ولا بغيرها فأيهما أقرب إلى العقل أن يطلقها طلاقًا يكون له فيه أناة وخيار إن شاء راجع وإن شاء لم يراجع مع أن الأمر إليه أو أن يبت طلاقها حتى يحال بينه وبينها؟ الأول.
ومن فوائد الحديث: جواز إضافة الضمير إلى النفس بصيغة التعظيم لقوله: "أمضيناه"، ولم يقل أمضيته وهذا لا بأس به خلافًا لبعض الناس الذي يقول إن الرجل إذا قال رأينا كذا يكون متكبرًا معجبًا برأيه، بل أن يقول: رأي كذا، ورأينا كذا لا سيما إذا كان حاكمًا أو قاضيًا أو ما أشبه ذلك يعني: له كلمة، لكن يشترط شرط لا بد منه وهو: ألا يقول الحامل له على ذلك الإعجاب أو الكبرياء فإن كان الحامل على ذلك الإعجاب أو الكبرياء منع من إطلاق هذا اللفظ من أجل ألا يجره ذلك من الاستمرار على مما هو عليه من الكبرياء والإعجاب، ويقول إذا خاف هذا الشرط يقول رأى كذا لو أمضيت كذا حتى يهين نفسه التي شمخت وعلت لأن الإنسان على نفسه بصيرة وهو مؤتمن عليها وأن يرعاها حق رعايتها وأن يقودها إلى ما فيه الخير وإذا رأى من نفسه أنها تميل إلى شر وإلى فساد وجب عليه أن يكبح جماحها وليعلم أن النفس الأمارة بالسوء عدوة فإذا تغلب عليها فهو كانتصاره على عدوه يكون بعد ذلك له السيطرة التامة عليها يستطيع أن يوجهها التوجيه السليم ويبعدها عن المزالق وهذه المسألة يجب على أرباب السلوك الذين يريدون تهذيب نفوسهم وتطهيرها من سوء الأخلاق أن يكون لهم السيطرة عليها وإذا كانت لهم السيطرة عليها صارت النفوس بأيديهم كالعجينة بيد العاجن من اللين والطواعية، لكن الإنسان نفسه وما هي عليه فإنه في النهاية يعجز عن كبح جماحها؛ لأنها تسيطر عليه.
1031 -
وعن محمود بن لبيدٍ رضي الله عنه قال: "أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجلٍ طلق امرأته ثلاث تطليقاتٍ جميعًا، فقام غضبان ثمَّ قال: أيلعب بكتاب الله تعالى، وأنا بين أظهركم؟ ! حتَّى قام رجل فقال: يا رسول الله، ألا أقتله؟ "، رواه النسائيُّ ورواته موثَّقون.
قوله: "أخبر رسول الله" لم يعين المخبر فهو مجهول، ولكن هذا لا يضر لأنه لا يتعلق به حكم، الحكم بما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم والذي روى الحكم عن الرسول محمود بن لبيد.
وقوله: "عن رجل طلق امرأته" من هذا الرجل؟ غير معلوم، وهل يضرا جهله؟ لا، لأنه لا يتعلق بمعرفته حكم فجهله غير ضار، يوجد بعض الناس من المحدثين وغيرهم من يتعب نفسه في معرفة هؤلاء المبهمين، ولكن هذا لا داعي له؛ لأنه يشغله عما هو أهم، صحيح أن المبهم من الرواة تجب العناية به لماذا؟ لأنه يترتب على علمه قبول الخبر ا، رده، لكن رجل وقعت عليه المسألة فيذكر مبهمًا ليس لنا كبير أهمية في أن نعرف هذا الرجل، وربما يكون الراوي تعهد إبهامه خصوصًا إذا كان الشيء مما ينتقد وينكر فإنهم قد يبهمونه سرًا عليه، يقول:"طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعًا" لا يكون الطلاق إلا بجملة أنت طالق، فإذا كانت ثلاث فمعناه: أنه لا على أنه قال: أنت طالق ثلاثًا، بل أنا في شك هل هذه الصيغة توجد في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أم لا؟ أنت طالق ثلاثًا؛ لأنه مثلًا إذا قالوها- أي: هذه الصيغة: "ثلاثًا"- فإنما يقصدون بها المكرر باللفظ نفسه، مثل:"ألا وشهادة الزور ألا وشهادة الزور ألا وشهادة الزور قالها ثلاثًا" هل معناه: أن الرسول قال ألا وشهادة الزور ثلاثًا؟ لا، المعنى: أنه قال ألا وشهادة الزور ألا وشهادة الزور ألا وشهادة الزور هكذا إذا جاءت الصيغة في الحديث طلقها ثلاثا لا شك أنه يراد بها أنه قال أنت طالق أنت طالق أنت طالق؛ لأن الذي يقع به الطلاق هي الجملة التامة لا الصيغة أنت طالق ثلاثا فعلى هذا نقول معنى ثلاث تطليقات جميعًا أنه قال: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، لكن جمع بعضها إلى بعض "فقام" أي: النبي صلى الله عليه وسلم "غضبان" والغضب وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم بأدق وصف حيث قال: "إنه جمرة يلقيها الشيطان في قلب ابن آدم"، والقلب منه يظهر الدم، ولهذا تنتفخ أوداجه، يعني: عروقه المحيطة بالحلقوم، ومن الناس من تحمر
عيناه وتمتلئ دمًا، ومن الناس من [يقف] شعره، ومن الناس من يكفهر وجهه حتى يكاد يتفجر من الغضب؛ لأن هذه الجمرة جعلت الدم يغلي كما يغلي الطعام في القدر، هذا هو الغضب، والغضب صفة كسبية وصفة غريزية، غريزية يعني: أن بعض الناس يخلق سريع الغضب وبعض الناس يتكلف سريعة الغضب يحب أن يغضب؛ ولذلك تجده إذا فعل ما يغضبه أحيانًا يغضب وأحيانًا لا يغضب فهو أحيانًا يغضب ليري الولد الذي أساء معاملته أنه قادر على الانتقام منه فيغضب، وأحيانًا لا يغضب ومع ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال له رجل:"أوصني"، قال:"لا تغضب"، والنبي صلى الله عليه وسلم يوصي كل إنسان بما يليق بحاله فكأن هذا الرجل معلوم أنه سريع الغضب فلهذا أوصاه النبي صلى الله عليه وسلم بترك الغضب، هل المعنى لا يعتريك الغضب أو لا تنفذ الغضب؟ الثاني؛ لأن الأول قد لا يكون للإنسان فيه حيلة فلا يستطيع، لكن الثاني هو المراد يعني وطن نفسك على ألا تغضب وإذا غضبت فلا تنفذ، بعض الناس يغضب يكسر الأواني ويطلق الزوجات، وربما يحلف أيمان على ألا يفعل شيئًا وهو محتاج إليه ثم إذا أفاق ندم ندامة عظيمة وجاء يسأل: أنا فعلت أنا فعلت ثم يكون نادمًا على ما فعل ولكن ما هو الطريق إلى أن نكف هذا الغضب؟ أولًا: أن يستعيذ بالله من الشيطان، بعض الناس يقول: صل على النبي، أو قل: لا إله إلا الله، كل هذا طيب لكن الكلمة التي قالها النبي صلى الله عليه وسلم حين ذكر له غضب رجل قال: إني أعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد لو قال أعوذ بالله من شر الشيطان أحسن، ومنها: أن يتوضأ فالأول دواء معنوي والثاني دواء حسي معنوي لأنك إذا توضأت بردت أعضاؤك وبردت نفسك، ومنها كان قائما فليجلس، وإذا كان جلس فليضطجع؛ لأن تغير الحال توجب زوال الحال الأولى، ومنها مجرب لكنه لم تأت به السنة فيما أعلم أن ينصرف عن المكان؛ لأنه إذا انصرف أفاق ولم ينفذ ما يقتضيه غضبه؛ ولهذا نجد الناس رأوا شخصين يتخاصمان وكل واحد منهما غاضب على الآخر تراهم يمسكون بأحدهما ثم يسحبونه يذهبون به إلى مكان آخر، فعلى كل حال أهم شيء أن الإنسان لا يغض ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يغضب انتقامًا لنفسه وإنما يغضب إذا انتهكت حرمات الله؛ ولهذا قام هنا غضبان ثم قال: "أيلعب بكتاب الله وأنا بين
أظهركم؟ " الاستفهام هنا للإنكار والتعجب أما الإنكار فإنه ينكر على كل من لعب بكتاب الله، وأما التعجب فالإنسان يتعجب كيف يلعب بكتاب الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ينزل عليه الوحي بين أظهركم؟ ! هذه حالة غريبة تدعو للعجب وقوله: "بكتاب الله" يعني: القرآن ووجه كونه لعبًا بالقرآن أن الله قال: {الطلاق مرتان} أي: مرة بعد مرة والجملة خبرية لكن معناها الأمر، يعني: طلقوا مرة بعد مرة لا تطلقوا مرات متتابعة، بل مرة ثم إذا نكاح أو رجعة طلقوا مرة ثانية ثم إذا حصل نكاح أو رجعة طلقوا مرة ثالثة فإن طلقها فلا تحل له من بعد فالله عز وجل قال: {الطلاق مرتان} هذا شأنه شرعًا، وهذا ما أمر به الله عز وجل فإذا جاء شخص وقال: أنت طالق أنت طالق أنت طالق هل جعل الطلاق مرتين؟ لا؛ ولهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا لعبًا بكتاب الله فقال: "أيلعب
…
الخ"، الجملة حالية؛ يعني: والحال أني بين أظهركم فهذا استفهام إنكار وتوبيخ، يعني: إذا كان هذا والرسول صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم فكيف إذا مات، يكون أشد ولذلك كانت المخالفة في عهد الصحابة أشد من المخالفة فيمن بعدهم؛ لأنهم شاهدوا الرسول؛ ولأن الشريعة مبنية على امتثاله وعلى انقياده ولهذا غضب النبي صلى الله عليه وسلم حين أمرهم أي: أمر الذين أتوا بالحج والعمرة أو أفردوا الحج ولم يسوقوا الهدي أمرهم أن يجعلوها عمرة، ولكنهم تكلموا مع النبي صلى الله عليه وسلم بشأن ذلك لأنهم كانوا لا يعرفون العمرة في أشهر الحج حتى غضب صلى الله عليه وسلم فكان واجبًا على الصحابة أن ينفذوا ما أمرهم به من أجل أن تتقرر السنة لأنهم لو لم يمتثلوا- وحاشاهم من ذلك- لكان من بعدهم من باب أولى ألا يمتثل، ولهذا كان واجبًا على الصحابة الذين جابههم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك من أجل أن تثبت السنة، ولهذا سئل أبو ذر هل هي لكم خاصة أو عامة؟ ، قال: بل لنا خاصة، ويحمل كلامه على أن المراد بقوله- بل لنا خاصة يعني: الوجوب لئلا يعارض قول النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله سراقة بن مالك: ألعامنا هذا أم لأبد؟ قال: بل لا بد الأبد، وهذا ما ذهب، وهذا ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو أحسن مما ذهب إليه تلميذه ابن القيم بوجوب حج القران أو الإفراد لمن لم يكن معه هدي، فإن كلام شيخ الإسلام أقعد وأقرب للصواب وأجمع بين سنة الرسول وسنة الخلفاء الراشدين من بعده كأبي بكر وعمر، وليس في هذا مخالفة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم والموفق من وفقه الله تعالى للفقه في الدين دون أن يأخذ بظواهر الأخبار؛ لأن الشريعة كاملة لها قواعد ومعان عظيمة، ترجع إليها، فإذا وفق
الإنسان للربط بين ظواهر النصوص والمعاني العظيمة الجليلة فإنه يكون على خير كثير؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين" هذا في غير ما طريقه الخبر المحض كأسماء الله وصفاته واليوم الآخر فهذا يجب الأخذ بظاهرة؛ لأنه خبر محض كأسماء الله وصفاته واليوم الآخر فهذا يجب الأخذ بظاهرة؛ لأنه خبر محض لا مجال للعقل فيه المهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم غضب على هذا الرجل وقال: "أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟ " لشدة هذا في عهده؛ لأنه إذا وقع اللعب بكتاب الله في عهده ففيما بعده من باب أولى.
"حتى قام رجل فقال: يا رسول الله، ألا أقتله؟ " لما رأى من غضب النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: "أيلعب بكتاب الله
…
الخ" فإن من لعب بكتاب الله اتخذه هزوًا ولعبًا فهو كافر كما قال الله- تبارك وتعالى: {ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وءايته ورسوله كنتم تستهزءون* لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} [التوبة: 65، 66].
هذا الحديث يدل على فوائد: منها: جواز الإخبار بالأمر المنكر؛ ليتبين الحكم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على الذي أخبره بفعل هذا الرجل.
ومن فوائد الحديث: تحريم الطلاق الثلاث في مجلس واحد؛ لقوله: "أيلعب بكتاب الله
…
الخ"، واتفق العلماء على جواز الطلقة الواحدة وسموها طلاق سنة، واختلفوا في الطلقتين جميعًا هل هما مكروهتان أم هما محرمتان؟ والصحيح أنهما محرمتان وأنه لا يجوز للإنسان أن يجمع بين طلقتين لزوجته فيقول مثلًا: أنت طالق أنت طالق، كما لا يجوز أن يقول: أنت طالق أنت طالق فهو يريد أن يقع منه طلقتان في آن واحد فلا يبقى له إلا طلقة واحدة وأما الذي يقول: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، فقد صرم حبال الوصل بينه وبين زوجته مع استغنائه عن ذلك والصحيح انه حرام أي أنه يحرم على الإنسان أن يقول لزوجته: أنت طالق أنت طالق؛ فإن قال ذلك لم يقع إلا واحدة على القول الصحيح ولا إشكال في هذا بعض الناس قال: كيف نقول لا يقع إلا واحدة؟ الخلاف في الثلاث، نقول إنما لم يحصل خلاف في الثنتين لأن له أن يراجع حتى لو وقع الطلاق طلقتين فله أن يراجع فلذلك لا يوجد خلاف إنما صار الخلاف والأخذ والرد في الطلاق الذي تبين به المرأة.
إذن الطلاق ثلاثة أقسام: طلاق سنة وهو الواحدة في طهر لم يجامعها فيه أو في حمل
الحامل طلاقها طلاق سنة، الطاهرة طهرًا لم يجامعها فيه طلاقها طلاق سنة، التي لا تحيض طلاقها طلاق سنة، الصغيرة التي لم يأتها الحيض طلاقها طلاق سنة، التي لم يدخل بها طلاقها طلاق سنة هذه خمس كلها طلاق سنة وكذلك أيضًا النفساء فإن طلاقها طلاق سنة؛ لأنه إذا طلقها فقد طلقها للعدة بخلاف الحائض؛ لأنه لو طلقها لم يطلقها للعدة لأنها تفوت عليها بقية الحيضة لا تحسب لها أما النفساء فإنها تشرع في العدة من حيث الطلاق؛ لأن النفاس لا يعتبر في العدة لا بد أن تحيض ثلاث حيض إذا جاءها الحيض، والغالب في النفساء أنه لا يأتيها الحيض إلا بعدة مدة؛ لأنها ترضع والمرضع لا يأتيها الحيض في الغالب، التي لم يدخل بها لماذا كان طلاقها طلاق سنة" لأنه لا عدة لها، والله يقول:{فطلقوهن لعدتهن} وهذه لا عدة عليها فيطلقها متى شاء، الحامل أيضًا يطلقها متى شاء حتى لو كان لم يغتسل من الجنابة منها فإنه يطلقها؛ لأن عدتها وضع الحمل وتبتدأ فورًا ما تنتظر، الصغيرة التي لم تحض أيضًا يطلقها ولو كان لم يغتسل من الجنابة منها؛ لأن عدتها بالأشهر وهي تبتدأ بالعدة من حين الطلاق، الآيسة من الحيض لكبر أو نقل رحم أو ما أشبه ذلك طلاقها طلاق سنة ولو بعد الجماع مباشرة؛ لأن عدتها بالأشهر وهي تشرع فيها من حين الطلاق، النفساء طلاقها طلاق سنة لأنها تشرع في العدة فورًا كالآية والصغيرة.
فإن قال قائل: كيف تجيب عن قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر: "مره فليطلقها طاهرًا أو حاملًا؟ ".
قلنا: مرداه طاهرًا من الحيض؛ لأن قوله "أو حاملًا" يدل على أنه ليس هذا نفاس، والحديث صريح بأنه طلقها في الحيض وصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم تغيظ لأنه طلقها لغير العدة والنفساء بالاتفاق تشرع في العدة من حين يطلق.
ومن فوائد الحديث: الغضب عند الموعظة لقوله: "فقام صلى الله عليه وسلم غضبان"، ولكن يشترط في الغضب ألا يكون شديدا بحيث لا يتصور ما يقول، فإن غضب غضبًا شديدًا بحيث لا يتصور ما يقول فيجب أن يتريث حتى يهدأ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان".
ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي الإعلان عن المنكر فور وقوعه بدون تأخير لأنه قال: "فقام"، والفاء على الترتيب والتعقيب وهذا هو الموافق للحكمة؛ لأن الإنسان إذا أخَّر
الشيء فربما ينساه وربما يحول بينه وبينه مانع يمنعه فالمبادرة هي الحكمة وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبادر بالشيء الذي يحتاج إلى التخلي منه فإنه لما بال الأعرابي في المسجد ماذا قال؟ "أريقوا على بوله سجلًا من ماء"، فورًا ولما جيء إليه بصبي فبال في حجره دعا بماء فأتبعه إياه ولم ينتظر يقول: ل اغسله إلا إذا أردت الصلاة ولما دعاه عتبان بن مالك إلى بيته ليصلي في مكان يتخذه عتبان مصلى فدخل وقد صنع له عتبان طعامًا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أين تريد أن أصلي قبل أن يأكل، لماذا؟ لأنه جاء لغرض فينبغي أن يبادر به، وهذا لا شك أنه من الحزم، وذكر عن الإمام أحمد رحمه الله أنه قال في الإنسان إذا وجد سعة فليحج ولا يؤخر فإن للتأخير آفات، وهذا هو الواقع، كل شيء يطلب منك فبادر به؛ لأن التأخير له آفات إما نسيان أو عجز أو مانع آخر.
ومن فوائد الحديث: الإنكار الشديد على من طلق ثلاث تطليقات متتابعة لقوله صلى الله عليه وسلم: "أيلعب بكتاب الله
…
الخ" وكما سمعتم أن التطليقتين أيضًا حرام، لأنه من اللعب بكتاب الله لأن الله يقول:{فطلقوهن لعدتهن} والطلقة الثانية الرادفة للأولى لا تعتبر طلقة للعدة.
ومن فوائد الحديث: شدة غيرة الصحابة- رضي الله عنهم فإنهم لما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم غضبان وقال: إن هذا لعب بكتاب الله استأذنوا في قتله؛ لأنهم لا يريدون أحدًا يلعب بكتاب الله أو يغضب رسول الله، ومن ذلك ما جرى لعمر بن الخطاب في قصة حاطب بن أبي بلتعة الذي كتب لقريش بأن النبي صلى الله عليه وسلم سيغزوهم وأطلع الله نبيه على ذلك حتى أدرك الكتاب وجيء به إلى المدينة، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم حاطبًا قال ما هذا؟ فأخبره بعذره فقام عمر فقال يا رسول الله! ألا أقتله فإنه قد نافق، قال: لا وما يدريك لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال: "اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"، وحاطب كان من أهل بدر.
ومن فوائد الحديث: نسبة القرآن إلى الله في قوله: "بكتاب الله" والقرآن لا شك أنه كلام الله عز وجل تكلم به حقيقة فسمعه جبريل، ثم ألقاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزل به على قلبه.
1032 -
وعن ابن عباس رضي الله عنهم قال: "طلق أبو ركانة أم ركانة. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم راجع امرأتك، فقال: إنا طلقَّتها ثلاثُا. قال: قد علمت، راجعها". رواه أبو داود.
1033 -
وفي لفظ لأحمد: "طلق أبو ركانة امرأته في مجلس واحد ثلاثًا، فحزن عليها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها واحدة". وفي سندهما ابن إسحاق، وفيه مقال.
ابن إسحاق صاحب السيرة وهو رحمه الله ممن عرف بالتدليس، والمدلس هو الذي يروي الحديث بلفظ يوهم السماع دون ممن يسمعه ممن نسبه إليه، فيقول مثلًا: عن فلان وهو ممن لم يسمعه منه لكن حدث به عنه فسقط الواسطة التي بينه وبين الشخص، ويقول: عن فلان، وقد ذكر أهل العلم بالحديث أن المدلس لا يقبل حديثه إلا صرح بالتحديث أو كان لا يرسل إلا عن ثقة، أو كان معروفًا بأنه لا يرسل، إلا إذا علم بصحة الواسطة أو بثقة الواسطة، مثل: ما يوجد في البخاري ومسلم عن قتادة عن أنس كثيرًا، مع أن قتادة كان معروفًا بالتدليس، لكنه في البخاري ومسلم تتبع وجد بأنه ليس فيه ما يوجب الرد والتضعيف، وابن إسحاق في نفسه مقبول الرواية لكن فيما ينسبه إلى غيره إن كان بلفظ التحديث فهو متصل ومقبول، وإن كان بغيره فإنه يخاف منه لكن هذين الحديثين لهما شاهد في صحيح مسلم عن ابن عباس وهو الحديث الأول: "كان الطلاق الثلاث واحدة
…
الخ". هنا يقول: "طلق أبو ركانة أم ركانة
…
الخ" قوله: "راجع امرأتك" يعني: ردها إلى عصمة النكاح، وقوله: "قد علمت" يعني: علمت أنك طلقتها ثلاثًا في مجلس واحد، ولولا علم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك لكان استفصل وقال هل هذه الثلاث متفرقات كل واحدة بعد رجعة أو لا؟ لأن لو جاءك رجل يستفتيك يقول طلقت امرأتي ثلاثًا ألي رجعة؟ يجب عليك ولو كنت ترى الثلاث واحدة يجب عليك أن تسأل هل هذه آخر ثلاث تطليقات أو أن طلقتها في مجلس واحد أو بكلمة واحدة؟ إن قال بالأول فهي لا تحل له وإن قال بالثاني فهي على القول الراجح تحل له ولهذا أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يراجعها دون أن يستفصل فقال: "إني طلقتها ثلاثًا قال قد علمت راجعها" واللفظ الثاني في رواية أحمد أنه طلق امرأته في مجلس واحد ثلاثًا يعني قال: أنت طالق أنت طالق أنت طالق، هذا هو معنى طلقها ثلاثًا، وليس معناه: أنه فقال أنت طالق ثلاثًا؛ لأن التطليق طلق فعل لا بد أن يستقل كل فعل بنفسه كما لو قلت: سبح الله ثلاثًا فليس معناه أنه: قال سبحان الله ثلاثًا بل معناه قال: سبحان الله سبحان الله سبحان الله، ثم قال: "فحزن عليها" يعني: ظنَّا منه أنها لا تحل له؛ لأنه طلقها ثلاثًا فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال إنها واحدة، وإذا كانت واحدة ارتفع الحزن لأن بإمكانه أن يراجعها.
ففي هذا الحديث فوائد: أنه كان المفتي على علم بالقضية تحتاج إلى تفصيل فإنه لا يجب عليه أن يستفصل لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالمراجعة وقال: "إني علمت أنك طلقت ثلاثًا".
ومن فوائده: أن الطلاق الثلاث يعتبر واحدة فله مراجعة الزوجة لقوله: "راجعها".
ومن فوائده: جواز مراجعة المستفتي لمن أفتاه حتى يتبين الأمر جليًا؛ ولهذا قال "إني طلقتها ثلاثًا"؛ لأنه لو أخذ بأمر النبي صلى الله عليه وسلم الأول لأخذها على أي صفة كانت أراد أن يستفصل ويتتبع وهذا من أمانة المستفتي أن يتثبت لأن بعض المستفتين إذا كان له هوى واستفتي، ولو كان في استفتائه إجمال يسكت ويأخذ بظاهر الفتوى، والواجب على المستفتي أن يكون أمينًا لأنه يستفتي لدينه فيخبر بكل الواقع على وجه التفصيل ليبقي إفتاء المفتي مبني على أساس.
ومن فوائد الحديث: وقوع الطلاق الثلاث لكنه واحدة خلافًا للرافضة الذين يقولون: إن الطلاق الثلاث لا يقع.
1034 -
وقد روى أبو داود من وجه آخر أحسن منه: "أن ركانة طلق امرأته سهمية ألبته، فقال: والله ما أردت بها إلا واحدة، فردها إليه النبي صلى الله عليه وسلم".
هذا أيضًا يختلف عن الأول: "طلق امرأته ألبته"، كلمة "ألبته" يعني: طلاق القطع الذي ليس بعده صلة؛ لأن معنى ألبته يعني: القطع، فمعنى "ألبته" أي: الطلاق الذي ليس به صلة، وهو طلاق البينونة، وأعلم أن الصحابة يطلقون ألبته على الطلاق الثلاث لماذا؟ لأنها تقطع الصلة بين الزوج وزوجته فقال: والله ما أردت بها إلا واحدة والظاهر أنه فهم من النبي صلى الله عليه وسلم أنه لن يردها إليه إذا اعتبر الطلاق ثلاث كل واحدة طلقة فحلف أنه لم يرد بها إلا واحدة وكيف يمكن أنه لا يريد إلا واحدة وقد كررها ثلاثًا؟ يكون هذا على وجه التوكيد، فإذا قال لزوجته: أنت طالق أنت طالق أنت طالق وقال: أنا أقصد التوكيد، ما أردت أن الثانية غير الأولى، فإنه يقبل حتى على المشهور من المذهب وتكون الطلقة واحدة.
فإن قال: أنت طالق وأنت طالق ثم أنت طالق وقال أردت التوكيد لا يصح لماذا؟ لوجود حرف العطف فإذا قال: أنت طال ثم أنت طلق ثم أنت طالق وقال أردت التوكيد نقول: أما توكيد الأولى بالثانية فلا يصح لوجود حرف العطف والثانية صورتها غير صورة الأولى والتوكيد
لا بد أن تكون الصورة الثانية هي صورة الأولى وإذا قال: أردت توكيد الثانية بالثالثة يصح لأنها واحدة أنت طالق ثم أنت طالق ثم أنت طالق فتقع طلقتان عن طلقتين وإذا قال: أنت طالق وأنت طالق ثم أنت طالق وقال أردت التوكيد لا يصح بكل الجمل؛ لأن الجملة الثانية تخالف الأولى لوجود الواو والثالثة تخالف لاختلاف حرف العطف، حرف العطف في الثانية الواو، في الثالثة ثم فلا يقبل التوكيد وهذا بناء على أن تكرار صيغة الطلاق يتعدد بها الطلاق أما على القول الصحيح فإنه حتى وإن قال: إني أردت بالثانية جملة جديدة تأسيسية لا توكيدية فإنه لا يقع إلا واحدة على القول الصحيح.
التحذير من الهزل بالطلاق:
1035 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثٌ جدُّهنَّ جدّ، وهزالهنَّ جدُّ: النكاح، والطَّلاق، والرَّجعة". رواه الأربعة إلا النَّسائيَّ، وصحَّحه الحاكم.
1036 -
وفي روايةٍ لابن عديٍّ من وجهٍ آخر ضعيفٍ: "الطَّلاق، والعتاق، والنّكاح". هذا الحديث بروايتين والحديث الأخير في حكم طلاق الهازل يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ثلاث جدهن وهزلهن جد""الجدُّ" بمعنى: الكلام المقصود الذي تكلم به المتكلم قاصدًا الكلام وقاصدًا المعنى، والهزل هو: الذي تكلم به المتكلم قاصدا الكلام ولكنه لم يقصد المعنى، أراد به الهزل أو يقال: تكلم به المتكلم قاصدًا اللفظ والمعنى لكن هزلا وهذه المسألة اختلف فيها العلماء كما سيأتي.
يقول: "النكاح" يعني عقده، فإذا قال الرجل لشخص يمزح معه زوجتك بنتي فقال: قبلت وكان عنده حضرة، المهم تمت الشروط فإن النكاح يكون صحيحًا منعقدًا.
الثاني: الطلاق وهو: حل قيد النكاح فالنكاح ربطه بعقده، والثاني حل العقد، الطلاق أيضًا هزله جد فلو كان الرجل يهازل زوجته ويمازحها وقال لها: أنت طالق فإنها تطلق؛ لأن هزل الطلاق جد.
والثالث: الرجعة وهي: ارتجاع الرجل زوجته في عدتها فإذا طلقها رجعيًا فراجعها يمزح فإن الرجعة تثبت؛ لأن هزلها جد، وإنما كانت هذه الثلاثة هزلها جد لخطرها وعظمها حتى لا يتلاعب أحد بها بخلاف البيع والإجارة والرهن والوقف وما أشبهها، فهذه أمرها أهون، لكن
هذه خطرها عظيم الطلاق والنكاح والرجعة لذلك جعل الشارع الهزل فيها جدًّا حتى لا يتلاعب الناس بها فإذا قال الهازل: أنا لم أقصد أن يقع الطلاق قلنا: لكنك قصدت الطلاق وإذا قال أنا لم أرد أن ينعقد النكاح قلنا: ولكنك أتيت بصيغة وكونه ينعقد أو لا ينعقد ليس إليك إنما هو إلى الله وكذلك الطلاق وأنت الآن أتيت بصيغته ونويته وكونه يقع أو لا يقع ليس إليك إنما هو إلى الله كذلك الرجعة لو راجع زوجته وقال: أنا ما أردت حقيقة الرجعة أنا أمزح، قلنا: ولكنك أردت الرجعة وكونها تحصل أو لا تحصل ليس إليك، وعلى هذا فيكون التفسير الصحيح للهزل أن الإنسان يريد اللفظ والمعنى، ولكنه أريد زوجتك أي: جعلتك صنفًا؛ لأن الزوج صنف كما قال تعالى: {وءاخر من شكله أزواج} [ص: 58]. كذلك الرجعة يقول: أنا ما أردت الرجعة إنما أردت أني رجعت في كلامي ولم أقصد أن ترجع على كل حال، فرق بين من تلفظ بالشيء لا يريد معناه ومن تلفظ به يريد معناه، لكن كان هازلًا فنقول: أنت الآن تكلمت بالطلاق مريدًا به الطلاق فيقع وكونك تقول: أنا لم أقصد الجد وإنما قصدت الهزل هذا ليس إليك.
فعلى هذا نقول في هذا الحديث دليل على أمور: أولًا: أن العقود لا تنعقد عن هزل أولًا: أن العقود لا تنعقد عن هزل إلا هذه الثلاثة، فلو باع الإنسان بيته على شخص يمزح فإن البيع لا ينعقد لو كان يمزح قال تبيع بيتك قال بيتي غال عندي قال: أنا أعطيك مليونًا يمزح عليه، قال: بعتك فهذا لا ينعقد به البيع؛ لأنه كان هازلًا، ولكن لو ادعى أحد المتعاقدين أنه هزل وادعى الآخر أنه جد فالقول قول مدعي الجد؛ لأن الأصل في العقود أنها جد إلا إذا قامت البينة على أنه هازل أو كانت القرينة قوية على أنه هازل فحينئذ لا ينعقد البيع.
كذلك في الإجارة صار يمزح معه فقال: أجرني بيتك، فقال: أجرته إياه بكذا وكذا، فقال: قبلت وهو يمزح، فإن الإجارة لا تنعقد؛ لأنها هزل ولكن لو اختلف المستأجر والمؤجر هل العقد هزل أو جد؟ فالقول قول من يقول: إنه جد لأنه الأصل إلا ببينة أو قرينة ظاهرة.
ومن فوائد الحديث: حسن تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم حيث يذكر أشياء أحيانا للتقسيم والحصر مثل قوله أربع لا تجوز في الأضاحي وقوله: "ثلاث جدهن" وقوله: "ثلاثة لا يكلمهم الله"، "سبعة يظلهم الله في ظله"، وأمثلة هذا كثيرة يحصرها النبي صلى الله عليه وسلم من أجل التقريب؛ لأن الشيء إذا عدد وحصر سهل حفظه وبعد نسيانه.
ومن فوائد الحديث: أن هذه الأمور الثلاثة في الجد والهزل وهي: النكاح والطلاق والرجعة، والحكمة من ذلك ما أشرنا إليه سابقًا وهو عظم هذه العقود وخطرها فجعل فيها الهزل كالجد، وهذا ما ذهب إليه أكثر العلماء.